مدن جزائرية... الإسمنت يقوّض الماضي ويشوّه الحاضر

20 ابريل 2017
"لم نحترم ذاكرة قائمة ولم نؤسّس لذاكرة مقبلة"(العربي الجديد)
+ الخط -

لم تعد المدينة الجزائرية تعاني من التمدد العشوائي فحسب، بل من تراجع مستوى الحياة المدنية كذلك، مع الإهمال الذي يطاول مرافقها ومعالمها التي كانت مشعّة خلال الحقبة الفرنسية والعقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني.

في الجزائر 48 محافظة تنقسم إلى 450 دائرة و1554 بلدية، ثلثاها في الشمال ويعود ثلاثة أرباعها إلى ما قبل الاستقلال الوطني لتتوسّع بعده. وتُنسب مدن عدّة إلى الحقبة التاريخية التي أنجزت فيها، حاملة الملامح المعمارية التي كانت طاغية يومها، بين رومانية وإسلامية وأندلسية وعثمانية وفرنسية.

لا تخلو مدينة من مدن الشريط الساحلي والقريبة منه، من موروث يعود إلى الحقبة الفرنسية (1830 - 1962) يشكّل قلبَها في العادة. فتحتفظ بالمباني نفسها حتى وإن تغيّرت وظيفتها اليوم، فيما تحتفظ تلك المدن وشوارعها الكبرى بأسمائها الفرنسية. وكثيراً ما تكون الأسماء لقدّيسين مسيحيين وقادة حربيين، على حساب الأسماء الجزائرية الأصلية أو الطارئة.

وكان الجزائريون قد سكنوا هذه المدن، بعدما اضطرّ ساكنوها الأوروبيون الذين كانوا يحتكرونها إلى الرحيل. وهي تضمّ مرافق أحيلت إلى الحياة العصرية، مثل المسرح والسينما والمدرسة والمستشفى ومحطة القطار والحانة والحديقة والميناء والمصنع والمتحف والسوق المسقوف، في تعارض واضح بين خصائصها المعمارية المصمّمة للحياة على الطريقة الغربية وبين خصائص سكانها الاجتماعية والثقافية التي أثمرت في السابق خصائص معمارية ذات روح أمازيغية وعربية وإسلامية.




هذا التعارض الحضاري، بعد العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، لا سيما بعد رحيل الجيل الذي عاصر الفرنسيين وتشرّب بعضاً من ثقافتهم وانتشار ما عُرف بالصحوة الإسلامية في الأوساط الشعبية، خلّف محاولات لتعديل ملامح هذه المدن الموروثة من قبيل تحويل الكنائس إلى مساجد والحانات إلى محال تجارية. فكانت الخطوة أقرب إلى التزييف منها إلى التكييف، إذ هي بحسب ما يقول الناشط بوحجر بوتشيش "لم تكن خاضعة للوعي والدراسة. لم تُستشر فيها النخبة المثقفة والكفاءات المطلعة، بل خضعت إلى الارتجال الشعبي الذي غذّاه في بعض الفترات تواطؤ سياسي ما".

رافق بوتشيش "العربي الجديد" إلى كنيسة مدينة حمّام بوحجر التي تبعد 500 كيلومتر غرب الجزائر العاصمة، مشيراً إلى أنّ مثقفي المدينة وفنانيها أرادوا تحويلها إلى متحف أو معهد موسيقي أو مسرح أو معرض للفنون التشكيلية، بما ينسجم مع طبيعتها، "لكنّه غلب على أمرنا وتحوّلت إلى مسجد، على الرغم من أنّها تبعد مائتي متر فقط عن أكبر مسجد في المنطقة". يضيف: "لقد تراجع الوعي المدني إلى درجة أنّ خيارنا فُهِم على أنّه انسلاخ عن القيم الدينية للمجتمع".

في السياق، يحاول بوتشيش العمل في الفترة الأخيرة مع نخبة من الفنانين على "تحويل بناية مهجورة شيّدها الفرنسيون في عام 1957 كمصنع للخمور، إلى مسرح. لكنّ عراقيل كثيرة تواجهنا، وهي صادرة عن جهات مختلفة، خصوصاً أصحاب النزعة التجارية الجافة. فهؤلاء يرون في المكان موقعاً ممتازاً لسوق أو متجر كبير أو مستودع". ويقول: "لقد باتت المدينة الجزائرية خاضعة للمال المغشوش والفهم الديني المغشوش. ففقدت روحها الثقافية والفنية والحضارية والسياحية، وتحوّلت إلى مجرد مراقد وأسواق للاستهلاك".

إذا كان قلب معظم المدن في العالم شارعاً، فإنّ قلب مدينة حمّام بوحجر شلّال يُطلَق عليه اسم "الشلّال الصغير" ينحدر من هضبة صغيرة يمكن لمتسلّقها أن يعاين المدينة كلّها ويرصد الفرق بين جمالية الأبنية المشيّدة خلال الحقبة الفرنسية ومتانتها وبين ما هي عليه تلك التي أنجزت خلال الاستقلال الوطني. تحيط بالشلّال كلّ أصناف النخيل المعروفة في العالم، والتي لم تمنعها المعادن الموجودة في المياه الحموية الحارّة من أن تنمو وتظهر بهيّة.




في حديث لـ "العربي الجديد" مع أحد المعنيّين بهذا المكان، عمد إلى المقارنة بين الماضي الفرنسي للشلّال وبين حاضره الجزائري. والمعني الذي فضّل عدم الكشف عن هويته لأسباب متعلقة بمستقبله المهني، كما يقول، يخبر أنّ "عند مدخله كانت سقيفة مزهرة، تشهد على واحد من الطقوس الخاصة وهو لقاء الأعضاء الفرنسيين في المجلس البلدي تحتها مباشرة بعد انتخابهم، وذلك بهدف التقاط صورة جماعية لهم. وهذه الصورة هي مؤشّر انطلاق الأشغال". يضيف أنّ المكان كان "مركز جذب سياحي عالمي، حتى أنّ محبّيه من الفرنسيين أطلقوا صفحة خاصة به على موقع فيسبوك. أمّا اليوم، فهو من دون كهرباء ومن دون حراسة ليلية، لذا تحوّل إلى وكر للمنحرفين".

يستدرك محدّثنا نفسه قائلاً: "أنا لا أمجّد الاستعمار من خلال هذه المقارنة. ليس من أمر جميل في الاحتلال إلا رحيله. لكنّني أشير إلى أنّنا بتنا لا نملك مشروع مجتمع يجعلنا نبني وفق شروط البناء ونعيش وفق فنون العيش. وغياب هذا المشروع جعل الجزائري يفهم السكن كسقف يأويه وليس كفضاء للتنعّم والحياة، بالتالي رحنا نسجّل هذا التراجع للمدينة ومرافقها وروحها ومهامها".

من جهته، يؤكد الكاتب والمهندس المعماري عبد اللطيف ولد عبد الله، أنّه يشعر بالأسف حين يلاحظ شعارات وما إليها مخطوطة على جدران أبنية، من المفترض أنّها باتت مصنّفة من ضمن التراث الإنساني. ويشعر كذلك بالأسف عندما يشاهد معلماً تاريخياً ينهار على خلفية عدم الاهتمام بترميمه. ويسأل: "ما معنى ألا نحافظ على بناء تاريخي قديم، ونفشل كذلك في إنجاز أبنية جديدة بالمعايير الدولية؟ نحن لم نحترم ذاكرة قائمة ونحن لم نؤسّس لذاكرة مقبلة".

ويقول ولد عبد الله لـ"العربي الجديد" إنّ "هذا الخراب لا يتعلّق بالبنايات الموروثة من الفترة الاستعمارية الفرنسية فحسب، بل يمتدّ إلى المعالم والمدن الموروثة عن الحقب التاريخية كلّها". يضيف: "هل ثمّة قصبة واحدة من القصبات الموروثة من العهد التركي سوف تنجو قريباً من الانهيار، ومثالاً قصبة الجزائر العاصمة، على الرغم من أنّها مصنفة من ضمن التراث الإنساني؟". ويتابع: "ولا ننسى أنّنا سمحنا للإسمنت بأن يستولي على مساحاتنا الزراعية، حتى بتنا نستورد القمح من فرنسا نفسها، ونحن أكبر دولة عربية وأفريقية لجهة المساحة".

دلالات