باتت مدينة صنعاء اليوم حاضنة لكلّ فئات المجتمع اليمني من مختلف أرجاء البلاد، أكثر من أيّ وقت مضى، على خلفيّة الحرب الدائرة منذ أكثر من عامَين. في السابق، وكلّما اندلعت اشتباكات في محافظة ما، كان أهلها ينزحون إلى مناطق مجاورة، في حين راح بعض من هؤلاء يلجأون إلى العاصمة صنعاء، لتصبح نتيجة لذلك مكتظّة باليمنيين الذين يرون أنّها أكثر أماناً من غيرها من المدن، كذلك تقدّم فرص العمل الأكثر والخدمات الأساسية المختلفة، على الرغم من ضعف الأنشطة الاقتصادية بصورة غير مسبوقة.
استمرار الاشتباكات في محافظتَي تعز (وسط) وصعدة (شمال) وتوقّع سكانها بأنّها لن تنتهي قريباً كانا سبباً قوياً لانتقال عشرات آلاف الأسر إلى صنعاء وعزمها إطالة البقاء فيها. ومن أبرز الفئات التي اتّخذت قرارها باستقرار طويل الأمد فيها، أصحاب الأعمال غير الصغيرة، مثل محلات الجملة وأنشطة الترفيه والمطاعم والمحلات الكبيرة المتنوعة، إذ إنّهم وجدوا في صنعاء المكان الأفضل لإنعاش أعمالهم ولإيمانهم بأنّها لن تلقى الرواج في مناطقهم إلا بعد سنوات من الاستقرار. فتلك المناطق سوف تتطلب سنوات من إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد المحلي وتحسين القدرة الشرائية لسكانها.
مطهر العزعزي، كان صاحب سوبر ماركت متوسطة في تعز، وعندما نزح إلى صنعاء نقل معه أسرته وبضاعته بهدف إنقاذها من انتهاء صلاحيتها ولتسريع حركة البيع بعد كساد. فهو أمضى أكثر من عام بين النازحين في الحوبان، منطقة نزوحه الأولى في ضواحي تعز. يخبر العزعزي أنّه يشعر هنا بارتياح، "يكفيني أنّني لم أعد أقلق كثيراً على سلامة أفراد أسرتي ومحلي من الهجمات المتكررة هناك". والنازحون لا يشعرون بأنّهم دخلاء في صنعاء، بحسب العزعزي، الذي يقول إنّه وأسرته "تكيّفنا سريعاً في منطقة السنينة مع الجيران الذين يأتون من محافظات يمنية عدّة". يضيف أنّه "في صنعاء، أصبحنا نشعر بأنّنا منها، إذ إنّ سكان المنطقة يتحدّثون بلكنات متعددة ويلبسون أزياء مختلفة".
وصعوبة إيصال منظمات الإغاثة المساعدات إلى المتضرّرين من الحرب كانت من أبرز مبررات النازحين للبقاء في صنعاء. عبد السلام البحري، نازح من مدينة صعدة، يؤكد أنّه باق في صنعاء على الرغم من توقف القصف الجوي على أهداف في مدينته، لأسباب معيشية. ويقول: "مزرعتي ومرافق الريّ والعمل فيها تدمّرت بسبب الحرب، وأصبحتُ معدوم الدخل ومديوناً. أمّا هنا فأتلقى المساعدات دورياً، في حين أفادني الجيران هناك بأنّهم محرومون من المساعدات منذ فترة طويلة، بالإضافة إلى انعدام فرص العمل". ويشير البحري إلى أنّ زوجته "تفضّل الأمان في صنعاء على العودة إلى صعدة، فهي تصاب بالهلع وبهبوط في مستوى السكر في الدم عند سماعها دويّ انفجارات".
كثيرة هي الأسر النازحة التي تكيّفت في صنعاء بخلاف ما كانت تتوقّع، إذ وجدت فيها ما لا تجده في مناطقها. الوقود على سبيل المثال متوفّر هنا وبأسعار أرخص من المناطق الأخرى على الرغم من ارتفاع ثمنه، كذلك الأمر بالنسبة إلى السلع والخدمات الأساسية المتوفّرة هنا والتي تنخفض أسعارها بالمقارنة مع ما هي عليه في المحافظات الأخرى. وثمّة أسر بقيت في العاصمة بسبب الأمن وانعدام قدرتها المالية على إصلاح ممتلكاتها التي دمّرتها الحرب. أسرة أكرم باقديم، على سبيل المثال، ما زالت تقيم عند أقارب لها منذ فرارها من مدينة عدن. ويخبر باقديم أنّ منزله تضرر ويحتاج إلى مبالغ كبيرة لإصلاحه، الأمر الذي يجعله يتشبّث أكثر بالبقاء في صنعاء. ويصف وضعه قائلاً إنّ "الأمن لدينا هو الأولوية. ومناخ صنعاء المعتدل دائماً أفضل بكثير من مناخ عدن، حيث درجات الحرارة مرتفعة والتيار الكهربائي مقطوع". يضيف أنّ "رواتبنا في عدن لم تنقطع وهي تحوَّل إلى هنا. ونحن نتقاسم مع مضيفينا بدلات الإيجار والخدمات والغذاء".
في السياق، لهذا التغير الديمغرافي في مدينة صنعاء أوجه سلبية يعاني منها أهلها، لم تساهم سلطات الأمر الواقع في الحدّ منها. إلى ذلك، تعاني صنعاء من فجوة هائلة في الخدمات الأساسية والأنشطة المربحة فاقمت الحرب تداعياتها. وكانت جهات تنموية قد قدّرت عدد سكان المدينة في الأساس بثلاثة ملايين نسمة، أضاف إليها النزوح منذ بداية الحرب الأخيرة نحو 400 ألف شخص (ثمانية في المائة من عدد السكان) عاد منهم إلى مناطقهم نحو 225 ألف شخص في فترات مختلفة، بحسب بيانات عدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة.