لا يخلو صيف الجزائر من حادثة مؤسفة تطفو إلى السطح، فتشغل الكبير والصغير والمجالس ومواقع التواصل الاجتماعي، لتعطي صورة عن سياسة الإهمال التي ظلّت تحكم أكبر بلد عربي وأفريقي من حيث المساحة.
في الصيف الماضي، كان خطف الأطفال من قبل جهات مجهولة، الفعل الذي شغل الناس ووسائل الإعلام التي استثمرت في الأمر، فنشرت الرعب أكثر ممّا ساهمت في استرجاع المختطفين. هذا الصيف، تداول الناس خبر موت رضيعة وضعتها أمّها في السيارة، لأن ثلاثة مستشفيات متخصّصة في محافظة الجلفة، 300 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، رفضت استقبالها، بحجج عدة. ولاحقاً، توفيت الأم أيضاً.
أحد المستشفيات قال إنّ الطبيبة المناوبة كانت في عطلة، وظهر أنها لم تكن كذلك، ممّا دفع المدير التنفيذي للصّحة إلى فصلها. وثانٍ قال إنّ سيّارة الإسعاف كانت في مهمّة خارج المدينة، وثالث أشار إلى أنّ عدد الأسرّة لم يكن كافياً. وعادة ما تتداول معظم مصحّات التوليد في المحافظات هذه الحجج الثلاث الجاهزة، وقد كتب الروائي زرياب بوكفّة ساخراً: "طبيبة مدعوة إلى عرس ما، ممرّض غادر في توصيلة مدفوعة الأجر بسيارته، وقابلة منخرطة في صلاة الضحى، وممرضة قصدت العرّافة لتمنحها حجاباً ضدّ العنوسة، ومدير الصّحة يحاضر في فندق ذي خمس نجوم عن سياسة تحديد النّسل". يختم قائلاً: "أمام هذا الوضع، لماذا تحملين أصلاً أيتها الجزائرية؟".
توجهت "العربي الجديد" إلى مستشفى توليد في مدينة الثنية، 60 كيلومتراً إلى الشرق من الجزائر العاصمة، لمعاينة المشاكل التي تعانيها الحوامل وأزواجهنّ في المصحات الحكومية المتخصّصة في التوليد، فكانت إجابات البعض غير قابلة للتصديق، لولا أنها وردت على أكثر من لسان.
يقول فارس (32 عاماً) إنّه ينتظر مولوده الأول، وقد حمل زوجته إلى مستشفى ضاحية القبّة في الجزائر العاصمة، بمجرّد أن شعرت بآلام المخاض، "لكنّني فوجئت بهم يطلبون منّي الانتظار". يسأل وهو يوشك على البكاء: "هل أقول لجنيني إنّ عليه أن ينتظر في بطن أمّه فترة أخرى؟". يضيف: "بعد أربعين دقيقة، طلبوا منّي نقلها إلى مستشفى آخر، وها أنا أنتظر مرة أخرى". يختم يائساً: "كنت أحلم بولادة ابني، فصرت أحلم ألا تموت أمّه".
اقــرأ أيضاً
في هذه الأثناء، وصلت سيّارة الإسعاف تحمل امرأة حاملا مغمى عليها. تعالت الأصوات لفسح الطريق إلى قاعة التوليد. وحين أبدى زوج المريضة غضبه، ردت إحدى الممرّضات: "تعال لتعمل معنا يومين فقط، لتدرك أننا نبذل قصارى جهدنا. نحن أيضاً بشر مثلكم، ومن حقنا أن نستريح". سألناها عن اتهام الجزائريين مصحات التوليد الحكومية بالإهمال، فلم تنكر الأمر، وراحت تسرد ما وصفتها أسباباً موضوعية لذلك، منها غياب التنسيق بين المنظومات المعنية في البلاد. "ألسنا دولة ذات مؤسسات؟ لماذا لا تُخبر الأطراف المعنية المستشفى مسبقاً بعدد الولادات المحتملة في الشهر حتى نستعد؟ لماذا لا تبادر الحكومة إلى بناء مصحات جديدة تضم طواقم كافية؟". وترى أن "الإهمال على مستوى المستشفيات هو ثمرة للإهمال في ما يتعلق بالتخطيط العام".
من جهته، يعترف الطبيب ياسين عبد الجبّار، في حديث لـ "العربي الجديد"، بأنّ تجربته في مصحات مدينة وهران، أقصى الغرب الجزائري، جعلته يشبّهها بـ "المذابح الموجودة في الأسواق الشعبية". يقول إن "الدخول إلى غرفة الانتظار الخاصّة بالولادة يشكّل صدمة لك، وأنت تشاهد الحوامل مرميات في الأروقة وهن يصرخن في انتظار أدوارهن، نظراً إلى الاكتظاظ. بل إن بعضهنّ يلدن في الرواق".
ويصف عبد الجبار قاعة الولادة بـ "البث التجريبي للموت"، قائلاً: "هناك حوامل يلدن فوق مخلّفات الولادة السابقة، بكلّ ما يترتب عن ذلك من أضرار صحية على الوالدة والمولود، إذ لا ينظف الطاقم المشرف المكان بحجّة ضيق الوقت". ويطالب وزارة الصحة بـ "التحرّك، فقد بات الوضع، الذي فضحه التلفزيون الحكومي نفسه، منافياً لحقوق الإنسان وسمعة الدولة". ويسأل: "إذا كان المولود الجديد مواطناً جديداً في الحقيقة، فهل هذه هي الطريقة التي تستقبله بها دولته؟".
إلى ذلك، يرفض الناشط بلال بن سكايم حصر المشكلة في الهياكل، فهي متوفرة بما يكفي، بل يربطها بذهنيات الطواقم الصحية، التي التحقت بثقافة الفساد. ويشرح أن "معظم العاملين في المصحّات الحكومية يملكون مصحات خاصّة أو هم متعاقدون معها، وهذا يؤدّي بهم إلى أن يمنحوا وقتهم وجهدهم لها". يضيف أنهم "يتعمّدون الإهمال في المصحّات العمومية حتى يدفعوا المواطنين إلى التعامل مع مصحّاتهم الخاصّة، وإلا كيف نفسّر الفارق في جودة الخدمة بين المصحّتين رغم أنّ الكادر البشري هو نفسه؟".
اقــرأ أيضاً
في الصيف الماضي، كان خطف الأطفال من قبل جهات مجهولة، الفعل الذي شغل الناس ووسائل الإعلام التي استثمرت في الأمر، فنشرت الرعب أكثر ممّا ساهمت في استرجاع المختطفين. هذا الصيف، تداول الناس خبر موت رضيعة وضعتها أمّها في السيارة، لأن ثلاثة مستشفيات متخصّصة في محافظة الجلفة، 300 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، رفضت استقبالها، بحجج عدة. ولاحقاً، توفيت الأم أيضاً.
أحد المستشفيات قال إنّ الطبيبة المناوبة كانت في عطلة، وظهر أنها لم تكن كذلك، ممّا دفع المدير التنفيذي للصّحة إلى فصلها. وثانٍ قال إنّ سيّارة الإسعاف كانت في مهمّة خارج المدينة، وثالث أشار إلى أنّ عدد الأسرّة لم يكن كافياً. وعادة ما تتداول معظم مصحّات التوليد في المحافظات هذه الحجج الثلاث الجاهزة، وقد كتب الروائي زرياب بوكفّة ساخراً: "طبيبة مدعوة إلى عرس ما، ممرّض غادر في توصيلة مدفوعة الأجر بسيارته، وقابلة منخرطة في صلاة الضحى، وممرضة قصدت العرّافة لتمنحها حجاباً ضدّ العنوسة، ومدير الصّحة يحاضر في فندق ذي خمس نجوم عن سياسة تحديد النّسل". يختم قائلاً: "أمام هذا الوضع، لماذا تحملين أصلاً أيتها الجزائرية؟".
توجهت "العربي الجديد" إلى مستشفى توليد في مدينة الثنية، 60 كيلومتراً إلى الشرق من الجزائر العاصمة، لمعاينة المشاكل التي تعانيها الحوامل وأزواجهنّ في المصحات الحكومية المتخصّصة في التوليد، فكانت إجابات البعض غير قابلة للتصديق، لولا أنها وردت على أكثر من لسان.
يقول فارس (32 عاماً) إنّه ينتظر مولوده الأول، وقد حمل زوجته إلى مستشفى ضاحية القبّة في الجزائر العاصمة، بمجرّد أن شعرت بآلام المخاض، "لكنّني فوجئت بهم يطلبون منّي الانتظار". يسأل وهو يوشك على البكاء: "هل أقول لجنيني إنّ عليه أن ينتظر في بطن أمّه فترة أخرى؟". يضيف: "بعد أربعين دقيقة، طلبوا منّي نقلها إلى مستشفى آخر، وها أنا أنتظر مرة أخرى". يختم يائساً: "كنت أحلم بولادة ابني، فصرت أحلم ألا تموت أمّه".
في هذه الأثناء، وصلت سيّارة الإسعاف تحمل امرأة حاملا مغمى عليها. تعالت الأصوات لفسح الطريق إلى قاعة التوليد. وحين أبدى زوج المريضة غضبه، ردت إحدى الممرّضات: "تعال لتعمل معنا يومين فقط، لتدرك أننا نبذل قصارى جهدنا. نحن أيضاً بشر مثلكم، ومن حقنا أن نستريح". سألناها عن اتهام الجزائريين مصحات التوليد الحكومية بالإهمال، فلم تنكر الأمر، وراحت تسرد ما وصفتها أسباباً موضوعية لذلك، منها غياب التنسيق بين المنظومات المعنية في البلاد. "ألسنا دولة ذات مؤسسات؟ لماذا لا تُخبر الأطراف المعنية المستشفى مسبقاً بعدد الولادات المحتملة في الشهر حتى نستعد؟ لماذا لا تبادر الحكومة إلى بناء مصحات جديدة تضم طواقم كافية؟". وترى أن "الإهمال على مستوى المستشفيات هو ثمرة للإهمال في ما يتعلق بالتخطيط العام".
من جهته، يعترف الطبيب ياسين عبد الجبّار، في حديث لـ "العربي الجديد"، بأنّ تجربته في مصحات مدينة وهران، أقصى الغرب الجزائري، جعلته يشبّهها بـ "المذابح الموجودة في الأسواق الشعبية". يقول إن "الدخول إلى غرفة الانتظار الخاصّة بالولادة يشكّل صدمة لك، وأنت تشاهد الحوامل مرميات في الأروقة وهن يصرخن في انتظار أدوارهن، نظراً إلى الاكتظاظ. بل إن بعضهنّ يلدن في الرواق".
ويصف عبد الجبار قاعة الولادة بـ "البث التجريبي للموت"، قائلاً: "هناك حوامل يلدن فوق مخلّفات الولادة السابقة، بكلّ ما يترتب عن ذلك من أضرار صحية على الوالدة والمولود، إذ لا ينظف الطاقم المشرف المكان بحجّة ضيق الوقت". ويطالب وزارة الصحة بـ "التحرّك، فقد بات الوضع، الذي فضحه التلفزيون الحكومي نفسه، منافياً لحقوق الإنسان وسمعة الدولة". ويسأل: "إذا كان المولود الجديد مواطناً جديداً في الحقيقة، فهل هذه هي الطريقة التي تستقبله بها دولته؟".
إلى ذلك، يرفض الناشط بلال بن سكايم حصر المشكلة في الهياكل، فهي متوفرة بما يكفي، بل يربطها بذهنيات الطواقم الصحية، التي التحقت بثقافة الفساد. ويشرح أن "معظم العاملين في المصحّات الحكومية يملكون مصحات خاصّة أو هم متعاقدون معها، وهذا يؤدّي بهم إلى أن يمنحوا وقتهم وجهدهم لها". يضيف أنهم "يتعمّدون الإهمال في المصحّات العمومية حتى يدفعوا المواطنين إلى التعامل مع مصحّاتهم الخاصّة، وإلا كيف نفسّر الفارق في جودة الخدمة بين المصحّتين رغم أنّ الكادر البشري هو نفسه؟".