الوسط السياسي في تركيا بدا وكأنّه اجتاز الصراع التقليدي حول علمانية البلاد قبل سنوات، إلا أنّ مشروع التعديلات القانونية التي يُصار إلى التصويت عليها بعد انتهاء عطلة البرلمان التركي الحالية والتي تمنح مفتي المناطق والولايات صلاحية عقد قران الأتراك ضمن القانون المدني التركي الحالي، يعيد فتح السجال بين الحكومة التركية وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني.
بدأ الأمر عندما قدّمت الحكومة التركية نهاية الشهر الماضي مجموعة تعديلات قانونية إلى رئاسة البرلمان التركي لمناقشتها وإقرارها، ومن بينها تعديلات في قانون خدمات إدارة الشؤون المدنية (النفوس). وكانت الدولة التركية قد أقرّت بعد أقل من ثلاثة أعوام على إعلانها، إصلاحات واسعة النطاق في القانون المدني التركي، أنهت من خلالها القانون العثماني الذي كان يعتمد الشريعة الإسلامية، واعتمدت قانوناً مدنياً اتخذ من القانون المدني السويسري نموذجاً له. أتى ذلك في 17 فبراير/ شباط فبراير من عام 1926، قبل أن يُقَرّ قانون جديد في عام 2002 يحافظ على روح القانون القديم، لا سيما في ما يتعلق بـالمساواة بين الرجل والمرأة في كل نواحي الحياة، بما في ذلك المساواة بين الجنسَين في ما يخصّ الشهادة في المحاكم، والميراث، والطلاق، ونزع صلاحيات الكنائس الخاصة بالحياة المدنية، وفرض الزواج المدني، وإلغاء تعدد الزوجات، ومنح المرأة الحق بمنح جنسيتها التركية لأولادها، وكذلك الحق بالتبني.
منذ تطبيق القانون المدني في عام 1926، كان الموظفون المدنيون وحدهم القادرين على عقد زواج في تركيا. وفي بداية تطبيقه، كان القانون يحاكم بالسجن لمدّة تتراوح بين شهرَين وستة أشهر، من يقصد المساجد لعقد زواج إسلامي. على الرغم من ذلك، بقي الأتراك بأغلبيتهم المطلقة يتوجهون إلى عقد زواج ديني وفق الشريعة الإسلامية عند أئمة المساجد، بعد إنهائهم معاملات الزواج المدني. وهو ما دفع المواطنين المحافظين إلى تأييد فكرة منح أئمة المساجد صلاحية التزويج إلى جانب موظفي البلديات، تسهيلاً لإدارة شؤون حياتهم.
ويقول في السياق النائب عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، عن ولاية إرضروم المحافظة، أورها ديليغوز، إنّه "ما زالت لدى بعض مواطنينا المحافظين حساسيّتهم الدينية الموروثة، بالتالي يشددون على ضرورة عقد زواج ديني". يضيف أنّ "عقد الزواج الديني لا سلطات قانونية له، وهذا لن يتغيّر. لكن من باب تسهيل حياة المواطنين وبدلاً من عقد الزواج مرّتَين، واحدة في البلدية وثانية عن الأئمة، فليذهب المواطنون الراغبون في عقد الزواج الديني إلى المفتين مباشرة، وليعقدوا الزواجَين مرّة واحدة".
تجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة الدستورية كانت قد ألغت قبل عامَين قانوناً يلزم الأتراك بالزواج مدنياً قبل عقد قرانهم الديني، مبرّرة ذلك بأنّ الزواج الديني ليس على خلاف مع مبادئ سيادة القانون ومبادئ القانون الجنائي.
في السياق، توضح وزيرة الأسرة والسياسات الاجتماعية، فاطمة بتول سايان كايا، أنّ "التعديلات لن تمنح أئمة المساجد صلاحية عقد الزواج، إنّما فقط مفتي الولايات والمناطق. وأظنّ أنّ الأمر لا بدّ من أن يبقى كذلك". تضيف أنّه "وفق اللوائح الحالية، يمكن للمخاتير ورؤساء البلديات والممثلين الأجانب تسجيل عقود الزواج، والتعديلات الجديدة تمنح مفتي الولايات والمناطق الصلاحية ذاتها كذلك، لكنّ الزواج يُعقَد وفق القانون المدني الحالي". وتتابع الوزيرة: "في الحقيقة أنا لا أوافق على منح الأئمة صلاحية عقد زيجاتنا. الأمر الأساسي هو تنفيذ الزيجات المدنية وإعلانها". وتلفت إلى أنه "لن يكون ثمّة مجال لزواج القصّر وسوف تجري حماية كل حقوق المرأة، ولن تتغيّر السنّ القانونية للزواج، ولن يكون أيّ تغيير في ما يتعلق بمنع تعدد الزوجات".
إلى ذلك، تبدي أحزاب المعارضة العلمانية ومنظمات حقوق المرأة المرتبطة بها، معارضة شديدة لمنح صلاحية عقد الزواج للمفتين، من باب أنّها تخالف مبدأ علمانية الدولة التركية، وقد تؤدّي إلى تمييز طائفي، في إشارة إلى أنّ القانون يخصّ المواطنين الذي يتّبعون المهذب السنّي وليس الذين يتّبعون المذهب العلوي.
وتقول النائبة عن حزب الشعب الجمهوري (الكماليين)، تور يلدز بيجر، إنّ تعديل القانون "يمثّل خرقاً لمبدأ العلمانية في كل وقت. منح المفتين صلاحية عقد القران وإعادة تحويل القانون المدني يتعارضان مع المبدأ الدستوري الذي يؤكّد على أنّ الدولة يجب أن تكون على مسافة واحدة من جميع مواطنيها من دون أيّ تمييز على أساس العرق أو المذهب". وتسأل: "هل تُمنَح المذاهب والأديان الباقية هذا الحق؟ وأنا لا أقول هذا كي أطالب بمنح هذا الحقّ للمذاهب الباقية، إذ إنّ ذلك سوف يكون مخالفاً لمبدأ علمانية الدولة".
من جهته، يعبّر رئيس اتحاد نقابات المحامين الأتراك، متين فيزيأوغلو، عن قلقه من أن "تفتح التعديلات الجديدة باباً جديداً لانقسام اجتماعي تركي". ويوضح أنّ "هذه التعديلات التي تتيح للأئمة إلى جانب الموظفين المدنيين عقد الزواج، سوف تفسح المجال مرّة أخرى أمام انقسام المجتمع التركي، بين متديّنين يتوجهون إلى عقد زواجهم عند المفتين وغير متديّنين يتوجهون إلى البلديات".
أمّا نائب رئيس الوزراء التركي، بكير بوزداغ، فينفي أن تكون التعديلات مخالفة لمبدأ علمانية الدولة، قائلاً إنّ "المفتين سوف يسجّلون الزواج بالطريقة نفسها والشروط نفسها التي يعتمدها رؤساء البلديات والمسؤولون عن شؤون الزواج". ويشير إلى أنّ "المفتين هم في كل الأحوال موظفون مدنيّون، وهذه التعديلات لا علاقة لها بخرق العلمانية"، مضيفاً أنّ "البعض يدّعي بأنّ الزيجات سوف تعقد في المساجد، لكنّ هذا غير صحيح. ثمّة إجراء قانوني واضح يحظر عقد الزواج في الأماكن الدينية. وهذه العملية سوف تكون مفتوحة وشفافة".