غوادلوب، في جزر الأنتيل الصغرى بالبحر الكاريبي، عرفت السوريين منذ زمن بعيد يعود إلى أواسط القرن التاسع عشر، وها هي تستقبل سورياً آخر يكتب لـ"العربي الجديد" تجربته فيها
لم يكن البرد استثنائياً في مونتريال، فالمتوسط العام للحرارة في يناير/ كانون الثاني هو نحو عشرين درجة تحت الصفر. وفي يوم سفري إلى غوادلوب، كانت الحرارة 27 درجة تحت الصفر. كل شيء عادي، بما في ذلك درجات الحرارة المنخفضة التي تكيّف الناسُ معها، حتى غدا غياب البرد الجليدي في مثل هذا الوقت من العام مدعاة للقلق، وإشارة إلى تغيّر المناخ. التغيير مقلق، إذ لا بد لسكان هذه المناطق من اكتساب عادات جديدة في اللباس والطعام والمسكن.
ليست المرة الأولى التي أزور فيها "غوادلوب"، لكنها المرة الأولى التي تكون فيها موضوعاً للكتابة. هبطت الطائرة في مطار "بوانت أبيتر" لتستقبلنا وجوه سمراء جميلة، وعيون عسلية بغالبيتها. ويمكن لأي شخص أن يقف مسحوراً أمام الأخضر المطوق بالحنين في بحر من السمرة. هذا الجمال يشعرك برغبة في مغادرة البناء المغلق والالتحاق بالطبيعة. كان الأهل في الخارج، شقيقي وزوجته وأولاده. مرت ثماني سنوات على آخر مرة التقينا فيها.
غوادلوب قطعة من الجنة على الأرض، وإحدى المحميات الطبيعية في العالم الواقعة ضمن جزر الأنتيل الصغرى، الممتدة على شكل قوس في البحر الكاريبي، وهي تابعة لفرنسا. يقدر عدد سكانها بأكثر من 400 ألف نسمة بقليل، وتتألف من جزيرتين صغيرتين هما "باس تير" و"غرانت تير"، ويربط بينهما جسر صغير بل جسور على شكل فراشة. مدينة "بوانت أبيتر" هي العاصمة الاقتصادية للجزيرة، بينما تبقى مدينة "باس تير" العاصمة السياسية للجزيرة. اكتشفها كريستوفر كولومبوس في عام 1493، خلال رحلته الثانية إلى أميركا.
وصلها أول سوري (كلمة تشمل السوري واللبناني في ذلك الوقت) في عام 1860، مجتازاً "بحر الظلمات". لسبب غير معروف، توقفت السفينة في الجزيرة، فظن هذا السوري أنه وصل إلى غايته. حمل "بقجته" ونزل إلى اليابسة لجمع الذهب من الطرقات، وكانت غوادلوب في انتظاره.
كان "السوري - اللبناني" يتقن البيع والشراء بالإشارة في حال لم تطاوعه اللغة. حمل ما يستطيع حمله من بضائع على كتفيه وتوجه إلى حيث يتجمع الناس في البيوت والأكواخ والغابات. باع ما حمله معه، وصار يكرّر مشواره. وأطلق اسم "الكشيش" على البائع المتجول سيراً على الأقدام، قبل أن تصبح السيارة وسيلته الأساسية للبيع والشراء، والتنقل بين الزبائن المنتشرين في كل مناطق الجزيرة.
وكان على الكشيش، كي يستمر في الحياة ويجمع النقود، أن يمارس كل ما هو مطلوب منه للحفاظ على هذين الهدفين: الحياة والمال. أحياناً، يبدو طيباً أكثر من اللازم، وأحياناً أخرى أكثر قوة من سكان البلاد أنفسهم، وكان شديد الملاحظة، كي يتجنب المطبات. وكان عليه أن يكون دجّالاً في مرات، وأن يُقسم أنه يبيع سلعته بكلفتها. كان الكشيش شخصاً فريداً، ولديه أحلام وأطماع وقهر وغربة ورغبة في العودة الى الزوجة والأولاد في الوطن مع بعض المال.
اقــرأ أيضاً
في غوادلوب نحو ألف وخمسمائة سوري، وضعف عددهم من اللبنانيين. يعود تاريخ أسلاف بعضهم إلى أكثر من مائة وستين عاماً، وهم قلة. أما الغالبية، فمكونة من موجات من الهجرة "الرجالية" البحتة، التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي، وتكررت منذ ثلاث سنوات، نتيجة الحرب في سورية. ووصل الجزيرة نحو 60 سورياً، طلبوا اللجوء ومنحوا حق الحماية على الطريقة الفرنسية. الملفت أن الغالبية الساحقة جاءت من المناطق المؤيدة للنظام. وعن أسباب ترك البلاد، فهي إما الرغبة في الهرب من الخدمة العسكرية، أو الحلم القديم بالوصول إلى الغرب.
سفر عبر الزمن
في أحد الأيام، خرجت مع شقيقي للعمل. وأثناء عبورنا إحدى القرى، رأيت طفلين يلعبان في الطريق. طلبت من شقيقي التوقف واقتربت من الطفلين محدقاً في وجهيهما. كان شعرهما أسود قصيراً مجعداً وبشرتهما بيضاء. فقال شقيقي: "هذا معروف في الجزيرة، خصوصاً حين يكون الوالد أوروبياً". وكأنني كنت أرى تاريخين: تاريخ العبودية وتاريخ الغازي الأوروبي على مدى خمسمائة عام. وهكذا كان واقع الكشيش، الذي يعيش ريفيته السورية بعد العودة من العمل، من خلال علاقاته مع بقية السوريين. حين يجتمعون، تحضر النميمة والحسد والغيرة وحب الظهور. وفي بعض الأحيان، يتباهى أحدهم بمنزله الذي بناه في سورية. كأن الكشيش يعيش في عالم لا علاقة له به.
اقــرأ أيضاً
أحد مطالب الغوادلوبيين في ستينيات القرن الماضي من فرنسا، كشرط لتهدئة حركة التمرد والرغبة في الانفصال، هو ترحيل جميع السوريين (لبنانيون وسوريون) من الجزيرة. وقالت الوزيرة الفرنسية التي كانت مكلفة بالحوار آنذاك: "يجب عدم نسيان فضل السوريين عليكم. هم من علمكم استخدام الملعقة". وبقيت هذه الحقيقة ناقصةً. "السوري لم يتأقلم مع محيطه إلا مضطراً، ولم يستطع أن يصبح جزءاً من نسيج المجتمع على الرغم من مرور عشرات السنوات على وجوده".
لم يكن البرد استثنائياً في مونتريال، فالمتوسط العام للحرارة في يناير/ كانون الثاني هو نحو عشرين درجة تحت الصفر. وفي يوم سفري إلى غوادلوب، كانت الحرارة 27 درجة تحت الصفر. كل شيء عادي، بما في ذلك درجات الحرارة المنخفضة التي تكيّف الناسُ معها، حتى غدا غياب البرد الجليدي في مثل هذا الوقت من العام مدعاة للقلق، وإشارة إلى تغيّر المناخ. التغيير مقلق، إذ لا بد لسكان هذه المناطق من اكتساب عادات جديدة في اللباس والطعام والمسكن.
ليست المرة الأولى التي أزور فيها "غوادلوب"، لكنها المرة الأولى التي تكون فيها موضوعاً للكتابة. هبطت الطائرة في مطار "بوانت أبيتر" لتستقبلنا وجوه سمراء جميلة، وعيون عسلية بغالبيتها. ويمكن لأي شخص أن يقف مسحوراً أمام الأخضر المطوق بالحنين في بحر من السمرة. هذا الجمال يشعرك برغبة في مغادرة البناء المغلق والالتحاق بالطبيعة. كان الأهل في الخارج، شقيقي وزوجته وأولاده. مرت ثماني سنوات على آخر مرة التقينا فيها.
غوادلوب قطعة من الجنة على الأرض، وإحدى المحميات الطبيعية في العالم الواقعة ضمن جزر الأنتيل الصغرى، الممتدة على شكل قوس في البحر الكاريبي، وهي تابعة لفرنسا. يقدر عدد سكانها بأكثر من 400 ألف نسمة بقليل، وتتألف من جزيرتين صغيرتين هما "باس تير" و"غرانت تير"، ويربط بينهما جسر صغير بل جسور على شكل فراشة. مدينة "بوانت أبيتر" هي العاصمة الاقتصادية للجزيرة، بينما تبقى مدينة "باس تير" العاصمة السياسية للجزيرة. اكتشفها كريستوفر كولومبوس في عام 1493، خلال رحلته الثانية إلى أميركا.
وصلها أول سوري (كلمة تشمل السوري واللبناني في ذلك الوقت) في عام 1860، مجتازاً "بحر الظلمات". لسبب غير معروف، توقفت السفينة في الجزيرة، فظن هذا السوري أنه وصل إلى غايته. حمل "بقجته" ونزل إلى اليابسة لجمع الذهب من الطرقات، وكانت غوادلوب في انتظاره.
كان "السوري - اللبناني" يتقن البيع والشراء بالإشارة في حال لم تطاوعه اللغة. حمل ما يستطيع حمله من بضائع على كتفيه وتوجه إلى حيث يتجمع الناس في البيوت والأكواخ والغابات. باع ما حمله معه، وصار يكرّر مشواره. وأطلق اسم "الكشيش" على البائع المتجول سيراً على الأقدام، قبل أن تصبح السيارة وسيلته الأساسية للبيع والشراء، والتنقل بين الزبائن المنتشرين في كل مناطق الجزيرة.
وكان على الكشيش، كي يستمر في الحياة ويجمع النقود، أن يمارس كل ما هو مطلوب منه للحفاظ على هذين الهدفين: الحياة والمال. أحياناً، يبدو طيباً أكثر من اللازم، وأحياناً أخرى أكثر قوة من سكان البلاد أنفسهم، وكان شديد الملاحظة، كي يتجنب المطبات. وكان عليه أن يكون دجّالاً في مرات، وأن يُقسم أنه يبيع سلعته بكلفتها. كان الكشيش شخصاً فريداً، ولديه أحلام وأطماع وقهر وغربة ورغبة في العودة الى الزوجة والأولاد في الوطن مع بعض المال.
سفر عبر الزمن
في أحد الأيام، خرجت مع شقيقي للعمل. وأثناء عبورنا إحدى القرى، رأيت طفلين يلعبان في الطريق. طلبت من شقيقي التوقف واقتربت من الطفلين محدقاً في وجهيهما. كان شعرهما أسود قصيراً مجعداً وبشرتهما بيضاء. فقال شقيقي: "هذا معروف في الجزيرة، خصوصاً حين يكون الوالد أوروبياً". وكأنني كنت أرى تاريخين: تاريخ العبودية وتاريخ الغازي الأوروبي على مدى خمسمائة عام. وهكذا كان واقع الكشيش، الذي يعيش ريفيته السورية بعد العودة من العمل، من خلال علاقاته مع بقية السوريين. حين يجتمعون، تحضر النميمة والحسد والغيرة وحب الظهور. وفي بعض الأحيان، يتباهى أحدهم بمنزله الذي بناه في سورية. كأن الكشيش يعيش في عالم لا علاقة له به.
أحد مطالب الغوادلوبيين في ستينيات القرن الماضي من فرنسا، كشرط لتهدئة حركة التمرد والرغبة في الانفصال، هو ترحيل جميع السوريين (لبنانيون وسوريون) من الجزيرة. وقالت الوزيرة الفرنسية التي كانت مكلفة بالحوار آنذاك: "يجب عدم نسيان فضل السوريين عليكم. هم من علمكم استخدام الملعقة". وبقيت هذه الحقيقة ناقصةً. "السوري لم يتأقلم مع محيطه إلا مضطراً، ولم يستطع أن يصبح جزءاً من نسيج المجتمع على الرغم من مرور عشرات السنوات على وجوده".