أظهرت نتائج امتحان "بيزا" الدولي لعام 2018 فجوة عميقة ما بين التلاميذ العرب في الداخل الفلسطيني وبين التلاميذ اليهود، وهو أمر يستدعي التحرّك سريعاً من أجل إصلاح جدّي في التعليم العربي.
لم تأتِ النتائج الرسمية الأخيرة للامتحان الدولي لتقييم الطلاب (بيزا) مفاجئة بالنسبة إلى أهل الاختصاص في الداخل الفلسطيني، لا سيّما في ما يتعلّق بالفجوة التي اتّضحت ما بين التحصيل العلمي للتلاميذ الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 وبين تحصيل التلاميذ اليهود في جهاز التعليم الإسرائيلي الرسمي. وقد رأى هؤلاء في الأمر نتيجة حتميّة لسياسات التمييز المتراكمة في تعامل دولة الاحتلال ووزاراتها مع المجتمع الفلسطيني في مختلف مجالات الحياة. وبدا واضحاً أنّ هذه النتائج تعكس سياسة رسمية منهجية، لا سيّما في ظلّ استمرار تدهور أوضاع جهاز التعليم الفلسطيني في الداخل، الخاضع لوزارة التربية والتعليم الإسرائيلية.
وبيّنت النتائج التي نشرت أمس، الثلاثاء في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، في الاختبارات الدولية في مجالات الإبداع اللغوي والعلوم والرياضيات فجوات هائلة في تحصيل التلاميذ الفلسطينيين بالمقارنة مع التلاميذ الإسرائيليين اليهود. وقد انخفض تحصيل التلاميذ العرب في اللغة الأم 144 نقطة، وفي الرياضيات 111 نقطة، وفي العلوم 116 نقطة بالمقارنة مع التلاميذ اليهود.
يقول مدير لجنة متابعة التعليم العربي في الداخل الفلسطيني، عاطف معدي، لـ"العربي الجديد"، إنّه "في ضوء هذه المعطيات المقلقة، تطالب لجنة متابعة قضايا التعليم العربي في البلاد بتغيير جدي في سياسة التعليم العربي ومكانته في وزارة التربية والتعليم. كذلك تطالب بإنشاء لجنة مشتركة لوزارة التربية والتعليم ولجنة متابعة قضايا التعليم العربي واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، الهدف منها فحص أوضاع التربية والتعليم العربيَّين في كل المجالات لوضع خطّة استراتيجية شاملة تسعى إلى سدّ الفجوات والنهوض بالتعليم العربي". يضيف معدي أنّ "نتائج امتحان بيزا أتت لتؤكد ضرورة إحداث تغيير عميق في سياسة وزارة التربية والتعليم، في كلّ ما يتعلّق بالتعليم العربي. فالفجوات في ميزانيات البنى التحتية الخاصة بالتعليم اليهودي وتلك الخاصة بالتعليم العربي كبيرة جداً، خصوصاً أنّ برامج التعليم لا تفي باحتياجات المجتمع العربي في كلّ ما يتعلّق بهويّة التلميذ والمدرّس والمجتمع. كذلك ثمّة ضرورة لمعالجة فورية للتعليم العربي في النقب والمدن المختلطة (حيفا واللد والرملة وعكا ويافا) والبلدات التي تعاني مشكلات اقتصادية واجتماعية صعبة.
الطريق إلى المدرسة ليس سهلاً في النقب (Getty) |
سياسات التمييز
من جهتها، ترى الدكتورة هالة إسبانيولي المتخصصة في علم النفس والتربية، أنّ "هذه النتائج تأتي متأثرة بسياسات التمييز والواقع الذي يعيشه التلميذ الفلسطيني في الداخل"، مشيرة لـ"العربي الجديد" إلى "عوامل عدّة تؤثّر على التحصيل، منها ما يتعلق بظروف المدارس وإمكانياتها وبرامج التدريس وملاءمتها لثقافة التلاميذ وكذلك طرق التدريس وكيفية التعامل مع التلميذ وغيرها، إلى جانب عوامل ذاتية". وتشرح أنّه "بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي، فهو عامل مساعد لكنّه قد لا يؤثّر سلباً على التحصيل، فنحن قد نرى أطفالاً غير ميسوري الحال إلا أنّ تحصيلهم العلمي عالٍ. الأمر يتعلق بكيفية تقبّل الوضع الاقتصادي، وكذلك كيفية تعامل الأهل مع أبنائهم. ففي الغالب، يكون الوضع الاقتصادي ضاغطاً على الأهل، وهو ما ينعكس على تعاملهم مع أبنائهم، وبالتالي يؤثّر سلباً على نفسية التلميذ وكذلك على تحصيله العلمي".
وتتابع إسبانيولي أنّ "الوضع الاقتصادي قد يؤثّر على نفسيّة التلميذ عندما لا تتوفّر لديه المستلزمات الأساسية اللازمة لدراسته من قبيل الحاسوب والكتب والدفاتر. لكنّ الأهمّ من كل ذلك هو كيفية تعامله هو مع وضعه وما يعكسه الأهل عليه". وتشرح: "نحن نعرف أنّ مجتمعنا العربي يعاني ضائقة مالية نتيجة ارتفاع البطالة وقلّة فرص العمل المتاحة، ونتيجة سياسات التمييز والإفقار، فيؤدي كلّ ذلك إلى ضائقة نفسية لدى الأهل تنعكس كذلك على الأبناء. لذلك، من أجل حلّ مشاكل التعليم، لا بدّ من أن نملك رؤية شاملة لأوضاع المجتمع العربي". وتلفت إسبانيولي إلى أنّ "المشكلة تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة، إذ أثبتت الأبحاث أنّ عدم إلحاق طفل بالحضانة يؤدّي إلى تأخّره بمعدّل عامَين عن آخر أُلحق بالحضانة"، لكنّها تشدّد في المقابل على أنّ "المشكلة ليست فقط بحضور الطفل إلى الحضانة. فاليوم، لا تنقصنا حضانات إنّما تنقصنا حضانات نوعيّة مؤهّلة لتطوير الطفل عاطفياً وجسدياً وعقلياً".
خصوصية النقب
على الرغم من أنّ التمييز يطاول التلاميذ الفلسطينيين في الداخل، بمجملهم، فإنّ الأوضاع في النقب تختلف كلياً بفعل الملاحقة الإسرائيلية المستمرّة للأهالي ومحاولات اقتلاعهم من أرضهم وقراهم، إلى جانب عدم الاعتراف بعشرات القرى الفلسطينية في منطقة النقب الصحراوية وما يترتّب على ذلك من غياب مؤسسات التعليم والرعاية. في هذا الإطار، يقول رئيس المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها في النقب، عطية الأعسم، لـ"العربي الجديد" إنّ "الظروف هنا تختلف عن الظروف الأخرى في سائر البلاد. قبل كلّ شيء، القرى غير المعترف بها لا تضمّ بمعظمها مدارس، بالتالي يضطر التلاميذ إلى التنقّل لمسافات بعيدة ليبلغوا مؤسسات تربوية. أمّا المباني، في حال توفّرها، فهي غير ملائمة وظروف التعليم في داخلها غير ملائمة كذلك. ثمّ يأتي منهاج وزارة التربية والتعليم الغريب عنّا، إذ إنّ واضعيه لا يعرفون حضارتنا، لا بل يريدون سلخنا عن حضارتنا وتاريخنا وتراثنا". يضيف الأعسم أنّ "الخدمات في تلك المدارس غير متوفّرة بطريقة تماثل المتوفّر في الوسط اليهودي. وإلى جانب ذلك، فإنّ كثيرين هم المدرّسون غير المؤهّلين. مثلاً، لدينا مدرّسون من منطقة الشمال، وثمّة اختلاف ما بين لهجة الشمال ولهجة الجنوب، بالتالي يصعب على التلاميذ الصغار فهم ما يقولون".
ويتحدّث الأعسم كذلك عن "الظروف في البيوت، وهي صعبة. فالقرى غير المعترف بها، بمعظمها، لا تتوفّر فيها خدمات من قبيل الكهرباء ولا شبكة طرقات فيما المواصلات ليست سهلة. وهو ما يضطر التلاميذ إلى التنقّل مسافات طويلة للوصول إلى مدارسهم، بالتالي يتوجّب عليهم الاستيقاظ مبكراً فيما يعودون إلى بيوتهم في وقت متأخر نسبياً". ويكمل: "عدا عن ذلك، لا تهتم الوزارة كثيراً بتحصيل التلاميذ في المجتمع العربي"، لافتاً إلى أنّه "في المجتمع العربي، نحن نتعلّم ثلاث لغات منذ الصفوف الابتدائية، وهذا يشكّل صعوبة على التلاميذ لفهم اللغة العربية وكذلك العبرية والإنكليزية".
مسؤولية المدرّسين
في سياق متصل، يتحدّث الكاتب سهيل كيوان لـ"العربي الجديد" عن تراجع القراءة في اللغة العربية، رابطاً ذلك بأسباب عدّة. ويوضح: "من المهم أن نعرف بداية أنّ ثمّة تفاوتاً ما بين المدارس ومستواها في البلدة ذاتها، وأنّ ثمّة تفاوتاً ما بين المدرّسين، وهو أمر نلمسه في المدرسة الواحدة. ومن المهم جداً الانتباه إلى أنّ الأهالي صاروا يركّزون أكثر على المواضيع العلمية واللغة الإنكليزية، ظناً منهم أنّ اللغة العربية ليست ذات أهمية لمستقبل التلميذ. كذلك، فإنّ تركيز ما هو خارج عن المنهاج يصبّ في مجال الترفيه مثل الرقص والغناء وما إليهما، مع إهمال الجانب الأدبي". يضيف كيوان أنّ "ثمّة حاجزاً يرفعه كذلك بعض المدرّسين بين التلاميذ واللغة العربية. فبدلاً من تسهيلها، يعقدونها من خلال الكلمات والتعابير، بالتالي يضعون العراقيل ويجعلون التلميذ في إعجاز، الأمر الذي ينفره من اللغة وقد رأى فيها موضوعاً شاقاً وغير ممتع".
ويتابع كيوان أنّ "في مدارس كثيرة، نجد مديرين لا يجيدون اللغة العربية وبعضهم يستخدم كثيراً اللغة العبرية في خلال نشاطه اليومي"، مشيراً إلى أنّه "حيث المدير مؤهّل في اللغة العربية يبدو التلاميذ أفضل بكثير في القراءة والتعبير. وهذا أمر لمسته بنفسي، فقد عملت في ستّ مدارس بإحدى المدن، في سياق دورات إبداعية، ووجدت أنّ ثمّة تفاوتاً بين مدرسة وأخرى على خلفيّة التفاوت ما بين المدرّسين والمديرين من ذوي الكفاءة أو الذين تنقصهم الكفاءة". يكمل أنّه بالإضافة إلى كلّ ذلك، "ثمّة ضعف في الانتماء القومي الجامع مع التركيز على الإنجازات الفردية".
تجدر الإشارة إلى أن هناك فوارق وتمييز في الميزانيات من قبل وزارة المعارف الإسرائيلية، فالتلميذ اليهودي يحظى بثمانية آلاف شيقل (نحو 2300 دولار أميركي) أكثر ممّا يخصّص للتلميذ الفلسطيني، بالإضافة إلى نقص في غرف المدارس العربية يُقدَّر بخمسة آلاف غرفة تدريس، ونقص في ساعات التدريس في تلك المدارس كذلك يُقدَّر بـ 140 ألف ساعة تعليم. في السياق نفسه، يقول رئيس لجنة السلطات المحلية العربية مضر يونس لـ"العربي الجديد" إنّ "التلميذ العربي يحصل على ميزانية أقلّ من التلميذ اليهودي وذلك باعتراف وزارة المعارف"، شارحاً أنّ "التمييز في الميزانيات يؤثّر بالتأكيد على التحصيل العلمي، لأنّ ميزانية أقلّ تعني ساعات تعليم أقلّ للتلميذ العربي".