قبل أسابيع ظهرت الحصيلة الديموغرافية في فرنسا، وظهر معها التهويل من انخفاض عدد السكان، وما يشكله من تأثير سلبي على فرنسا ومستقبلها، خصوصاً مع تدني نسبة الولادات في البلاد
يشير تقرير المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في فرنسا لعام 2019، إلى أنّ معدل الولادات في فرنسا وصل إلى 1.87 طفل لكلّ امرأة عام 2018، فقد ولد فيه 785 ألف طفل، أي ما يقل بنحو 12 ألف مولود عن 2017، وما يقل بنحو 60 ألف مولود عن 2014.
التفسير الرئيس، كما يشرح التقرير، يكمن في انخفاض معدل الخصوبة، وهو ما بدأ منذ أربع سنوات في فرنسا. وهو ما يعني أنّ عتبة تجديد الأجيال بعيدة المنال، فهي تعني أن تصل الولادات إلى مستوى 2.1 طفل لكلّ امرأة.
يؤكد التقرير أنّ انخفاض معدل الخصوبة يمسّ جميع الأعمار، وكلّ مستويات العيش. وهو ما يعني أنّ ثمة نزوعاً بنيوياً ناتجاً عن تغير الذهنيات لدى الأجيال الشابّة. واللافت أنّ النساء العربيات لا يشكلن استثناءً في هذا الصدد، بل هن أيضاً معنيات بهذا التغير لدى الأجيال الشابّة في فرنسا.
حيزية، فرنسية من أصول جزائرية، في الثالثة والأربعين من عمرها، تتولى منصباً في وزارة العمل، ولم تنجب سوى طفل واحد، وتعترف بأنّ معظم صديقاتها الفرنسيات، بمن فيهن ذوات الأصول العربية، اخترن الأمر نفسه: "نحن ثماني نساء. واحدة منا فقط أنجبت طفلين، وخمس أنجبت كلّ واحدة منهن طفلاً واحداً، وثلاث لم ينجبن بعد، مع العلم أنّهن يقتربن من سنّ اليأس".
عوامل انخفاض معدل الولادات كثيرة، كما تشرح حيزية: "لم تعد النساء يتزوجن في سنّ مبكرة، كما أنّ الضغوط العائلية ضعفت كثيراً، ومعها تكتسب الفتيات حريتهن ويمسكن بمصيرهن". تشرح ما جرى في عائلتها: "نحن عائلة من خمس بنات وولد واحد... وإذا كانت الأخت الكبرى، وهي الآن في السابعة والخمسين، أنجبت ثلاثة أطفال، فإنّ الأخريات لم يتعدين الطفل الواحد".
بدورها تقول لمياء، وهي من أصول تونسية، في الرابعة والثلاثين من عمرها، وتعمل في شركة هاتف: "في الأجيال الأولى من الهجرة، لم يكن حظ الفتيات من الدراسة كبيراً، فكثيرات تسربن بإرادتهن أو مرغمات، قبل حصولهن على الثانوية العامّة، فانتظرن الزوج، وكانت وظيفتهن الإنجاب". تستدرك: "الوضع تغير اليوم. فأنا مثلاً لم أتزوج باكراً، وحرصت على العمل ثم السفر. تزوجت قبل خمس سنوات، ولم أقرر مع زوجي أن ننجب إلّا هذا العام، أي بعد عثورنا معاً على وظيفة ثابتة وسكن مريح وظروف جيدة لاستقبال وافد جديد... وهي ليست حال خالاتي وعماتي على الإطلاق".
ثمة أسباب أخرى لانخفاض الخصوبة، من أهمّها كما يكشف الاتحاد الوطني للجمعيات العائلية في فرنسا، موقف السياسات الحكومية السلبي من العائلات التي تتكون من العديد من الأبناء. لكنّ الحكومة الفرنسية عموماً لا تقصّر في مجال تشييد حضانات جديدة للأطفال، واستقبال الأطفال فيها ابتداءً من سنّ الثالثة، وهو ما يساعد على الحفاظ على نسبة ولادات مرتفعة، مقارنة مع كثير من البلدان الأوروبية.
كثير من البلدان الأوروبية التي تعاني من الشيخوخة، تعوّل على سكانها من المهاجرين لسدّ النقص في الولادات، وفرنسا راهنت على الأمر قبل عقود، وتحديداً مع ولاية الرئيس فرانسوا ميتران الأولى، إذ كانت المحفزات المالية للإنجاب مُجزيةً، فشهدت تلك الفترة مستوىً مرتفعاً من الإنجاب بين المغاربيين والأفارقة. لم يعد الأمر سوى ذكرى، وهو ما تعترف به كوثر، وهي أستاذة للإنكليزية من أصول مغربية، وقد وُلدت في هذه الفترة بالذات، وتحديداً سنة 1985: "أمي وجاراتنا من فرنسيات وعربيات كنّ يبذلن كلّ جهودهن من أجل الإنجاب، وهو ما يفسر أنّ عدد أفراد العائلات في تلك الفترة كان كبيراً جداً".
عملية اندماج الفرنسيين من أصول عربية في المجتمع الفرنسي مستمرة، وهو ما يُكذّب كلّ مفكري اليمين، واليمين المتطرف، الذين يستحضرون خطأً دور الديانة والثقافة في حياة هذه الجالية. ومن الصحيح أنّ الإحصاءات في فرنسا، وخصوصاً الرسمية، لا تسمح بالتركيز على الديانة والإثنية، لكنّ كلّ التقديرات تشير إلى أنّ النسب متساوية بين جميع أفراد المجتمع الفرنسي. وهو ما يعني أنّ نسبة الطلاق بين أفراد الجالية العربية لا تختلف عن نظيرتها لدى شرائح أخرى من المجتمع الفرنسي. وهذا ما يشرح دور المدرسة والمؤسسات الرسمية في صهر شخصية المواطن الفرنسي، أيّاً كان انتماؤه وأصله وديانته. والنتيجة هي أنّه كلما كان المستوى الدراسي للشخص، ذكراً أو أنثى، مرتفعاً، كان إقدامه على الزواج أو حتى الإنجاب من دون زواج، في وقت متأخر أكبر، مقارَنة مع فئات أخرى تلقت مستوىً دراسياً متواضعاً، ودخلت بسرعة، وفي وقت مبكر، إلى سوق العمل.
يشير التقرير السنوي للمعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، إلى أنّ النساء في فرنسا، في المجمل، يبدأن في الإنجاب في سنّ متأخرة، أي في 30.6 عاماً في المتوسط، بعدما كنّ في سنّ 26.6 عاماً سنة 1977.
من جهتهم، ينظر المسنّون من أفراد الجالية العربية، بكثير من عدم الفهم إلى تصرفات أبنائهم وأحفادهم، لكنّهم في معظم الأحيان لا يستطيعون فعل شيء، إذ ليس في إمكانهم أن يفرضوا على أبنائهم أن يتزوجوا وينجبوا وهم لم يدخلوا بعد في سوق العمل. بدورها، تقترب سمية الخطابي، وهي مهندسة فرنسية تعمل في العاصمة الويلزية كارديف، من سنّ الأربعين، وقد سقط جنينها الأول قبل أشهر، ولا تستطيع أن تتماسك دموعها، وهي تتحدث عن والدها الذي مات قبل ثلاث سنوات، من دون أن يرى أحفاداً. تقول لـ"العربي الجديد": "لكلّ شيء ضريبة، والحرية ليست دائماً لذيذة الطعم".