لم أكترث يوماً لقول إنها مجرد رياضة، ولن أكترث. هي فعلاً ليست كذلك، هي الحياة بمعناها ورحلة البحث عنه. في 15 سبتمبر/أيلول، اعتزل "أسطورة" التنس السويسري روجر فيدرر، ولم ينته العالم، لكن رحلة البحث عن معنى وصلت إلى نهايتها.
لم يكن فيدرر مجرد لاعب تنس بالنسبة لي. وأقول هنا بمعنى حرفي قاصدة الحديث عن هذا "الكوكب" كتجربة شخصية جداً، مقتفية أثر المقال الشهير الذي كتبه ديفيد فوستر والاس في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عام 2006، وعنوانه Federer as Religious Experience، بل كان بالنسبة لي الحياة كما يجب أن تكون، أو ما يوازيها في الخيال، أو هكذا اعتقدت. ربما لأن تعلّقي برياضة التنس ارتبط بأحلام الصغر كالرغبة في الفوز، والبحث عن "الإلهام" والنموذج المحتذى به، كما علمونا أطفالاً وصدعوا رؤوسنا، في سبيل النجاح وتحقيق الذات، منذ أن كانت بطولة أستراليا المفتوحة محطة سنوية تصادف العطلة المدرسية الشتوية.
شكّل فيدرر المثال الناجح الباحث عن تحقيق الفوز تلو الفوز، واعتلاء القمة في مهنته، كما تحلم فتاة في عمرها أن تكون، رغم أنّ قصة بدايته تبدو عادية جداً، لا تبهرني كما وسائل الإعلام أو من يحاول أن يرسمها حالياً. فهو نشأ كطفل جامع للكرات لم يعانِ في بلاد غنية تتوفر فيها وسائل تطور اللعبة، ويتكلم عدة لغات، لم يكن فقيراً ولا من عائلة كبيرة، ومع ذلك، يبكي عندما يخسر وأحياناً أخرى عندما يربح، ويلاحق الطموحات. كان هذا ما يمثله حينذاك بالنسبة لفتاة تشق طريقها في الحياة، يبدو لها النجاح خطة ترسمها وتعاني في سبيلها، فتأتي النتائج مضمونة لا محالة. وتبقى هذه ذكرى جميلة لشابة بلغت ما بلغته كما غيرها من صدمة الحياة، فإذا بالأحلام تتبدد أضغاث أحلام.
أتذكر تاريخ 7 يونيو/حزيران 2009 جيداً، إنه اليوم الذي يحق لي فيه الاقتراع في الانتخابات النيابية اللبنانية، لكنه كذلك اليوم الذي شهد تحقيق فيدرر رقما تاريخيا بعد الفوز ببطولة رولان غاروس الفرنسية إثر معاناة. كم كان حلم التغيير يبدو ساذجاً، وكل ما يحكى وحكي لنا عن بصمتنا في الحياة.
لاعب التنس هذا لم يكن بالنسبة لي مجرد لاعب، أو شخصية مشهورة أجمع صورها كأي عاشق مهووس، أو أرتب اقتباسات من كلامها في ملفات لا يدري بها سواي، بل كان مثالاً للجمال المؤنس وسط البشاعة والمعاناة اليومية، أهرب إلى مشاهدة مبارياته لأجد لحظات من المتعة، وأرتب برنامج دراستي حسب مواعيد بطولاته، وطبعاً وفق ما تقتضيه الكهرباء وسط ساعات العتمة، فيصبح أسلوبه الجميل كما لو كان عازفاً بمضربه، أو راقص باليه وفق الوصف المتداول، ملاذاً مخلصاً من واقع لا أنتمي إليه.
يصعب الحديث عن وصف ما يمكن للإنسان بلوغه في عالم الرياضة من إمكانيات خارقة، من دون مقارنة الرياضيين بالفنانين الموهوبين "الخارجين عن الطبيعة" "المستثنين، جزئياً على الأقل، من قوانين فيزيائية معينة" كما يقول والاس في مقاله عن فيدرر. ومع ذلك، كان فيدرر إنساناً عادياً تغلبه مشاعره أحياناً، وأحياناً أخرى يبدو أبدياً لا ينتهي شغفه رغم كل ما حققه من أرقام.. ألا ينتهي شغف الإنسان؟
لا أدري إن كان قد حقق ما حقق من أرقام قياسية، لأنه لم يبن أحلاماً في الرياح، بل أراد يوماً ما أن يفوز فقط بلقب ويمبلدون، فإذا به يحمل كأسها ثماني مرات، إلى جانب البطولات الأخرى التي جعلته بالنسبة لكثيرين، وأنا منهم، الأعظم في التاريخ. هذا التاريخ الذي يبدو اليوم وقد اعتزل نقطة النهاية التي يكتمل عندها معنى كل شيء. لقد كان فيدرر ولا يزال محبوب الجماهير، لكنني لم أعد أكترث لأي اهتمام أو استحسان، أفضل الانعزال، ولما لا التلاشي. هل هكذا نصبح عندما نكبر؟ إنه العمر الذي غلب فيدرر، رغم أنه كان يوماً مثالاً للتنافس مع الخصوم الذين كانوا بالنسبة له النار أمام الثلج، واستنجدوا بالقوة مقابل السحر، فإذا به بأسلوبه السهل الممتنع والـeffortless يتغلب، يرفع الأدرينالين، ويرتقي بالأحاسيس.. يسلي ويمتع.
يقولون إنّ المسيرة تنتهي يوماً وهذه العبرة ومعنى الحياة، وإنّ كل المكمن هو في الرحلة، لكن الرحلة حملت الكثير لفيدرر بينما تركت لي فقط الذكريات.. ذكرى فرحة مشاهدته في الملعب مع والدي الذي يعود له الفضل بتعلّق بناته الأربع بالرياضة، رغم ذكورية البعض في مجتمع يسخر من امرأة إذا ما حللت مباراة. هذا الفرح الذي يبدو بعيداً الآن، وقد تقدم العمر بي من دون إنجازات.
يعتزل فيدرر مهنته التي أحب بينما تغلبني الدموع، وكأن مسيرته المتلازمة مع يومياتي وصلت إلى نقطة افتراق، يسير هو بأمل منحني إياه يوماً وقضى عليّ، بينما أمضي ومعي اليقين بما يبقيني.
كانت هذه اللحظة قادمة لا محالة، ما شككت في ذلك، وبها اكتمل معنى كل شيء وعندها انتهى. منذ فترة ليست ببعيدة، كنت أظن أنني لن أستطيع العيش من دون حب وشغف، وها أنا ما زلت حية ولم أعد أكترث، لكنني أيقنت أنّ الجمال هو الوحيد الذي لا نخسره، نبقى نلاقيه ويلاقينا.. ويجعلنا نكمل.