رحل بطل الشعب، بشغفه وجنونه وتاريخه، ترك دييغو هذا العالم إلى مكانٍ آخر هناك في الأعلى. كانت المفاجأة بالنسبة لي صادمة، حتى أنني لم أستطع النوم حتى ساعات الصباح الأولى، كنت محباً لذلك الرجل اللاتيني القصير، لكنني لم أعرف حجم ومدى هذا الحبّ حتى جاء الخبر اليقين، لقد فارق مارادونا الحياة.
هل يشاهد دييغو الآن كلّ هذا الحبّ؟ هل يرى الدموع التي ذُرفت في كلّ بقعة بأرجاء هذه المعمورة؟ في نابولي الحال كما في بيونس آيرس، الحزن واحدٌ والدموع لا تتوقف، البومبونيرا كما الكامب وسان باولو، الملعب الذي سيحمل اسمك حتى الأزل وسيرافق الأجيال القادمة، التي ستسأل من هو مارادونا، ربما في عام 3020.
إذاً غادرنا دييغو. أفلت الكرة، عشيقته التي أحبها، لن نشاهده يدوس البساط الأخضر مجدداً، ربما هو الآن يستمع لهتافات العشاق في نابولي وكلمات رددها المتيمون في بوكا أيضاً "Ho visto Maradona"، أو يدندن بينه وبين نفسه، تلك الأغنية التي أنشدها يوماً في الوثائقي الذي يحكي سيرة حياته "Maradona by Kusturica"، التي يحتفل في آخرها بكلماتٍ تلامس أبعد مكانٍ في القلب "OLE OLE OLE DIEGO DIEGO"، نعم أنت تحاول أن تعيدها في قرارة نفسك.
كان الليل طويلاً بالنسبة لي، ودّعت مارادونا بإعداد التقارير عنه، ومن ثم شاهدت فيديوهات حتى الخامسة صباحاً، تلك الضحكة رغم المعاناة، رغم الانتقادات، تلك الشعبية الجارفة التي لم يحاول صنعها قاصداً ذلك، كما يفعل البعض الآن.
نكهته كانت مختلفة، نعم أنا أحبه، كنت أرى فيه الثورة، الوقوف ضد الإمبريالية والظلم، من خلاله كنت أشعر بطيف الرفيقين فيدل كاسترو وإرنستو تشي غيفارا في هذا العالم، لكن الآن، مع رحيل صاحب القدم اليسرى المبدعة، الخارقة للطبيعة، انطفأت الثورة في مخيلتي، وماتت الكثير من الأحلام، لن نرى شغبه مجدداً، سوى في مقاطع الفيديو.
لم يُؤثر مارادونا على جيلٍ واحد، بل كان يتنقل من جدٍ لابن لحفيد، حتى وصلنا لعام 2020، ستشاهد بعض الذين ولدوا حتى بعد اعتزاله قد بكوا عليه، فالإرث الذي تركه لم يكن لأحدٍ أن يصل له، كان العبقري الذي هزم الألمان في 1986، الخارق للعادة الذي دفع الإنكليز نحو الجنون، كان ذلك الطفل الذي بكى في مونديال 1990.
قد لا تُحب مارادونا، وربما تقول عنه "المنحرف المخمور" لكنني لن أفعل ذلك، أنا أراه بطل الشعب، القادم من أحياء العاصمة الأرجنتينية الفقيرة، لن تعرف ظروف الأشخاص ولا كيف عاشوا حتى تصوّب عليهم أسهم النقد حتى بعد وفاتهم.
في كتب التاريخ سُجلت أسماء الثوار الذين حرروا البلاد، على غرار مانويل بيلغرانو وخوان خوسيه كاستيلي وخوسيه دي سان مارتن، هؤلاء كانوا وراء أول حرب من أجل الاستقلال في الأرجنتين وأميركا اللاتينية بوجه الإمبراطورية الإسبانية، الآن دييغو "لاعب الكرة" سينضمّ لقائمة العظماء هناك أيضا.
فارق الحياة.. مُلهم المتيمين بعالم كرة القدم. في الصغر كنا نردد بضع كلماتٍ كلّما حاول أحدهم إطالة المراوغة "يا هذا اتظن نفسك مارادونا"
رحل الرجل القصيرُ بصمتٍ دون أن نودعه، وهل تكفي كلمات الرثاء في حضرة بطل الشعب؟ صاحب القدم اليسرى الخارقة، من أرض الفضة إلى القارة العجوز، إلهُ جنوب إيطاليا، بل هو كيوبيدو إله الحب عند الرومان.
في البومبونيرا حكاية وفي سان باولو رواية، وخرافةٌ سُطّرت واقعاً في أرض المكسيك، هزم الإنكليز وحده بيدٍ من السماء وهدف القرن.
كان بطل الشعب، كان يُشبه حقيقتنا التي نحاول جميعا أن نخفيها، بكلّ عثراته وهفواته، كان صورة وانعكاساً لأخطائنا نحن البشر، لكن ذنبه الوحيد كان أنه مارادونا.
هو أشبه بأغنية ثورية، حمل شعاراً واحداً، "دائماً حتى النصر"، هو الهدوء وسط الضجيج، هو الصخب في عزّ السكون.
حتى بعد موتك تعرف كيف تنتصر، رحلت لكنك ستبقى حياً في قلوبنا جميعاً. وداعاً دييغو.
أنا عاشق التناقضات في الحياة، ومحبٌّ لكلّ ما هو غريب وأريد أن أنهي ما بدأت به ببيت رثاءٍ من قصيدة الخنساء "كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَت فيضٌ يسيلُ على الخدين مدرار".
وداعاً دييغو.