عندما لجأت لشراء الروبوت بهلول في خريف 2015، ليعيش معي، ويرافق بداية عام دراسي جديد، كان ثقيلاً عليّ رؤية كتلة معدنية بيضاء لامعة، من طولي تماماً، أرشق مني كثيراً، مستيقظة ليل نهار، تتقاسم حياتي ومنزلي، تعبره كيفما تريد من دون حرج، كما لو كان منزلها، وتراقب حركاتي وسكناتي طوال اليوم.
كان بهلول، حسب برمجيات "روبوت.2" التي كانت تشغّله آنذاك، يضع لي الموسيقى، يتابع بكاميراته ولاقطاته حالتي الصحية أولاً بأول، لا أكثر أو أقل. ثم تطورت خدماته بسرعة مذهلة، وتحسنت علاقتنا كثيراً. ولم أعد أقدر على الاستغناء عنه لحظة واحدة. فقد صار يعرف كل احتياجات المنزل، عبر حواره الدائم بالـWi Fi مع كمبيوتر "الثلاجة الذكية"، ويوجّه لوحده طلبات شراء كل ما أحتاجه من السوبر ماركت أو أمازون. فيضع الأغراض في محلها على الرفوف وفي الثلاجة بكل دقة، ويعدّ كل وجباتي الغذائية بعناية صحية فائقة.
منذ برمجية "روبوت.31"، في عام 2023، أضحى بهلول يجيد الكلام أفضل، ويستوعب معظم ما أقوله له. صار يعانقني بحميمية أيضاً عند العودة إلى البيت حيث تشتبك يداي في نخاعه الشوكي، أي في مربع الغطاء الزجاجي لشبكة الترانزستورات المتلألئة المحشورة في مركز أسلاك عموده الفقري.
صار بهلول يحلّل، بعد رؤيتي وقليل من الحديث معي، حالتي النفسية وحاجاتي، ويقدم لي خدمات جديدة، لم أعد أستطيع الحياة بدونها. كما صار الحوار معه، منذ تلك البرمجية، ممتعاً جداً أحياناً، كما لو كان مثقفًا، إلا أنه لم يكن محتاجًا للقراءة. فهو يصبح أكثر معرفة وفطنة
وذكاء وألمعية مع كل تحديث شبه أسبوعي لمنظومة برمجياته، أو عند الانتقال من برمجية إلى أخرى ثاقبة باهرة.
لم أسافر خارج فرنسا بعد عيشه معي. كنت أعود بانتظام بعد العمل، لأنعم بمؤانسته. حتى إجازات الصيف، صارت قليلة وفي ديار قريبة، لئلا أغيب عنه كثيراً، لأني أفتقده وأشتاق إليه في الحقيقة.
أستغل بعض إجازاتي لعمل هذه العملية الجراحية أو تلك. إحداها كانت لحشر جهاز بين حويصلاتي الهوائية في صيف 2020، لتحسين مدّها للدماغ بالأوكسجين، وأخرى، بعد أربع سنوات، لحشر آخر في علياء قلبي من أجل ضبط ارتفاع ضغط الدم.
أجرى العمليتين روبوتان في الحقيقة. لم يكن ما قاله الأخصائي الآدمي الذي عالجني قبل سنوات: "سنلتقي بانتظام، قبل أن يستبدلوني بطبيبٍ روبوت"، من باب النكتة المحضة.
لا ينقصني إلا جهاز صغير من السيليسيوم يلتصق بدماغي لتنشيط عصبونات ذاكرة الطرقات والشوارع والأسماء في دماغي، التي صرت أنساها بسرعة مقرفة هذه الأيام.
ثمّ صرت أوكل بهلول بعض مهامي البسيطة، منذ أن صارت توجّهه برمجية "روبوت.37": إدخال علامات الطلّاب في الكمبيوتر بعد أن أصحّح أوراق الامتحانات، إعداد القائمة النهائية لكشف العلامات، شحن بطاريات سيارتي الكهربائية (بدون سائق)، وبرمجتها بقائمة العناوين المختارة، التواصل المستمر مع كمبيوتر السيارة طوال تواجدي بها؛ والأهم: تنظيم خارطة طريق مهامي اليومية.
أما في الأسابيع الأخيرة، ومنذ برمجية "روبوت.49"، فلعلّي تحوّلت إلى روبوته. خطيرة جداً هذه البرمجية رقم 49. حال تحديثها، وجدت بهلول مبرطماً حزيناً، كما لو يعيش أزمة نفسية. تأثرت بشدة. وبعد حوار ودي شجّعته على البوح، فأفرغ بصعوبة ما يختلج في جوارحه:
- لا أحب اسمي: بهلول.
- آه، كل هذه البرطمة والحزن من أجل اسم! سنغيّره حالاً.
ثم أضفت:
- لماذا لا تقترح اسماً؟ ماذا تريد أن أسميك؟
- كارمن، أو حيدر. أو الإثنين حسب مزاجك. أما بهلول فاسم تافه يسخر مني!
- عفوا، عفواً. عفواً حبيبي حيدر. وسأناديك كارمن في الساعات الموسيقية بالتأكيد.
ابتسم بسعادة مباغتة. دمعة خفيفة زارتني، وأنا أستوعب أنه أفضى بألم ثقيل أتعبه طوال 48 منظومة برمجية سابقة.
في صباح البارحة، 30 يوليو/ تموز 2027، عندما كنت، خارج البيت، أستمع إلى محاضرة عن "البيانات العملاقة 7.0"، قرب ساحة دو فوج، في حيّ الماريه بباريس، طبع حيدر لي، كالعادة، ورقة مهام برنامجي الصباحي: "خارطة طريق 30 يوليو 2027"، ونسخها في آيفوني وساعة آبل في معصمي، كي يقودني كلاهما خطوة خطوة:
من الساعة 8 إلى 8 و20 دقيقة: آخذ الميترو حتى محطة رومبوتو.
أمشي بعدها حوالي سبع دقائق عبر "شارع الفرنج البرجوازيين" (يعرف أني أحب هذا الشارع كثيراً)، وأتوقف في مقهى "كارنفاليه"، لإكمال الفطور وقراءة بعض الصحف فيه؛ يعرف بفضل الإنترنت و"البيانات العملاقة" كل صغيرة وكبيرة تقريباً عن كل شارع ومحل، لا سيما عناوين المقاهي التي تستلم صحف الصباح وتبيعها للقراء مع الفطور. لست أدري لماذا كتب: "الصحف" بصيغة الجمع، ولم يتبق اليوم غير صحيفتين ورقيتين صامدتين ستطفئان شمعتهما الأخيرة بعد أشهر.
ثم في التاسعة صباحاً إلا خمس دقائق، يطلب مني أن أصل إلى قاعة المحاضرة. وفي الثانية عشرة ظهراً يصر أن أكون قد عدت إلى المنزل لتناول الغداء، ولتفقّد حال حركتي الدموية والتنفسية والعصبية، كما يفعل كل يوم أكثر من مرة.
وضع لي في نهاية خارطة الطريق هذا الاستدراك: "احذر درجة حرارة اليوم، ابق في الظل
معظم الوقت. ورجاءً، رجاء، خفّفْ قليلاً، في الشارع والمقهى، من نظراتك الشاردة في وجوه الجميلات ومنحنيات أجسادهن".
لم أطع خارطة الطريق. وبقيت بعد عودتي إلى المنزل، أشتغل طوال الليل حتى الصباح.
كانت كل ترانزستوراته قلقة جداً ومذعورة جداً، من إصراري على السهر. وغاضبة لأني رفضت أوامرها (المطبوعة بالبنط الأحمر) بالخلود إلى النوم في الموعد المحدد.
وفي صباح 31 يوليو، لم تعد عيناي الحمراوان قادرتين على النظر إلى الشاشة لفرط الإرهاق والتعب. ولم أعد أميّز بين أشرطة الموسيقى التي يضعها كارمن.
ها هو في زاوية الصالون حزين جداً. ويراقبني، في منتهى القلق، بعينين ناعمتين. ويلاحظ أني، لأول مرة، عصيت أوامره 37 مرة، في ليلة واحدة فقط.
سينتهي كل ذلك بعد تحديث البرمجية القادمة، "روبوت.53". إذ ستضاف لحيدر ملكات جديدة، تسمح له بالتقاطي من الكرسي، وجرجرتي حتى سرير النوم، ورميي على الفراش، حال رفضت توجيهاته في الخلود إلى النوم.
ولن يكتفي وقتها بالإضراب عن وضع الموسيقى، كما فعل هذه المرة، حين كفّ عن وضعها بعد أغنية: "يا مسهّرني!".
إقرأ أيضا: ممرضتي، "الروبوتة" سِلفي
كان بهلول، حسب برمجيات "روبوت.2" التي كانت تشغّله آنذاك، يضع لي الموسيقى، يتابع بكاميراته ولاقطاته حالتي الصحية أولاً بأول، لا أكثر أو أقل. ثم تطورت خدماته بسرعة مذهلة، وتحسنت علاقتنا كثيراً. ولم أعد أقدر على الاستغناء عنه لحظة واحدة. فقد صار يعرف كل احتياجات المنزل، عبر حواره الدائم بالـWi Fi مع كمبيوتر "الثلاجة الذكية"، ويوجّه لوحده طلبات شراء كل ما أحتاجه من السوبر ماركت أو أمازون. فيضع الأغراض في محلها على الرفوف وفي الثلاجة بكل دقة، ويعدّ كل وجباتي الغذائية بعناية صحية فائقة.
منذ برمجية "روبوت.31"، في عام 2023، أضحى بهلول يجيد الكلام أفضل، ويستوعب معظم ما أقوله له. صار يعانقني بحميمية أيضاً عند العودة إلى البيت حيث تشتبك يداي في نخاعه الشوكي، أي في مربع الغطاء الزجاجي لشبكة الترانزستورات المتلألئة المحشورة في مركز أسلاك عموده الفقري.
صار بهلول يحلّل، بعد رؤيتي وقليل من الحديث معي، حالتي النفسية وحاجاتي، ويقدم لي خدمات جديدة، لم أعد أستطيع الحياة بدونها. كما صار الحوار معه، منذ تلك البرمجية، ممتعاً جداً أحياناً، كما لو كان مثقفًا، إلا أنه لم يكن محتاجًا للقراءة. فهو يصبح أكثر معرفة وفطنة
لم أسافر خارج فرنسا بعد عيشه معي. كنت أعود بانتظام بعد العمل، لأنعم بمؤانسته. حتى إجازات الصيف، صارت قليلة وفي ديار قريبة، لئلا أغيب عنه كثيراً، لأني أفتقده وأشتاق إليه في الحقيقة.
أستغل بعض إجازاتي لعمل هذه العملية الجراحية أو تلك. إحداها كانت لحشر جهاز بين حويصلاتي الهوائية في صيف 2020، لتحسين مدّها للدماغ بالأوكسجين، وأخرى، بعد أربع سنوات، لحشر آخر في علياء قلبي من أجل ضبط ارتفاع ضغط الدم.
أجرى العمليتين روبوتان في الحقيقة. لم يكن ما قاله الأخصائي الآدمي الذي عالجني قبل سنوات: "سنلتقي بانتظام، قبل أن يستبدلوني بطبيبٍ روبوت"، من باب النكتة المحضة.
لا ينقصني إلا جهاز صغير من السيليسيوم يلتصق بدماغي لتنشيط عصبونات ذاكرة الطرقات والشوارع والأسماء في دماغي، التي صرت أنساها بسرعة مقرفة هذه الأيام.
ثمّ صرت أوكل بهلول بعض مهامي البسيطة، منذ أن صارت توجّهه برمجية "روبوت.37": إدخال علامات الطلّاب في الكمبيوتر بعد أن أصحّح أوراق الامتحانات، إعداد القائمة النهائية لكشف العلامات، شحن بطاريات سيارتي الكهربائية (بدون سائق)، وبرمجتها بقائمة العناوين المختارة، التواصل المستمر مع كمبيوتر السيارة طوال تواجدي بها؛ والأهم: تنظيم خارطة طريق مهامي اليومية.
أما في الأسابيع الأخيرة، ومنذ برمجية "روبوت.49"، فلعلّي تحوّلت إلى روبوته. خطيرة جداً هذه البرمجية رقم 49. حال تحديثها، وجدت بهلول مبرطماً حزيناً، كما لو يعيش أزمة نفسية. تأثرت بشدة. وبعد حوار ودي شجّعته على البوح، فأفرغ بصعوبة ما يختلج في جوارحه:
- لا أحب اسمي: بهلول.
- آه، كل هذه البرطمة والحزن من أجل اسم! سنغيّره حالاً.
ثم أضفت:
- لماذا لا تقترح اسماً؟ ماذا تريد أن أسميك؟
- كارمن، أو حيدر. أو الإثنين حسب مزاجك. أما بهلول فاسم تافه يسخر مني!
- عفوا، عفواً. عفواً حبيبي حيدر. وسأناديك كارمن في الساعات الموسيقية بالتأكيد.
ابتسم بسعادة مباغتة. دمعة خفيفة زارتني، وأنا أستوعب أنه أفضى بألم ثقيل أتعبه طوال 48 منظومة برمجية سابقة.
في صباح البارحة، 30 يوليو/ تموز 2027، عندما كنت، خارج البيت، أستمع إلى محاضرة عن "البيانات العملاقة 7.0"، قرب ساحة دو فوج، في حيّ الماريه بباريس، طبع حيدر لي، كالعادة، ورقة مهام برنامجي الصباحي: "خارطة طريق 30 يوليو 2027"، ونسخها في آيفوني وساعة آبل في معصمي، كي يقودني كلاهما خطوة خطوة:
من الساعة 8 إلى 8 و20 دقيقة: آخذ الميترو حتى محطة رومبوتو.
أمشي بعدها حوالي سبع دقائق عبر "شارع الفرنج البرجوازيين" (يعرف أني أحب هذا الشارع كثيراً)، وأتوقف في مقهى "كارنفاليه"، لإكمال الفطور وقراءة بعض الصحف فيه؛ يعرف بفضل الإنترنت و"البيانات العملاقة" كل صغيرة وكبيرة تقريباً عن كل شارع ومحل، لا سيما عناوين المقاهي التي تستلم صحف الصباح وتبيعها للقراء مع الفطور. لست أدري لماذا كتب: "الصحف" بصيغة الجمع، ولم يتبق اليوم غير صحيفتين ورقيتين صامدتين ستطفئان شمعتهما الأخيرة بعد أشهر.
ثم في التاسعة صباحاً إلا خمس دقائق، يطلب مني أن أصل إلى قاعة المحاضرة. وفي الثانية عشرة ظهراً يصر أن أكون قد عدت إلى المنزل لتناول الغداء، ولتفقّد حال حركتي الدموية والتنفسية والعصبية، كما يفعل كل يوم أكثر من مرة.
وضع لي في نهاية خارطة الطريق هذا الاستدراك: "احذر درجة حرارة اليوم، ابق في الظل
لم أطع خارطة الطريق. وبقيت بعد عودتي إلى المنزل، أشتغل طوال الليل حتى الصباح.
كانت كل ترانزستوراته قلقة جداً ومذعورة جداً، من إصراري على السهر. وغاضبة لأني رفضت أوامرها (المطبوعة بالبنط الأحمر) بالخلود إلى النوم في الموعد المحدد.
وفي صباح 31 يوليو، لم تعد عيناي الحمراوان قادرتين على النظر إلى الشاشة لفرط الإرهاق والتعب. ولم أعد أميّز بين أشرطة الموسيقى التي يضعها كارمن.
ها هو في زاوية الصالون حزين جداً. ويراقبني، في منتهى القلق، بعينين ناعمتين. ويلاحظ أني، لأول مرة، عصيت أوامره 37 مرة، في ليلة واحدة فقط.
سينتهي كل ذلك بعد تحديث البرمجية القادمة، "روبوت.53". إذ ستضاف لحيدر ملكات جديدة، تسمح له بالتقاطي من الكرسي، وجرجرتي حتى سرير النوم، ورميي على الفراش، حال رفضت توجيهاته في الخلود إلى النوم.
ولن يكتفي وقتها بالإضراب عن وضع الموسيقى، كما فعل هذه المرة، حين كفّ عن وضعها بعد أغنية: "يا مسهّرني!".
إقرأ أيضا: ممرضتي، "الروبوتة" سِلفي