في بداية نشأتي الأدبية، كنت أشعر بالغيرة من رجال المشهد الثقافي في مدينة حلب، المدينة التي وُلدت فيها، وبدأت منها مشروعي الكتابي.
كان الرجال يجتمعون في المقهى، وكانت ظاهرة المقهى في تلك المدينة، في ذلك الوقت على الأقل، حكراً على الرجال.
كنتُ أمرّ من وقت لآخر، في طريقي إلى العمل، من أمام "مقهى القصر" الذي تجتمع فيه عند الظهيرة خاصة، الكثير من الأسماء المعروفة من الكتّاب الحلبيين. وكنت أتجرأ فأبتسم لصديق كاتب، التقيته قبل أيام في مكان آخر، في الجامعة، أو في بيت أصدقاء الكتابة. كنّا الصديق في المقهى وأنا، حذرين ألاّ نلفت النظر، في مدينة تؤثّم النساء كيفما استدرن.
لم يكن لمقهى القصر ذلك الصيت الثقافي في سنين شبابي فقط، بل كان محطة لقاء قبل نشأتي. إذ رويت لي القصص عن فنّانين معروفين في حلب، كانوا يلتقون فيه.
كنت أغار أحياناً من أولئك الرجال، من حريتهم في اللقاء، بينما نحن الكاتبات، لدينا أماكن محددة، لا تلفت النظر، أماكن نخبوية قليلاً أو سرّية جداً: قاعات الجامعات، ومقاصف الكليات، وملتقيات الشعر، والنادي السينمائي، وبيوت الأصدقاء أي الحلقات الأوسع للتبادل الثقافي وإشاعة النميمة أيضًا.
كان ثمة مقاهٍ كثيرة حول قلعة حلب، ترتادها النساء، ويدخّنّ الأركيلة، إلا أنّها اتسمت بصبغة سياحية، أو اجتماعية، من دون أن تحمل بذرة شغفي الذي لاحقني: الثقافة في المقهى.
حين انتقلت إلى باريس، من حلب مباشرة، من مدينة مغلقة، يحتكر رجالها المقاهي، إلى مدينة تبدو فيها جلسة المرأة في المقهى، أدنى درجات الحرية المُتاحة.
من حلب إلى باريس انتقلت إذن، من دون المرور بمدن "وسطية"، تقبل تواجد المرأة العربية في المقهى من دون جدل، مثل دمشق أو بيروت.
رحت أمارس شغف المقهى في باريس، مملوءة بالإحساس بالحرمان القديم: مقاهي باريس لا تشبه مقاهينا. ومن باريس، أُتيحت لي استعادة حلمي وتحقيقه؛ في بيروت أولاً، ثم في القاهرة.
مقاهي القاهرة أطلقت حلمي من كبوته القديمة، فرحت أُشبع شغفي، عبر مقاهي الحسين، ومقاهي وسط البلد. وحين كتبت روايتي "الراويات"، التي بدا المكان فيها فانتازياً إلى حدّ كبير، وجدتني أتعرّض لذكر المكان الواقعي، فتأتي مقاهي القاهرة، كمكان وحيد واقعي في روايتي. والسبب كما أظن، أن مقاهي القاهرة، كانت في عمقي، لا تزال تحمل دلالة فانتازيّة. كأنني لم أهضم "عاديتها"، فظلّ المقهى، حلمًا يتحقق، ولا أستوعب أنه يتحقق فعلًا.
حين كتبت في روايتي عن مقهى "زهرة البستان" في القاهرة، لم تكن ظاهرة "قعدات الجمعة" قد شاعت بعد. كانت مجرد لقاءات عفوية، إلا أنها أخذت مع مرور الوقت شكل "القعدة" الثابتة. وهكذا صار "زهرة البستان"، مكاناً أسبوعيًا يجمع كتّاب القاهرة ومثقفيها. هناك، التقيت الكثير من الأسماء الموجودة في المشهد الثقافي، ومنحني "زهرة البستان" حقّي في التواجد، ككاتبة امرأة، بصحبة كتّاب رجال، من دون تأثيم أو نميمة. فبدت القاهرة تعيد لي حقّي المسلوب في حلب.
حين سمعت بالتفجير الذي أصاب ساحة سعد الله الجابري في حلب، اتصلت بصديقي في حلب، وكان يبكي. قد يبدو هذا الكلام ترفاً، لكن من لم يذهب يومياً إلى مقهى "جحا" هناك، ويدسّ ذكرياته، تفصيلاً تلو الآخر هناك، لن يفهم ذلك المكان.
راح رشاد صديقي يحدثني عن صبي المقهى، عن العلاقة التاريخية معه، ثم كتب الشاعر محمّد فؤاد عن ألمه وتهدم ذكريات شعراء حلب وكتّابها، في مقهى جحا.
تأخذني باريس عند كلّ مقارنة، فظاهرة المقهى الثقافي موجودة في الغرب، في فرنسا مثلاً، هو مكان للقاء شخصيات مؤثرة، للحوار في ما بينها، أو مع الحضور. وقد كانت فرانسواز ساغان، من روّاد المقاهي. وفي حي سان جرمان في باريس، لا يزال المقهى الذي كان يرتاده جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار قائماً، وفي حي كليشي في باريس أيضًا، هناك مقهى ارتاده دائماً هنري ميللر وأنييس نن. فلماذا لا ننقل ظاهرة المقهى "الاعتباطية" في العالم العربي، إلى مكان حقيقي للّقاءات والنشاطات الموازية للمؤسسة الرسمية، مع بعض التنظيم الخفيف الذي لا بدّ منه، لترتيب اللقاءات، أو القعدات.
أغلب المشاريع خرجت من حلم أو فكرة بدت رومانسية أو خيالية في وقتها، فهل يمكن للكتّاب العرب، تأسيس مقهاهم الثقافي العربي الشامل، في القاهرة، المدينة التي أدهشتني ولم أكتفِ بعد بما كتبته عنها لأفيها حقّها في الإلهام، تلك التي كتبتُ عنها:" إن كانت الحياة في مكان آخر ـ كما يقول كونديرا ـ فيجب أن تكون في القاهرة".
كان الرجال يجتمعون في المقهى، وكانت ظاهرة المقهى في تلك المدينة، في ذلك الوقت على الأقل، حكراً على الرجال.
كنتُ أمرّ من وقت لآخر، في طريقي إلى العمل، من أمام "مقهى القصر" الذي تجتمع فيه عند الظهيرة خاصة، الكثير من الأسماء المعروفة من الكتّاب الحلبيين. وكنت أتجرأ فأبتسم لصديق كاتب، التقيته قبل أيام في مكان آخر، في الجامعة، أو في بيت أصدقاء الكتابة. كنّا الصديق في المقهى وأنا، حذرين ألاّ نلفت النظر، في مدينة تؤثّم النساء كيفما استدرن.
لم يكن لمقهى القصر ذلك الصيت الثقافي في سنين شبابي فقط، بل كان محطة لقاء قبل نشأتي. إذ رويت لي القصص عن فنّانين معروفين في حلب، كانوا يلتقون فيه.
كنت أغار أحياناً من أولئك الرجال، من حريتهم في اللقاء، بينما نحن الكاتبات، لدينا أماكن محددة، لا تلفت النظر، أماكن نخبوية قليلاً أو سرّية جداً: قاعات الجامعات، ومقاصف الكليات، وملتقيات الشعر، والنادي السينمائي، وبيوت الأصدقاء أي الحلقات الأوسع للتبادل الثقافي وإشاعة النميمة أيضًا.
كان ثمة مقاهٍ كثيرة حول قلعة حلب، ترتادها النساء، ويدخّنّ الأركيلة، إلا أنّها اتسمت بصبغة سياحية، أو اجتماعية، من دون أن تحمل بذرة شغفي الذي لاحقني: الثقافة في المقهى.
حين انتقلت إلى باريس، من حلب مباشرة، من مدينة مغلقة، يحتكر رجالها المقاهي، إلى مدينة تبدو فيها جلسة المرأة في المقهى، أدنى درجات الحرية المُتاحة.
من حلب إلى باريس انتقلت إذن، من دون المرور بمدن "وسطية"، تقبل تواجد المرأة العربية في المقهى من دون جدل، مثل دمشق أو بيروت.
رحت أمارس شغف المقهى في باريس، مملوءة بالإحساس بالحرمان القديم: مقاهي باريس لا تشبه مقاهينا. ومن باريس، أُتيحت لي استعادة حلمي وتحقيقه؛ في بيروت أولاً، ثم في القاهرة.
مقاهي القاهرة أطلقت حلمي من كبوته القديمة، فرحت أُشبع شغفي، عبر مقاهي الحسين، ومقاهي وسط البلد. وحين كتبت روايتي "الراويات"، التي بدا المكان فيها فانتازياً إلى حدّ كبير، وجدتني أتعرّض لذكر المكان الواقعي، فتأتي مقاهي القاهرة، كمكان وحيد واقعي في روايتي. والسبب كما أظن، أن مقاهي القاهرة، كانت في عمقي، لا تزال تحمل دلالة فانتازيّة. كأنني لم أهضم "عاديتها"، فظلّ المقهى، حلمًا يتحقق، ولا أستوعب أنه يتحقق فعلًا.
حين كتبت في روايتي عن مقهى "زهرة البستان" في القاهرة، لم تكن ظاهرة "قعدات الجمعة" قد شاعت بعد. كانت مجرد لقاءات عفوية، إلا أنها أخذت مع مرور الوقت شكل "القعدة" الثابتة. وهكذا صار "زهرة البستان"، مكاناً أسبوعيًا يجمع كتّاب القاهرة ومثقفيها. هناك، التقيت الكثير من الأسماء الموجودة في المشهد الثقافي، ومنحني "زهرة البستان" حقّي في التواجد، ككاتبة امرأة، بصحبة كتّاب رجال، من دون تأثيم أو نميمة. فبدت القاهرة تعيد لي حقّي المسلوب في حلب.
حين سمعت بالتفجير الذي أصاب ساحة سعد الله الجابري في حلب، اتصلت بصديقي في حلب، وكان يبكي. قد يبدو هذا الكلام ترفاً، لكن من لم يذهب يومياً إلى مقهى "جحا" هناك، ويدسّ ذكرياته، تفصيلاً تلو الآخر هناك، لن يفهم ذلك المكان.
راح رشاد صديقي يحدثني عن صبي المقهى، عن العلاقة التاريخية معه، ثم كتب الشاعر محمّد فؤاد عن ألمه وتهدم ذكريات شعراء حلب وكتّابها، في مقهى جحا.
تأخذني باريس عند كلّ مقارنة، فظاهرة المقهى الثقافي موجودة في الغرب، في فرنسا مثلاً، هو مكان للقاء شخصيات مؤثرة، للحوار في ما بينها، أو مع الحضور. وقد كانت فرانسواز ساغان، من روّاد المقاهي. وفي حي سان جرمان في باريس، لا يزال المقهى الذي كان يرتاده جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار قائماً، وفي حي كليشي في باريس أيضًا، هناك مقهى ارتاده دائماً هنري ميللر وأنييس نن. فلماذا لا ننقل ظاهرة المقهى "الاعتباطية" في العالم العربي، إلى مكان حقيقي للّقاءات والنشاطات الموازية للمؤسسة الرسمية، مع بعض التنظيم الخفيف الذي لا بدّ منه، لترتيب اللقاءات، أو القعدات.
أغلب المشاريع خرجت من حلم أو فكرة بدت رومانسية أو خيالية في وقتها، فهل يمكن للكتّاب العرب، تأسيس مقهاهم الثقافي العربي الشامل، في القاهرة، المدينة التي أدهشتني ولم أكتفِ بعد بما كتبته عنها لأفيها حقّها في الإلهام، تلك التي كتبتُ عنها:" إن كانت الحياة في مكان آخر ـ كما يقول كونديرا ـ فيجب أن تكون في القاهرة".