أمورٌ شبه عجائبية لا يدري بها عابرو السبيل، ولا سائر البشر. أن تكون مارّاً، أوائل القرن الحادي والعشرين، في خضمّ هذا الشارع الباريسي، بين زحمة السيارات، والإعلانات الملوّنة، لأجساد ونشاطات وبضائع لا عدَّ لها، وحركة الناس، البالغة التسارع في كلّ اتجاه، لا تلتفت في اندفاعها إلى شيء. وأنتَ فيها ومنها، ذاهب إلى هدفك، متأخّرعن موعدك. تمرّ أمام كاتدرائية، أو كنيسة قوطية، ممّا تحفل به مدينة السين، ولا يفكّرالعابرون في ارتيادها. لا مكان لها في عالمهم، ولا وجود لها في سلّم اهتماماتهم، ونهر الوقت الجارف آخذٌ في طريقه كلّ شيء. كان يقف الفيلسوف الشعبي على قارعة جادّة سان ميشال، قرب ساحة السوربون، يسأل، على حين غرّة، المهرولين إلى مكاتبهم صباحاً، ببذلاتهم الأنيقة، وحقائبهم السوداء، ووجوههم المُغلقة، الواحد تلو الآخر: "وأنتَ، إلى أين أنتَ ذاهب؟". كان يحظى منهم بشبه نظرة خاطفة، فارغة، لا تنطوي ولو على قليل من الدهشة، أو الاستغراب، أو التساؤل. لا شيء. لا وقت لديهم لأي تعبير.
مع ذلك، فإن الأعجوبة ماثلة هنا. تكفي بضع خطوات لتلج هذه الكاتدرائية، فتنتقل في لحظة، من القرن الحادي والعشرين، إلى قلب القرون الوسطى، مجتازاً بلمح البصر، سبعماية عام. قطيعة نهائية مع الخارج. لقد أضحى الزمن بطيئاً على نحو لا يوصَف، يكاد يتوقف، في العالم الساحر الذي أنت فيه. ولا أحد من الفانين أعمارَهم وراء الثواني، والدقائق الهاربة، يدري. في روعة السكينة العميقة، والنور الداخلي، المُصفّى، المتسرّب من فسحة النهار، خافتاً، خفِراً، عبر رسوم الزجاج، وسيمفونيا الأعمدة الشاهقة، والقناطر الضارعة، الرهيفة التخريم، في الفراغ الشاسع، الموحَّد اللون، المسكون بلوحات زيتية لا زمنية، وتماثيل صغيرة متباعدة، تكادُ لا تُرى، وشموع مرتعشة، وظلّ امرأة جاثية، وحيدة، في البعيد، متّشحة برداء داكن، تختصر الوجود البشري منذ بدء الزمان. هذا هو المكان الذي لجأتْ إليه الروح.
ومثلما تلجأ الروح إلى كاتدرائيات القرون الوسطى في المدن الصناعية، تلجأ إلى بعض الأديار المغرقة في القدم، شبه المهجورة، والصوامع المحفورة في الصخر، وإلى البيوت الحجرية المنسيّة، في سفوحنا ووهادنا، المشوّهة بالعمار ـ الدمار، الزاحف إليها من كلّ صوب. وليس من يعي مأساة المشهد، ولا من يشعر أو يفكّر، في جبلٍ، كان، على مدى قرون طويلة، رمزاً للجمال الأرضي في المخيّلة البشرية.
اقرأ أيضاً: الروابط الخفيّة
كما تلجأ الروح إلى مطارح أخرى أيضاً. مثلما لجأت إلى محترف الرسام أ.ع. للزجاجيات، قبالة "مدينة الشتاء"، مدينتنا، المقيمة فوق هضبتها، المحوطة بالأنهر من كلّ صوب، وقد أنهكها، كما في كلّ عام، آب اللهّاب، بعد أن هجرها أهلها إلى "مدينة الصيف".
لم أدرك قبل اليوم حقيقة أ.ع. فنّان الزجاجيات، حقيقته الكاملة. صحيح أني كنتُ أكنّ له على الدوام الكثير من المحبة والتقدير، لكنّي لم أكن أعرف طريقة عمله وحياته من قرب، ولم أكن أعي فرادة شخصه، وما يحمله من رموز. شاءت الظروف أن أزوره هذا الصيف، مراراً، في محترفه المسوّر، المتواري بين حقول الزيتون، المطلّ على النهر الغارق في جنائن البرتقال، وأن أراه وأرى عالمه عن كثب.
سبع فضائل، باتت شبه مفقودة في هذا المجتمع، ملتئمة فيه: الرؤية الجمالية، التائقة إلى تضمين الزجاج، أسرار الطبيعة، في فسحاتها وألوانها وأضوائها وظلالها، وأسرار الروحانية والذاكرة والهوية. مهارة الصنعة، صنعة الزجاجيات، التي لم أكن أعلم كم تقنياتها دقيقة، معقّدة، متشعّبة، صعبة المسالك، وكم تتطلّب من الانضباط والتضحية والمثابرة والسهر والصبر والجهد الجسدي والنفسي الشاق، فضلاً عن المخاطر، في بيئة باتت تسود أفعالها، السهولة والفوضى والارتجال ورغبة الربح السريع، كيفما اتفق. الزهد التام بالشهرة، وما يصحبها من جهود إعلامية وعلاقات اجتماعية وخدمات نفعية ومكاسب مادية ودعوات ومآدب وتكاذب، هو لا يوليها دقيقة واحدة من وقته، بينما يلهث خلفها معظم الكتّاب والفنانين، ليلَ نهار. حبّ الشجر والزهر والنبات، التي زرع منها أصنافاً كثيرة حول محترفه، يوليها عنايته الدائمة، في حين تتعرّض الطبيعة من حوله لأبشع تشويه وتنكيل. فضيلة التواضع، وسط التباهي والمفاخرة الفارغة. فضيلة الصمت، وسط الضجيج. فضيلة العزلة.
مثل هذا المحترف وصاحبه أشبه بالأعجوبة في محيطهما المضطرب، الضائع، الذي لا يعي ما به. إنها روح الشعب التي لجأتْ إلى هنا. وهي الدليل على أن هذه الروح ما زالت حيّة، لم تمُت. علامة من علامات الرجاء والانتظار، في زمن الجنون المشرقي.
مع ذلك، فإن الأعجوبة ماثلة هنا. تكفي بضع خطوات لتلج هذه الكاتدرائية، فتنتقل في لحظة، من القرن الحادي والعشرين، إلى قلب القرون الوسطى، مجتازاً بلمح البصر، سبعماية عام. قطيعة نهائية مع الخارج. لقد أضحى الزمن بطيئاً على نحو لا يوصَف، يكاد يتوقف، في العالم الساحر الذي أنت فيه. ولا أحد من الفانين أعمارَهم وراء الثواني، والدقائق الهاربة، يدري. في روعة السكينة العميقة، والنور الداخلي، المُصفّى، المتسرّب من فسحة النهار، خافتاً، خفِراً، عبر رسوم الزجاج، وسيمفونيا الأعمدة الشاهقة، والقناطر الضارعة، الرهيفة التخريم، في الفراغ الشاسع، الموحَّد اللون، المسكون بلوحات زيتية لا زمنية، وتماثيل صغيرة متباعدة، تكادُ لا تُرى، وشموع مرتعشة، وظلّ امرأة جاثية، وحيدة، في البعيد، متّشحة برداء داكن، تختصر الوجود البشري منذ بدء الزمان. هذا هو المكان الذي لجأتْ إليه الروح.
ومثلما تلجأ الروح إلى كاتدرائيات القرون الوسطى في المدن الصناعية، تلجأ إلى بعض الأديار المغرقة في القدم، شبه المهجورة، والصوامع المحفورة في الصخر، وإلى البيوت الحجرية المنسيّة، في سفوحنا ووهادنا، المشوّهة بالعمار ـ الدمار، الزاحف إليها من كلّ صوب. وليس من يعي مأساة المشهد، ولا من يشعر أو يفكّر، في جبلٍ، كان، على مدى قرون طويلة، رمزاً للجمال الأرضي في المخيّلة البشرية.
اقرأ أيضاً: الروابط الخفيّة
كما تلجأ الروح إلى مطارح أخرى أيضاً. مثلما لجأت إلى محترف الرسام أ.ع. للزجاجيات، قبالة "مدينة الشتاء"، مدينتنا، المقيمة فوق هضبتها، المحوطة بالأنهر من كلّ صوب، وقد أنهكها، كما في كلّ عام، آب اللهّاب، بعد أن هجرها أهلها إلى "مدينة الصيف".
لم أدرك قبل اليوم حقيقة أ.ع. فنّان الزجاجيات، حقيقته الكاملة. صحيح أني كنتُ أكنّ له على الدوام الكثير من المحبة والتقدير، لكنّي لم أكن أعرف طريقة عمله وحياته من قرب، ولم أكن أعي فرادة شخصه، وما يحمله من رموز. شاءت الظروف أن أزوره هذا الصيف، مراراً، في محترفه المسوّر، المتواري بين حقول الزيتون، المطلّ على النهر الغارق في جنائن البرتقال، وأن أراه وأرى عالمه عن كثب.
سبع فضائل، باتت شبه مفقودة في هذا المجتمع، ملتئمة فيه: الرؤية الجمالية، التائقة إلى تضمين الزجاج، أسرار الطبيعة، في فسحاتها وألوانها وأضوائها وظلالها، وأسرار الروحانية والذاكرة والهوية. مهارة الصنعة، صنعة الزجاجيات، التي لم أكن أعلم كم تقنياتها دقيقة، معقّدة، متشعّبة، صعبة المسالك، وكم تتطلّب من الانضباط والتضحية والمثابرة والسهر والصبر والجهد الجسدي والنفسي الشاق، فضلاً عن المخاطر، في بيئة باتت تسود أفعالها، السهولة والفوضى والارتجال ورغبة الربح السريع، كيفما اتفق. الزهد التام بالشهرة، وما يصحبها من جهود إعلامية وعلاقات اجتماعية وخدمات نفعية ومكاسب مادية ودعوات ومآدب وتكاذب، هو لا يوليها دقيقة واحدة من وقته، بينما يلهث خلفها معظم الكتّاب والفنانين، ليلَ نهار. حبّ الشجر والزهر والنبات، التي زرع منها أصنافاً كثيرة حول محترفه، يوليها عنايته الدائمة، في حين تتعرّض الطبيعة من حوله لأبشع تشويه وتنكيل. فضيلة التواضع، وسط التباهي والمفاخرة الفارغة. فضيلة الصمت، وسط الضجيج. فضيلة العزلة.
مثل هذا المحترف وصاحبه أشبه بالأعجوبة في محيطهما المضطرب، الضائع، الذي لا يعي ما به. إنها روح الشعب التي لجأتْ إلى هنا. وهي الدليل على أن هذه الروح ما زالت حيّة، لم تمُت. علامة من علامات الرجاء والانتظار، في زمن الجنون المشرقي.