تبدو مسيرة الفنان اللبناني كميل حوا غريبة، إذ إن بداياته في الكتابة الصحافية وعمله مديرًا لتحرير مجلة ثقافية هي "المصباح"، لم تحددا خياره الأوضح: فنانًا وغرافيكيًا ومصممًا للخطوط العربية. وإن بدا الأمران الأخيران، غير منظورين في الثقافة العربية، فإن ذلك يعود من دون شك، إلى نظرة تقليدية وماضوية للثقافة العربية، من حيث هي تُغفل أحد أجمل الفنون البصرية: تصميم الخطوط
* متى يكون الخط فنًا ومتى يكون حرفة؟
أرى أن للخط حالتين، الأولى هي الشعور بالكلمة التي تقال، والحالة الثانية هي الحالة الزخرفية أو التشكيلية. ويقترب الخط من أن يكون فنًا حين يعبّر عن شعور الخطاط أو كاتب الكلمة، بالكلمة نفسها أثناء تخطيطه ورسمه لها، سواء أكانت كلمة واحدة أم جملة طويلة تحمل مشاعر معينة.
* ماذا عن تخطيط الكلمات في لوحات فنية تشكيلية، وأعني أيضًا تيار الحروفية في الفن العربي المعاصر؟ هل يحوّل هذا الخط إلى عمل فني؟
بكل تواضع، نظرتي نقدية تجاه تخطيط الكلمات أو الأحرف في اللوحات الفنية التشكيلية؛ إذ منذ البداية بدا الأمر وكأنه محاولة لتأكيد جمالية الحروف العربية كي تكون جزءًا من لوحات تشكيلية، بينما الأحرف العربية تمتلك جمالية خاصة غرافيكية خارج اللوحة الزيتية، بل وترتبط هذه الجمالية بالحبر والورق تحديدًا. والتعبير الفني يتعلق بإحساس الخطاط ولو كان غير متقن لفن التخطيط، فالإحساس هو الذي يجعل التخطيط فنًا. فمثلًا يمكن لخطاط يتقن عمله أن يمنحنا خطًا متقنًا حرفيًا وتقنيًا، لكن الخطاط الذي يتماهى مع الإحساس الذي تمنحه الكلمة المخططة هو الذي يعطينا عملًا فنيًا.
الأمر الآخر في موضوعة إقحام الخط العربي في اللوحات، أي تيار الحروفية الذي أشرت إليه في سؤالك، هو الاعتقاد بأن ذلك يجعل اللوحة ذات هوية عربية. وهذا اعتقاد غير صحيح، لأن الحرف في اللوحة هو عبارة عن شكل، ويمكن لأي فنان سواء أكان عربيًا أم أجنبيًا أن يأخذ حرفًا عربيًا ويحوّله إلى شكل تعبيري، ويمكن لفنان عربي أن يأخذ حرفًا من أي لغة أخرى ويجعل منه شكلًا فنيًا.
إدخال الخط في اللوحة لا يجعل الخط فنًا معاصرًا، ولا يجعل من اللوحة فنًا تشكيليًا بالضرورة، وبالتأكيد لا يجعلها عربية.
* ألا يمكن اعتبار استخدام الخطوط في اللوحات محاولة لكسر قواعد ثابتة وجامدة في الخطوط المعروفة كالثلث والرقعي والفارسي وغيرها. أي أن إدخاله في اللوحة هو تخطٍ لقواعد ثابتة لا يمكن للخطاط الحرفي القفز عنها أو التبديل فيها؟
الخروج عن القواعد يحمل الوجهين السلبي والإيجابي. وأنا لست ضدّ الخروج على القواعد رغم أنه لا يحوّل الخط إلى فن تشكيلي كما يريد صنّاع هذا النوع من اللوحات.
ففي الفنون على اختلاف أنواعها، هناك مطلق الحرية للفنان بأن يفعل ما يشاء ويقدّمه إلى الجمهور الذي إما يستسيغه أو لا يستسيغه. وبصفتي من هذا الجمهور، لطالما أشعرني استخدام الخط في اللوحات بالاستسهال والتصنّع. بينما التخطيط على الورق بحرفية عالية يجعل الخط أكثر جمالًا مما لو استخدم في لوحة. فهناك يقع مكانه وجوهره أي على الحبر والورق. فمثلًا هناك من خطّ آية كريمة بشكل سليم ووفقًا للقواعد والأصول فوق لوحة كبيرة وأضاف إليها الألوان، فبدت غالبًا خارجة عن فن التخطيط نفسه، من دون أن تحقق هوية فنية تشكيلية بالمقابل. فهي لا هذا ولا ذاك. ولا بدّ من التذكير بأن قواعد الخطوط العربية التي تربو على سبعة أو ثمانية أنواع ذات أصول تركية وفارسية وقد التزمنا بها نحن العرب. بينما كان الخطاطون العرب الأوائل يكتبون الحروف بأشكال لا تلتزم بقواعد معينة، ومع ذلك تبدو فيها روحانية وصوفية هائلة خصوصًا في تخطيط الآيات القرآنية. والتفلّت من هذا التأثير ما زال واضحًا في المغرب العربي ومصر بسبب البعد الجغرافي والثقافي عن التأثيرين التركي والفارسي. فتجد تخطيطات وتصاميم حروفية جميلة ورائعة رغم أن مخططها شخص عادي أو لنقل ليس فنانًا مكرسًا.
كلمة شِعْر مثلاً. يمكن للخطاط القدير أن يخطّها بأشكال جميلة عديدة وبمختلف الخطوط المعروفة. وسوف تكون جميلة بالطبع. ولكن كي تكون تعبيرًا فنيًا لا بدّ أن تكتب بإحساس الشعر لحظة الكتابة.
* ماذا عن الخطوط الكلاسيكية العربية؟ هل ما زالت قادرة على مواكبة العصر عمليًا؟
أعتقد أن استخدام الخطوط العربية التقليدية بأشكالها الكلاسيكية القديمة في الأمور العملية أي في الطباعة أو في الأعمال اليومية بات غير عصري وليس عمليًا أيضًا. لأن مشهديتها لا تتوافق مع المشهد العام المعاصر، فالحروف كائنات بذاتها وطريقة رسمها يجب أن تشبه الحياة الحاضرة وسرعتها وآلاتها وحاجاتها الاستخدامية. الحال يشبه الشعر العمودي والشعر الحديث. فقد بات من المطلوب أن يكون الخطاط حرًا في اختيار طريقة رسم حروفه من أي قواعد تكبّله، وهذا فيه حياة للخط والحرف، بينما جموده هو موت لهما. ومصمم الحروف كغيره من الفنانين، يحتاج إلى مساحة من الحرية تسمح له بتطوير فنه. وهذا ما نحتاج إليه في العالم العربي اليوم.
* هذا يأخذنا إلى نوع جديد من الفنون، والذي يعتمد على جمالية الخط وهو "فن الكلمة". كيف تشرح لنا معنى "فن الكلمة" ومضمونه، خصوصًا أن هذا التعبير قد يكون جديدًا على قراء كثيرين.
اسمح لي أن أتكلم كمراقب خاض تجربة العمل في مشاريع "فن الكلمة" وليس كخبير أو متخصص. يمكن القول إنه اسم جديد لنوع من الفنون، وكان قد بدأ في اللغات الأجنبية Word Art أي جعل الكلمة تأخذ شكلًا فنيًا وهو نحتي على الأغلب، ولكن ليس نحتيًا فقط. فمنذ أن يأخذ الفنان كلمة معينة تعني له فكرة ما، ويحوّلها إلى عمل يشبه إحساسه بها، سواء أكان رسمًا أم عملًا ثلاثي الأبعاد، فإنه يكون قد طرق باب ما نسميه "فن الكلمة". وهو يجمع بين الفنين التشكيلي والتصميم Graphic Design.
* لقد أقمت معرضًا السنة الماضية في إطار "فن الكلمة" وهو تخطيط لكلمة "فن" بأشكال ثلاثية الأبعاد، نُشرت فوق سطح بركة حديقة سمير قصير. هل أوصل المعرض فكرة "فن الكلمة" الجديدة" للجمهور وللمارة؟
لقد كانت عبارة عن ثماني منحوتات لكل "فن"، ولا بد من القول إن ديكور المكان وفكرته، أي حديقة سمير قصير، قد أضافت معنى على العرض بمجمله. ومن انعكاس صورة هذه المنحوتات أو التشكيلات الحروفية على سطح الماء، تشكّل مشهد ساحر وأخّاذ، يبديها كما لو أنها تعوم وتطفو فوق سطح البركة، كما لو أنها محاولة بصرية لمحاكاة مشي المسيح فوق سطح الماء أو لمحاكاة رغبة البشر الدائمة بالسير على الماء.
خمسة من الأعمال الثمانية مصنوعة من معادن مختلفة، منها الستينلس ستيل المحفور وصفائح المعدن المشغول والخشب والزجاج والبلاستيك والحديد. أما المنحوتات الخشبية فتنتمي إلى فن الـ "أرت ديكو" (Art Deco)، وأكثر ما يشد الانتباه في هذه المجموعة، أن أربعة أعمال منها، يمكن أن تُقرأ من كلا الجانبين، ما يعيدنا إلى مرحلة الـ "بوستروفيدون" (Boustrophédon) في الحرف اليوناني، حين كان من الممكن كتابة الأحرف من اليمين إلى اليسار كما من اليسار إلى اليمين تبعًا لموقع السطر في النص.
من الممكن إيجاد نسب في الخط الكوفي لهذه الأعمال الفنية، كونه خطا هندسيا بطبيعته، ومنها منحوتة "تثليث" التي يتداخل فيها مثلثان أحدهما صعودًا والثاني هبوطًا، وفوق كل منهما دائرة سوداء مع ثغرة دائرية تعكس النقطة الموجودة فوقها. وكذلك الأمر في منحوتة "نافذتين" وهي كما يشير اسمها تمثل حرفي "الفاء" و"النون" على أنهما نافذتان معدنيتان مستطيلتان، لكلٍّ منها نقطة دائرية في الأعلى وتتوسط يمناهما دائرة كبيرة، هي رأس الفاء. أما منحوتة "وعر" فإنها تذهب خطوةً أبعد من سواها في معالجتها البصرية، عبر تشويه المسطحات وتمييل المستقيمات، وبالتالي تبين أن مفهومي التجريد والهندسية ليسا متلازمين جوهريا، كما تعلمنا الهندسة التقليدية.
كان يُفترض أن تمكث مجموعة المنحوتات فوق الماء أسبوعًا واحدًا، لكن تقرر تمديد عرضها أسبوعاً آخر ليستفيد من عرضها أكبر عدد من المارة والجمهور الذي يقصد المكان. ومن هذه الخطوة شعرت أن لدى الجمهور العريض حشرية للتعرف على هذا النوع الجديد في العالم العربي والمرتبط بتشكيل وتصوير الكلمات العربية وجعلها فكرة ملموسة عبر تقنية الأبعاد الثلاثة.
* بالعودة إلى الحروف والتخطيط على الورق أو ثنائي الأبعاد. كيف تقوم بتصميم "حرف جديد"، وهو التعبير المستعمل في مهنتك لوصف ابتكار وتصميم خط جديد؟
لطالما كان تصميم "حرف" معين ناتجاً عن حاجة محددة، مثلًا مطلوب حروف مختصرة كي لا تحتل مساحات واسعة في الصحف، أو مثلًا كانت عناوين الصحف في ما مضى يخطّها خطاط بريشة عريضة، ثم حين أصبحت العناوين تستخدم الحروف الطباعية، بات لا بدّ من تصميم خط عريض وسميك يناسب العناوين ويملأ المساحة. ففي النهاية كان تصميم الحرف في بدايته مرتبطاً بالطباعة، قبل تطور الكومبيوتر وتبدّل الحاجات والتطلبات لحروف جديدة، كأن تحتاج إلى حرف طفولي أو حرف فني ذي التواءات مختلفة للإعلان عن مادة جمالية على سبيل المثال. والآن بات تصميم الحرف يرتبط بأنواع المؤسسات التي تطلبه، فالمؤسسة السياحية يكون حرفها مختلفًا عن ذاك الذي لمؤسسة اقتصادية تجارية وعن ذاك الذي تستخدمه صحيفة أو تلفزيون. هنا يصمم الحرف ليعرّف عن شخصية المؤسسة التي تطلبه، وهذا أمر مستجد، أي تميّز مؤسسة معينة بحرف معين، فقبل عشر سنوات لم يكن أمر كهذا موجودًا أصلًا.
* تطورت برامج التصميم على الكومبيوتر، فما عاد الخطاط يحتاج إلى موهبة كبيرة أو إلى قدرات تقنية شخصية ليصمّم حرفا، إذ يمكن للكمبيوتر أن يقدم له مساعدة كاملة في هذا الخصوص. هل يعد هذا أمرًا سلبيًا أم إيجابيًا؟
مساعدة الكومبيوتر أكثر من إيجابية، وتحديدًا في تصميم الخط العربي، اذ إن الحرف العربي الواحد، يظهر بأشكال متعددة في الجملة نفسها، أي في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها أو لوحده ومع التنوين ومع التحريك. فقد ساعد الكومبيوتر في جعل هذا الأمر سهلًا، وخصوصًا في وضع حركات الإعراب على الأحرف.
* قبل أشهر فاز "المحترف السعودي" دار التصميم الذي أسسته وتديره بجائزة الامتياز التيبوغرافي(؟) من نيويورك عن حرف أطلقت عليه اسم "المحترف"، ما ميزة هذا الحرف؟.
منحنا نادي كبار مصممي الحرف (TDC Type Directors Club) في نيويورك، جائزة الامتياز عن حرف "المحترف". وكانت المرّة الثانية التي فاز بها محترفنا بهذه الجائزة، بعدما كانت المرة الأولى في عام 2007 عن حرف "ميدان". ونال هذه الشهادة 22 حرفاً من بلدان ولغات مختلفة من بين 261 حرفاً من 37 دولة تقدموا إلى المسابقة. وبرأيي فإن خط "المحترف" خط مبتكر غير مستلهم من الخطوط الكلاسيكية العربية، ويشبه حركة يد تلقائية ومنضبطة وفيه شيء من روح النبات والحس الطبيعي. لكن الأهم في هذا الإطار أن الحرف العربي كرّس في السنوات القليلة الماضية مكانته في عالم تصميم الحروف مع صعود فن التصميم الغرافيكي على مستوى العالم.
* نريد أن نعرف أكثر عن الخطوط أو "الحروف" بتعبيرك، التي صممتها، وكيف تصف ذلك؟
دعني أتحدث هنا عن مجموعة أخرى من الحروف صممها "المحترف"،
أولها "حروف للنور" التي استخدمها المحترف في إحدى روزناماته، فاللوحات الفنية التي يحملها هذا التقويم ليست لوحات من الخطوط العربية المعروفة، بل من حروف طباعية. أي من الحروف المصممة والمرسومة مسبقًا كي تصبح عائلة حروف تدخل في برامج صف النصوص في الكومبيوتر، وبالتالي فإن هذه اللوحات الفنّية وعلى عكس المعهود، لم تمسّها ريشة خطّاط، بأي شكل من الأشكال. والتحدي كان أن نستطيع تشكيل لوحات فنية جميلة من حروف طباعية، بدلًا من الخطوط أو الحروف اليدوية. الحقيقة أن هذه التجربة تقدّم فرصة لمقارنتين؛ الأولى بين الحروف الطباعية والخطوط التقليدية، والثانية فيما بين الحروف التي وقع اختيارنا عليها، من ضمن عائلة حروف المحترف، والتي تراوح وتختلف في شكلها وتكوينها من نواح كثيرة، لتقدّم تشكيلة تضم ما هو هندسي بحت بزوايا مستقيمة مثل حرف "ميم"، أو ما يتكوّن من خطوط شديدة الانحناءات مثل حرف "الميّاس"، مرورًا بحروف تقترب من حروف النصوص المعهودة مثل "ميدان" و"نمير". وهنا دعني أشرح ما يميّز كل خط / حرف على حدة، وذلك لتعريف القارئ بمعنى تصميم الحرف والفروق بين الحروف المصممة.
فمثلا، حرف "ميدان" ينتمي إلى عائلة حروف النصوص المتوازنة السماكة، والسهلة القراءة. وزنه الثقيل وحجمه الكبير يجعله يشبه الحفر على الجدار، أما في أحجامه الصغيرة، فهو مناسب للفقرات التوضيحيّة وبذلك يقارن بالحروف المشتقّة من خط النسخ.
أما حرف "نمير" فقد تم تطويره ليصبح حرفًا لمصرف كبير، لينسجم مع حرف "يونيفرس" الأجنبي (Universe). يتّسم هذا الحرف بالبناء المُتقن والأشكال الهندسية الصافية، ولكن على الرغم من هندسيته فهو ممتع للنظر ومريح للقراءة.
أما حرف "المعرض" فقد ظهر للمرّة الاولى في تصميم اسم "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"، ومن هنا اسمه. تغلب على هذا الحرف سمة عصرية طباعية، خاصة في أسلوب تقطيع الأحرف عند بعض مفاصلها، مما يجعله يشبه الكلمات التي تطبع على صناديق الشحن. لكن من دون أن يفقده ذلك الحس الشرقي لا بل والثقافي.
حرف "الميم" ابتُكر قبل سنين لاستخدامه في شعار يضم أسماء "مكّة المكرّمة" و"المدينة المنوّرة". والكلمات جميعها تبدأ بحرف الميم. لذا بدأ التصميم من هذا الحرف ليشبه الكعبة ويمثّل حجر الزاوية لجميع الحروف الأخرى، تماماً كما الكعبة المشرفة حجر الزاوية البصري للمشاعر المقدّسة.
حرف "ميّاس" يذكّر بأغصان الشجر، وتكوينات من الطبيعة، وكان قد تم ابتكاره لمجلّة "الوضيحي" المتخصصة في شؤون الحياة الفطريّة.
حرف "عكاظ" هو عبارة عن خطوط مستقيمة وزوايا حادة تذكّرُ بالخط اليابس، أو أوّل ظهور للكلام منقوشًا على الصخر، لكنّه ممتلئ بانسياب وتناسق معاصر. وهذا الحرف مستوحى من رسم شعار "مهرجان عكاظ" الشعري الذي يقام سنويًا في المملكة العربية السعودية في منطقة قريبة من مدينة الطائف.
هذه الحروف هي قسم من مجموعة واسعة من الحروف التي تم تصميمها من قبل فريقنا في المحترف خلال مدة تصل إلى عقدين من الزمن.
* كيف تنظر إلى حال الخط العربي راهنًا. هل يلقى الاعتناء الذي يستحقه سواءٌ أكان تخطيطًا فنيًا أم حرفيًا، أو سواء استخدم في التجميل بمعنى التزيين أو في الكتابة والطباعة؟
أعتقد أننا نعيش حاليًا في العالم العربي مرحلة ملتبسة على كل المستويات. لنقل إنها مرحلة تشابك التناقضات، التقدّم إلى جانب التخلّف، والطموح إلى جانب اللاطموح، الحروب إلى جانب الرغبة بالسلام والجدية إلى جانب الهزل.. إلخ. لكن يمكن القول إن وضع الخط العربي أفضل بكثير من الوضع السياسي العربي.
يمكننا القول إن الخط العربي "حيّ يرزق"، وهناك تقدّم ملحوظ في فن تصميم الحرف الطباعي خلال السنوات الأخيرة. وهذا دليل عافية، بمعنى تطور الخط العربي المستخدم عمليًا تحديدًا في أمور الطباعة، سواء التقليدية أم الجديدة على الكومبيوتر. قبل عشر سنوات كان هناك شح شديد في تصميم الحروف العربية، فكانت المكتبة اللاتينية مثلًا تشكل مئة ضعف عدد أنواع الحروف عنها في اللغة العربية. أما الآن فقد ارتفعت أعداد الحروف العربية المصمّمة، بسبب تطور تعليم التصميم الغرافيكي في الجامعات، وازدياد أعداد المهتمين بتصميم حروف جديدة، فبتنا نرى حروفًا ذات تصاميم مختلفة في الإعلانات أو المجلات والصحف أو شرائط الأخبار في التلفزيون، بل وباتت المؤسسات تنتقي خطًا خاصًا بها كتعبير عن التميّز. وبات هذا الأمر في المتناول مع تطور وسائل التصميم الإلكترونية.
* عُرفت في بيروت كرسام قبل انتقالك إلى السعودية واعتنائك بفنون الكلمة والتصميم الغرافيكي. وما زلت حتى اليوم تشارك في معارض جماعية وفردية للرسم. متى يلتقي الرسّام والمصمّم ومتى يفترقان؟
بمجرد أن يقوم شخص بعملين أو أكثر فلا بدّ أن يكون هناك ما يربط بينها. كلا الفنيّن؛ الخط والرسم، يبدأ بـ"سكتش". والسكتش أي الرسم الحر البدائي بقلم الرصاص على ورقة هو أمر مهم جدًا، وهو مهم إلى درجة تجعلنا أحيانًا نكنّ له الكره. فهو كونه نقطة الانطلاق لتحقيق عمل فني معين قد يصعب تحويله إلى عمل منجز، أو قد يفقد بعضًا من ميزته الأصلية بعد أن يجهز وينجز، فنشعر بأنه خدعنا.
دعني هنا أضيف حول هذا الموضوع ولكن من زاوية نظر مختلفة؛ أنا لا أؤمن أن الفن هو صناعة فردية، فلا وجود لفن فردي. فحتى لو عاش الفنان في مغارة طوال عمره، فإنه يحمل في جيناته تراث الذين سبقوه، أي أنه وليد تراكم فني شاء أم أبى، اعترف أم أنكر. مثلًا العارفون بالموسيقى يعرفون بيتهوفن من عدة نغمات، فهذا بيتهوفن، لكن هذا لا يعني أنه صنع موسيقاه من معدن خاص، بل من انصهار معادن كل الذين سبقوه من صانعي الموسيقى.
حين يقدم أي فنان عملًا فنيًا ذا قيمة، فلا بد أنه امتلك ثلاثة عوامل؛ الانتماء إلى التراث والانتماء إلى العصر ومن ثم موهبته وإحساسه الفردي. فلا يمكن أن تكون تراثيًا إذا لم تكن عصريًا، ولا عصريًا إذا لم تكن تراثيًا ولا فنانًا إذا لم تملك إحساسك الخاص. هذه جدولة من ثلاثة عوامل ترتبط ببعضها.
* منذ أواخر الثمانينيات كانت أسماء المؤسسات والشركات والمصارف والمصانع تقدّم باللغة الأجنبية. ثم اشتركتم مع آخرين في عدد من الدول العربية بتحقيق وإنجاز قيمة إعلانية للحرف العربي. هل نجحتم في عصرنة الحروف العربية؟
أعتقد أن إدخال الخط العربي في المجال التجاري هو أهم للخط والحرف العربي ولتراثنا وتحضّرنا وعصرنتنا، من لوحة مخططة معلقة على جدار في صالون. وقد يخالفني في هذا الرأي الكثير من الفنانين النخبويين الذي ينفرون من كل ما هو تجاري. فمثلًا حين تفنّنا في تخطيط لوحات الشوارع في بعض الدول العربية، تلك اللوحات التي تدل على أسماء المناطق أو الاتجاهات ولوحات الإعلانات "البانو" (Panneau)، كنا قد أعدنا الخط إلى الشارع أي إلى العامة، وهذا أسلم من الناحية الثقافية الاجتماعية بسبب احتكاك الناس بلغتهم مصوّرة.
* في ظل تراجع المجلات الثقافية العربية عددًا ونوعًا، وإقفال بعض أشهرها مؤخرًا، هل تعتقد أن هناك قارئاً في العالم العربي، وهل صمود مجلة "القافلة" التي يصممها "المحترف"، سببه الدعم المادي أم لأسباب تتعلق بطبيعة المجلة؟
بسبب معرفتي بقرّاء مجلة "القافلة"، يمكنني القول إن قراءة الكلمة القيّمة والمشوّقة ما زالت منتشرة، على عكس ما يشاع، وهي رغبة حية لم تمت ولن تموت. اليوم ورغم أننا في عزّ زمن "تويتر" و"واتس أب" و"الفيسبوك" وغيرها من وسائل التواصل، أؤكد أن هذه لم تغنِ عن القراءة الحقيقية التي تعطي القارئ متعة واسعة وزادًا ثريًا. الوسائل الثقافية غير مدعوة لرثاء نفسها بل لتجديدها. وغير مدعوة لرثاء القراءة والقراء بل للبحث عما يوقظ حماستهم ويجدد رغباتهم.
أرى أن للخط حالتين، الأولى هي الشعور بالكلمة التي تقال، والحالة الثانية هي الحالة الزخرفية أو التشكيلية. ويقترب الخط من أن يكون فنًا حين يعبّر عن شعور الخطاط أو كاتب الكلمة، بالكلمة نفسها أثناء تخطيطه ورسمه لها، سواء أكانت كلمة واحدة أم جملة طويلة تحمل مشاعر معينة.
* ماذا عن تخطيط الكلمات في لوحات فنية تشكيلية، وأعني أيضًا تيار الحروفية في الفن العربي المعاصر؟ هل يحوّل هذا الخط إلى عمل فني؟
بكل تواضع، نظرتي نقدية تجاه تخطيط الكلمات أو الأحرف في اللوحات الفنية التشكيلية؛ إذ منذ البداية بدا الأمر وكأنه محاولة لتأكيد جمالية الحروف العربية كي تكون جزءًا من لوحات تشكيلية، بينما الأحرف العربية تمتلك جمالية خاصة غرافيكية خارج اللوحة الزيتية، بل وترتبط هذه الجمالية بالحبر والورق تحديدًا. والتعبير الفني يتعلق بإحساس الخطاط ولو كان غير متقن لفن التخطيط، فالإحساس هو الذي يجعل التخطيط فنًا. فمثلًا يمكن لخطاط يتقن عمله أن يمنحنا خطًا متقنًا حرفيًا وتقنيًا، لكن الخطاط الذي يتماهى مع الإحساس الذي تمنحه الكلمة المخططة هو الذي يعطينا عملًا فنيًا.
الأمر الآخر في موضوعة إقحام الخط العربي في اللوحات، أي تيار الحروفية الذي أشرت إليه في سؤالك، هو الاعتقاد بأن ذلك يجعل اللوحة ذات هوية عربية. وهذا اعتقاد غير صحيح، لأن الحرف في اللوحة هو عبارة عن شكل، ويمكن لأي فنان سواء أكان عربيًا أم أجنبيًا أن يأخذ حرفًا عربيًا ويحوّله إلى شكل تعبيري، ويمكن لفنان عربي أن يأخذ حرفًا من أي لغة أخرى ويجعل منه شكلًا فنيًا.
إدخال الخط في اللوحة لا يجعل الخط فنًا معاصرًا، ولا يجعل من اللوحة فنًا تشكيليًا بالضرورة، وبالتأكيد لا يجعلها عربية.
* ألا يمكن اعتبار استخدام الخطوط في اللوحات محاولة لكسر قواعد ثابتة وجامدة في الخطوط المعروفة كالثلث والرقعي والفارسي وغيرها. أي أن إدخاله في اللوحة هو تخطٍ لقواعد ثابتة لا يمكن للخطاط الحرفي القفز عنها أو التبديل فيها؟
الخروج عن القواعد يحمل الوجهين السلبي والإيجابي. وأنا لست ضدّ الخروج على القواعد رغم أنه لا يحوّل الخط إلى فن تشكيلي كما يريد صنّاع هذا النوع من اللوحات.
ففي الفنون على اختلاف أنواعها، هناك مطلق الحرية للفنان بأن يفعل ما يشاء ويقدّمه إلى الجمهور الذي إما يستسيغه أو لا يستسيغه. وبصفتي من هذا الجمهور، لطالما أشعرني استخدام الخط في اللوحات بالاستسهال والتصنّع. بينما التخطيط على الورق بحرفية عالية يجعل الخط أكثر جمالًا مما لو استخدم في لوحة. فهناك يقع مكانه وجوهره أي على الحبر والورق. فمثلًا هناك من خطّ آية كريمة بشكل سليم ووفقًا للقواعد والأصول فوق لوحة كبيرة وأضاف إليها الألوان، فبدت غالبًا خارجة عن فن التخطيط نفسه، من دون أن تحقق هوية فنية تشكيلية بالمقابل. فهي لا هذا ولا ذاك. ولا بدّ من التذكير بأن قواعد الخطوط العربية التي تربو على سبعة أو ثمانية أنواع ذات أصول تركية وفارسية وقد التزمنا بها نحن العرب. بينما كان الخطاطون العرب الأوائل يكتبون الحروف بأشكال لا تلتزم بقواعد معينة، ومع ذلك تبدو فيها روحانية وصوفية هائلة خصوصًا في تخطيط الآيات القرآنية. والتفلّت من هذا التأثير ما زال واضحًا في المغرب العربي ومصر بسبب البعد الجغرافي والثقافي عن التأثيرين التركي والفارسي. فتجد تخطيطات وتصاميم حروفية جميلة ورائعة رغم أن مخططها شخص عادي أو لنقل ليس فنانًا مكرسًا.
كلمة شِعْر مثلاً. يمكن للخطاط القدير أن يخطّها بأشكال جميلة عديدة وبمختلف الخطوط المعروفة. وسوف تكون جميلة بالطبع. ولكن كي تكون تعبيرًا فنيًا لا بدّ أن تكتب بإحساس الشعر لحظة الكتابة.
* ماذا عن الخطوط الكلاسيكية العربية؟ هل ما زالت قادرة على مواكبة العصر عمليًا؟
أعتقد أن استخدام الخطوط العربية التقليدية بأشكالها الكلاسيكية القديمة في الأمور العملية أي في الطباعة أو في الأعمال اليومية بات غير عصري وليس عمليًا أيضًا. لأن مشهديتها لا تتوافق مع المشهد العام المعاصر، فالحروف كائنات بذاتها وطريقة رسمها يجب أن تشبه الحياة الحاضرة وسرعتها وآلاتها وحاجاتها الاستخدامية. الحال يشبه الشعر العمودي والشعر الحديث. فقد بات من المطلوب أن يكون الخطاط حرًا في اختيار طريقة رسم حروفه من أي قواعد تكبّله، وهذا فيه حياة للخط والحرف، بينما جموده هو موت لهما. ومصمم الحروف كغيره من الفنانين، يحتاج إلى مساحة من الحرية تسمح له بتطوير فنه. وهذا ما نحتاج إليه في العالم العربي اليوم.
* هذا يأخذنا إلى نوع جديد من الفنون، والذي يعتمد على جمالية الخط وهو "فن الكلمة". كيف تشرح لنا معنى "فن الكلمة" ومضمونه، خصوصًا أن هذا التعبير قد يكون جديدًا على قراء كثيرين.
اسمح لي أن أتكلم كمراقب خاض تجربة العمل في مشاريع "فن الكلمة" وليس كخبير أو متخصص. يمكن القول إنه اسم جديد لنوع من الفنون، وكان قد بدأ في اللغات الأجنبية Word Art أي جعل الكلمة تأخذ شكلًا فنيًا وهو نحتي على الأغلب، ولكن ليس نحتيًا فقط. فمنذ أن يأخذ الفنان كلمة معينة تعني له فكرة ما، ويحوّلها إلى عمل يشبه إحساسه بها، سواء أكان رسمًا أم عملًا ثلاثي الأبعاد، فإنه يكون قد طرق باب ما نسميه "فن الكلمة". وهو يجمع بين الفنين التشكيلي والتصميم Graphic Design.
* لقد أقمت معرضًا السنة الماضية في إطار "فن الكلمة" وهو تخطيط لكلمة "فن" بأشكال ثلاثية الأبعاد، نُشرت فوق سطح بركة حديقة سمير قصير. هل أوصل المعرض فكرة "فن الكلمة" الجديدة" للجمهور وللمارة؟
لقد كانت عبارة عن ثماني منحوتات لكل "فن"، ولا بد من القول إن ديكور المكان وفكرته، أي حديقة سمير قصير، قد أضافت معنى على العرض بمجمله. ومن انعكاس صورة هذه المنحوتات أو التشكيلات الحروفية على سطح الماء، تشكّل مشهد ساحر وأخّاذ، يبديها كما لو أنها تعوم وتطفو فوق سطح البركة، كما لو أنها محاولة بصرية لمحاكاة مشي المسيح فوق سطح الماء أو لمحاكاة رغبة البشر الدائمة بالسير على الماء.
خمسة من الأعمال الثمانية مصنوعة من معادن مختلفة، منها الستينلس ستيل المحفور وصفائح المعدن المشغول والخشب والزجاج والبلاستيك والحديد. أما المنحوتات الخشبية فتنتمي إلى فن الـ "أرت ديكو" (Art Deco)، وأكثر ما يشد الانتباه في هذه المجموعة، أن أربعة أعمال منها، يمكن أن تُقرأ من كلا الجانبين، ما يعيدنا إلى مرحلة الـ "بوستروفيدون" (Boustrophédon) في الحرف اليوناني، حين كان من الممكن كتابة الأحرف من اليمين إلى اليسار كما من اليسار إلى اليمين تبعًا لموقع السطر في النص.
من الممكن إيجاد نسب في الخط الكوفي لهذه الأعمال الفنية، كونه خطا هندسيا بطبيعته، ومنها منحوتة "تثليث" التي يتداخل فيها مثلثان أحدهما صعودًا والثاني هبوطًا، وفوق كل منهما دائرة سوداء مع ثغرة دائرية تعكس النقطة الموجودة فوقها. وكذلك الأمر في منحوتة "نافذتين" وهي كما يشير اسمها تمثل حرفي "الفاء" و"النون" على أنهما نافذتان معدنيتان مستطيلتان، لكلٍّ منها نقطة دائرية في الأعلى وتتوسط يمناهما دائرة كبيرة، هي رأس الفاء. أما منحوتة "وعر" فإنها تذهب خطوةً أبعد من سواها في معالجتها البصرية، عبر تشويه المسطحات وتمييل المستقيمات، وبالتالي تبين أن مفهومي التجريد والهندسية ليسا متلازمين جوهريا، كما تعلمنا الهندسة التقليدية.
كان يُفترض أن تمكث مجموعة المنحوتات فوق الماء أسبوعًا واحدًا، لكن تقرر تمديد عرضها أسبوعاً آخر ليستفيد من عرضها أكبر عدد من المارة والجمهور الذي يقصد المكان. ومن هذه الخطوة شعرت أن لدى الجمهور العريض حشرية للتعرف على هذا النوع الجديد في العالم العربي والمرتبط بتشكيل وتصوير الكلمات العربية وجعلها فكرة ملموسة عبر تقنية الأبعاد الثلاثة.
* بالعودة إلى الحروف والتخطيط على الورق أو ثنائي الأبعاد. كيف تقوم بتصميم "حرف جديد"، وهو التعبير المستعمل في مهنتك لوصف ابتكار وتصميم خط جديد؟
لطالما كان تصميم "حرف" معين ناتجاً عن حاجة محددة، مثلًا مطلوب حروف مختصرة كي لا تحتل مساحات واسعة في الصحف، أو مثلًا كانت عناوين الصحف في ما مضى يخطّها خطاط بريشة عريضة، ثم حين أصبحت العناوين تستخدم الحروف الطباعية، بات لا بدّ من تصميم خط عريض وسميك يناسب العناوين ويملأ المساحة. ففي النهاية كان تصميم الحرف في بدايته مرتبطاً بالطباعة، قبل تطور الكومبيوتر وتبدّل الحاجات والتطلبات لحروف جديدة، كأن تحتاج إلى حرف طفولي أو حرف فني ذي التواءات مختلفة للإعلان عن مادة جمالية على سبيل المثال. والآن بات تصميم الحرف يرتبط بأنواع المؤسسات التي تطلبه، فالمؤسسة السياحية يكون حرفها مختلفًا عن ذاك الذي لمؤسسة اقتصادية تجارية وعن ذاك الذي تستخدمه صحيفة أو تلفزيون. هنا يصمم الحرف ليعرّف عن شخصية المؤسسة التي تطلبه، وهذا أمر مستجد، أي تميّز مؤسسة معينة بحرف معين، فقبل عشر سنوات لم يكن أمر كهذا موجودًا أصلًا.
* تطورت برامج التصميم على الكومبيوتر، فما عاد الخطاط يحتاج إلى موهبة كبيرة أو إلى قدرات تقنية شخصية ليصمّم حرفا، إذ يمكن للكمبيوتر أن يقدم له مساعدة كاملة في هذا الخصوص. هل يعد هذا أمرًا سلبيًا أم إيجابيًا؟
مساعدة الكومبيوتر أكثر من إيجابية، وتحديدًا في تصميم الخط العربي، اذ إن الحرف العربي الواحد، يظهر بأشكال متعددة في الجملة نفسها، أي في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها أو لوحده ومع التنوين ومع التحريك. فقد ساعد الكومبيوتر في جعل هذا الأمر سهلًا، وخصوصًا في وضع حركات الإعراب على الأحرف.
* قبل أشهر فاز "المحترف السعودي" دار التصميم الذي أسسته وتديره بجائزة الامتياز التيبوغرافي(؟) من نيويورك عن حرف أطلقت عليه اسم "المحترف"، ما ميزة هذا الحرف؟.
منحنا نادي كبار مصممي الحرف (TDC Type Directors Club) في نيويورك، جائزة الامتياز عن حرف "المحترف". وكانت المرّة الثانية التي فاز بها محترفنا بهذه الجائزة، بعدما كانت المرة الأولى في عام 2007 عن حرف "ميدان". ونال هذه الشهادة 22 حرفاً من بلدان ولغات مختلفة من بين 261 حرفاً من 37 دولة تقدموا إلى المسابقة. وبرأيي فإن خط "المحترف" خط مبتكر غير مستلهم من الخطوط الكلاسيكية العربية، ويشبه حركة يد تلقائية ومنضبطة وفيه شيء من روح النبات والحس الطبيعي. لكن الأهم في هذا الإطار أن الحرف العربي كرّس في السنوات القليلة الماضية مكانته في عالم تصميم الحروف مع صعود فن التصميم الغرافيكي على مستوى العالم.
* نريد أن نعرف أكثر عن الخطوط أو "الحروف" بتعبيرك، التي صممتها، وكيف تصف ذلك؟
دعني أتحدث هنا عن مجموعة أخرى من الحروف صممها "المحترف"،
أولها "حروف للنور" التي استخدمها المحترف في إحدى روزناماته، فاللوحات الفنية التي يحملها هذا التقويم ليست لوحات من الخطوط العربية المعروفة، بل من حروف طباعية. أي من الحروف المصممة والمرسومة مسبقًا كي تصبح عائلة حروف تدخل في برامج صف النصوص في الكومبيوتر، وبالتالي فإن هذه اللوحات الفنّية وعلى عكس المعهود، لم تمسّها ريشة خطّاط، بأي شكل من الأشكال. والتحدي كان أن نستطيع تشكيل لوحات فنية جميلة من حروف طباعية، بدلًا من الخطوط أو الحروف اليدوية. الحقيقة أن هذه التجربة تقدّم فرصة لمقارنتين؛ الأولى بين الحروف الطباعية والخطوط التقليدية، والثانية فيما بين الحروف التي وقع اختيارنا عليها، من ضمن عائلة حروف المحترف، والتي تراوح وتختلف في شكلها وتكوينها من نواح كثيرة، لتقدّم تشكيلة تضم ما هو هندسي بحت بزوايا مستقيمة مثل حرف "ميم"، أو ما يتكوّن من خطوط شديدة الانحناءات مثل حرف "الميّاس"، مرورًا بحروف تقترب من حروف النصوص المعهودة مثل "ميدان" و"نمير". وهنا دعني أشرح ما يميّز كل خط / حرف على حدة، وذلك لتعريف القارئ بمعنى تصميم الحرف والفروق بين الحروف المصممة.
فمثلا، حرف "ميدان" ينتمي إلى عائلة حروف النصوص المتوازنة السماكة، والسهلة القراءة. وزنه الثقيل وحجمه الكبير يجعله يشبه الحفر على الجدار، أما في أحجامه الصغيرة، فهو مناسب للفقرات التوضيحيّة وبذلك يقارن بالحروف المشتقّة من خط النسخ.
أما حرف "نمير" فقد تم تطويره ليصبح حرفًا لمصرف كبير، لينسجم مع حرف "يونيفرس" الأجنبي (Universe). يتّسم هذا الحرف بالبناء المُتقن والأشكال الهندسية الصافية، ولكن على الرغم من هندسيته فهو ممتع للنظر ومريح للقراءة.
أما حرف "المعرض" فقد ظهر للمرّة الاولى في تصميم اسم "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"، ومن هنا اسمه. تغلب على هذا الحرف سمة عصرية طباعية، خاصة في أسلوب تقطيع الأحرف عند بعض مفاصلها، مما يجعله يشبه الكلمات التي تطبع على صناديق الشحن. لكن من دون أن يفقده ذلك الحس الشرقي لا بل والثقافي.
حرف "الميم" ابتُكر قبل سنين لاستخدامه في شعار يضم أسماء "مكّة المكرّمة" و"المدينة المنوّرة". والكلمات جميعها تبدأ بحرف الميم. لذا بدأ التصميم من هذا الحرف ليشبه الكعبة ويمثّل حجر الزاوية لجميع الحروف الأخرى، تماماً كما الكعبة المشرفة حجر الزاوية البصري للمشاعر المقدّسة.
حرف "ميّاس" يذكّر بأغصان الشجر، وتكوينات من الطبيعة، وكان قد تم ابتكاره لمجلّة "الوضيحي" المتخصصة في شؤون الحياة الفطريّة.
حرف "عكاظ" هو عبارة عن خطوط مستقيمة وزوايا حادة تذكّرُ بالخط اليابس، أو أوّل ظهور للكلام منقوشًا على الصخر، لكنّه ممتلئ بانسياب وتناسق معاصر. وهذا الحرف مستوحى من رسم شعار "مهرجان عكاظ" الشعري الذي يقام سنويًا في المملكة العربية السعودية في منطقة قريبة من مدينة الطائف.
هذه الحروف هي قسم من مجموعة واسعة من الحروف التي تم تصميمها من قبل فريقنا في المحترف خلال مدة تصل إلى عقدين من الزمن.
* كيف تنظر إلى حال الخط العربي راهنًا. هل يلقى الاعتناء الذي يستحقه سواءٌ أكان تخطيطًا فنيًا أم حرفيًا، أو سواء استخدم في التجميل بمعنى التزيين أو في الكتابة والطباعة؟
أعتقد أننا نعيش حاليًا في العالم العربي مرحلة ملتبسة على كل المستويات. لنقل إنها مرحلة تشابك التناقضات، التقدّم إلى جانب التخلّف، والطموح إلى جانب اللاطموح، الحروب إلى جانب الرغبة بالسلام والجدية إلى جانب الهزل.. إلخ. لكن يمكن القول إن وضع الخط العربي أفضل بكثير من الوضع السياسي العربي.
يمكننا القول إن الخط العربي "حيّ يرزق"، وهناك تقدّم ملحوظ في فن تصميم الحرف الطباعي خلال السنوات الأخيرة. وهذا دليل عافية، بمعنى تطور الخط العربي المستخدم عمليًا تحديدًا في أمور الطباعة، سواء التقليدية أم الجديدة على الكومبيوتر. قبل عشر سنوات كان هناك شح شديد في تصميم الحروف العربية، فكانت المكتبة اللاتينية مثلًا تشكل مئة ضعف عدد أنواع الحروف عنها في اللغة العربية. أما الآن فقد ارتفعت أعداد الحروف العربية المصمّمة، بسبب تطور تعليم التصميم الغرافيكي في الجامعات، وازدياد أعداد المهتمين بتصميم حروف جديدة، فبتنا نرى حروفًا ذات تصاميم مختلفة في الإعلانات أو المجلات والصحف أو شرائط الأخبار في التلفزيون، بل وباتت المؤسسات تنتقي خطًا خاصًا بها كتعبير عن التميّز. وبات هذا الأمر في المتناول مع تطور وسائل التصميم الإلكترونية.
* عُرفت في بيروت كرسام قبل انتقالك إلى السعودية واعتنائك بفنون الكلمة والتصميم الغرافيكي. وما زلت حتى اليوم تشارك في معارض جماعية وفردية للرسم. متى يلتقي الرسّام والمصمّم ومتى يفترقان؟
بمجرد أن يقوم شخص بعملين أو أكثر فلا بدّ أن يكون هناك ما يربط بينها. كلا الفنيّن؛ الخط والرسم، يبدأ بـ"سكتش". والسكتش أي الرسم الحر البدائي بقلم الرصاص على ورقة هو أمر مهم جدًا، وهو مهم إلى درجة تجعلنا أحيانًا نكنّ له الكره. فهو كونه نقطة الانطلاق لتحقيق عمل فني معين قد يصعب تحويله إلى عمل منجز، أو قد يفقد بعضًا من ميزته الأصلية بعد أن يجهز وينجز، فنشعر بأنه خدعنا.
دعني هنا أضيف حول هذا الموضوع ولكن من زاوية نظر مختلفة؛ أنا لا أؤمن أن الفن هو صناعة فردية، فلا وجود لفن فردي. فحتى لو عاش الفنان في مغارة طوال عمره، فإنه يحمل في جيناته تراث الذين سبقوه، أي أنه وليد تراكم فني شاء أم أبى، اعترف أم أنكر. مثلًا العارفون بالموسيقى يعرفون بيتهوفن من عدة نغمات، فهذا بيتهوفن، لكن هذا لا يعني أنه صنع موسيقاه من معدن خاص، بل من انصهار معادن كل الذين سبقوه من صانعي الموسيقى.
حين يقدم أي فنان عملًا فنيًا ذا قيمة، فلا بد أنه امتلك ثلاثة عوامل؛ الانتماء إلى التراث والانتماء إلى العصر ومن ثم موهبته وإحساسه الفردي. فلا يمكن أن تكون تراثيًا إذا لم تكن عصريًا، ولا عصريًا إذا لم تكن تراثيًا ولا فنانًا إذا لم تملك إحساسك الخاص. هذه جدولة من ثلاثة عوامل ترتبط ببعضها.
* منذ أواخر الثمانينيات كانت أسماء المؤسسات والشركات والمصارف والمصانع تقدّم باللغة الأجنبية. ثم اشتركتم مع آخرين في عدد من الدول العربية بتحقيق وإنجاز قيمة إعلانية للحرف العربي. هل نجحتم في عصرنة الحروف العربية؟
أعتقد أن إدخال الخط العربي في المجال التجاري هو أهم للخط والحرف العربي ولتراثنا وتحضّرنا وعصرنتنا، من لوحة مخططة معلقة على جدار في صالون. وقد يخالفني في هذا الرأي الكثير من الفنانين النخبويين الذي ينفرون من كل ما هو تجاري. فمثلًا حين تفنّنا في تخطيط لوحات الشوارع في بعض الدول العربية، تلك اللوحات التي تدل على أسماء المناطق أو الاتجاهات ولوحات الإعلانات "البانو" (Panneau)، كنا قد أعدنا الخط إلى الشارع أي إلى العامة، وهذا أسلم من الناحية الثقافية الاجتماعية بسبب احتكاك الناس بلغتهم مصوّرة.
* في ظل تراجع المجلات الثقافية العربية عددًا ونوعًا، وإقفال بعض أشهرها مؤخرًا، هل تعتقد أن هناك قارئاً في العالم العربي، وهل صمود مجلة "القافلة" التي يصممها "المحترف"، سببه الدعم المادي أم لأسباب تتعلق بطبيعة المجلة؟
بسبب معرفتي بقرّاء مجلة "القافلة"، يمكنني القول إن قراءة الكلمة القيّمة والمشوّقة ما زالت منتشرة، على عكس ما يشاع، وهي رغبة حية لم تمت ولن تموت. اليوم ورغم أننا في عزّ زمن "تويتر" و"واتس أب" و"الفيسبوك" وغيرها من وسائل التواصل، أؤكد أن هذه لم تغنِ عن القراءة الحقيقية التي تعطي القارئ متعة واسعة وزادًا ثريًا. الوسائل الثقافية غير مدعوة لرثاء نفسها بل لتجديدها. وغير مدعوة لرثاء القراءة والقراء بل للبحث عما يوقظ حماستهم ويجدد رغباتهم.