"إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء، لا تقتل الأعداء، لكنها تقتلنا، إذا رفعنا صوتنا جهاراً، تقتلنا وتقتل الصغار.." (أمل دنقل)
ساعات طوال، تقضيها في معسكر التدريب، من السادسة صباحاً حتى الخامسة مساءً، تحت أشعة الشمس الحارقة، صيفاً، أو لسعة البرد القارس في فصل الشتاء، سينالون منك عقب قبولك في الكشف الطبي الخاص بأداء خدمة التجنيد الإجباري، تفقد خلالها معظم قوتك، وما تبقّى لديك من كرامة وبقايا إنسانية، دون سبب واضح، مفهوم.. ولكن الغريب هو اقتناع حكومة دولة بأكملها أنه لسبب ما، غير معلن، لا بد أن تقضي تلك الساعات، فهي التى سوف تخلق من هؤلاء الشباب "رجالاً"، على حد قول السادة المسؤولين.. نعم، رجال ينتهي بهم المطاف بالعمل في قاعة أفراح في دار من دور القوات المسلحة، أو مصنع للمعكرونة أو رب البندورة.
ولكن، نود أن ننبّه بأنكم سوف تطالعون أحرف، وليست أسماء كاملة، لمَن يروون قصصاً عن حياتهم البائسة، داخل معسكرات التجنيد؛ فهم اكتفوا بإعلامنا بأول حرف من أسمائهم، خوفاً من تعرضهم للمحاكمات العسكرية، وهي ليست ببعيدة عن أحد.
جندي مجند "أ.ع"، شاب مصري يروي لـ"جيل العربي الجديد"، الأجواء التي عايشها أثناء تأديته للخدمة العسكرية: "أسوأ ما نحياه هو التعامل غير الآدمي، الذي نلقاه كعساكر مجندين؛ فأولى المآسي هي "التعيين"، أو المأكل والمشرب بالدارجة فى العسكرية المصرية، يتم إلقائه لنا داخل صندوق صفيح يدعى "شطافات"، مكون من كميات من الأرز، مخلوطاً بنوع من الخضار، وفي أغلب الأوقات لا نأكله، بسبب رائحته الكريهة، فضلاً عن معاملة الضباط لنا كمجندين؛ فعندما يرغب أحدهم بمناداة مجنّد ينعته بـ"يا ابن الـ.."، كلمه تعني العاهرة أو المرأة سيئة السمعة، وهذا أمر طبيعي داخل هذه المنظومة. طبيعي، فهو لا يقصد شيئاً محدداً تجاه مَن يناديه، ولكنه الاعتياد!".
"أ.ع" يواصل حديثه قائلاً: "في أولى أيام تأديتي للخدمة العسكرية، كنت أتوقع أن أحمل سلاحاً لحماية أرض الوطن، ولكني فوجئت بأن كل حماستي تحطمت عند جعلي "عسكري متابعة"، أو بالأصح، خادم للضابط المسؤول عن وحدتي، أواظب على تنظيف غرفته، والاعتناء بملابسه وحذائه، يومياً، وإذا ما أبديت اعتراضاً، تتم معاقبتي بالعمل على الحفر في الصحراء، دون هدف في الواقع سوى معاقبتي، أو نقل المياه من مكان لآخر، لمسافة تبلغ عدة كيلومترات في الصحراء.
وفي رواية أخرى، يروي لنا مجند "م.ع"، وهو شاب في أوائل العشرينيات، تفاصيل يومه داخل معسكر التجنيد، واصفاً بأسى ما يتعرّض له من مضايقات أثناء وجوده في معسكره، كما يطلق عليه: "القانون يمنحنا فترة إجازة كل 28 يوماً، ولكن نحن لا نحصل عليها إلا بأمر من الضباط، كما يحلو لهم، فتارة كل 67 يوماً، وتارة أخرى كل 73 يوماً".. يستكمل حديثه بأسى: "تبدأ الإهانة منذ لحظة الخضوع للكشف الطبي، فهي التجسيد الحرفي لمعنى انتهاك خصوصية وآدمية الإنسان"، مؤكداً أن هذا الكشف يتم على مرأى من الجميع.. ويستكمل قائلاً: "لا نتمكن من الحصول على المياه الصالحة للشرب، نظراً لامتزاجها بمادة "الفنيك"، وهي إحدى المواد المستخدمة لتنظيف المراحيض".
ويضيف "م.ع": "هناك بعض من رجال الجيش أو الحكومة، بشكل عام، يعتقدون أنهم بذلك يخلقون رجالاً، يقوون على مواجهة الموت والصعاب بشتى صورها، ولكن الحقيقة على النقيض، فلم يكن للذل والمهانه دوراً في خلق الرجال الأقوياء.."، مشيراً إلى أنه يحلم بخدمة الوطن، بالمعنى الحقيقي لهذا التعبير الجليل "أقف بحوزتي سلاحي، أحمي حدود وطني وأصون ترابه، وليس سلاحاً فارغاً من الطلقات، يجعلني عرضه للموت هباءً، دون أدنى فرصة تمكنني من الدفاع عن نفسي وقت الخطر".
أما "م.س"، وهو مجند سابق فى الجيش، فوصف بعض الحالات التى عايشها أثناء فترة تجنيده قائلاً: "أحد زملائي، الذين تم استدعائهم لتأدية الخدمة العسكرية، كان متزوجاً ولديه طفلة، ولا يوجد مَن يعول أسرته سواه، ولكن كل هذا لم يعفه من تأدية الخدمة العسكرية التي كانت سبباً رئيسياً لتدمير حياة أسرته، بعد أن تم فصله من عمله لتغيبه أثناء تأديه فترة التجنيد".
يستكمل "م.س" في رواية أخرى، عن زميل له قام بإطلاق الرصاص على قدمه كي يتم إعفائه من خدمة الضباط داخل المعسكر، والتي أرهقته بدنياً ونفسياً، ولكن دون جدوى، و"تم إجباره على استكمال فترة التجنيد، بالإضافة لصدور حكم قضائي ضده".
هناك جانب آخر أراد "م.س" أن يُطلِعنا عليه، وهو "نمط المعاملة التي يتلقاها المجندون المنتمون للثورة داخل الجيش، فيتم وضعهم تحت المتابعة الأمنية، المراقبة، وإما "الرفد الأمني" من الخدمة العسكرية، انتهاءً بالمحاكمة، ويختلف الحكم، في درجته، على مَن تثبت إدانتهم حسب التقارير الواردة عنهم، وعن مدى خطورتهم، من وجهة نظر المخابرات الحربية". لافتاً إلى أمر خطير، وهو قيام الشؤون المعنوية بـ"زيارات دورية لمعسكرات المجندين المستجدين من أجل تحذيرهم من أخطار الثورة، ومَن ينتمون لها، مشددين على عدم الاختلاط بهم والإبلاغ عنهم، حال التعرف عليهم داخل المعسكر".
في سياق متصل، صرَّح الكاتب الصحافي أحمد سمير، لـ"جيل العربي الجديد"، أن "قانون الخدمة الوطنية الصادر عام 1980، يعتبر بمثابة قانون ظلم ممنهج، والدولة تعاقب أبناء الفقراء، من غير المتعلمين، لأنها لم تعلمهم، فضلاً عن أن الداخلية لا تكلِّف نفسها بتدريب الجنود والارتقاء بهم ليكونوا رجال أمن حقيقيين يصونون أمن البشر، بخلاف التأهيل المهني والعلمي لغير المتعلمين، وأنا أؤمن بأن توجيههم في المرور والنظافة أولى من الزج بهم لسنوات أسرى داخل سيارات الأمن المركزي".
الدفاع عن الوطن وحماية الأمن القومي واجب وطني، وشرف مقدس، لا يملك أي مواطن أن يرفض نيل هذا الشرف، ولكن في زمننا هذا أصبح التهرّب من الخدمة العسكرية هو الملاذ الآمن لكل شباب هذه الجيل، فعندما يتحوّل الواجب المقدس من خدمة الوطن إلى خدمة ضباطه، يتوجب أن تكون هناك وقفة صارمة تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.
*مصر