يشكّل الفضاء الإلكتروني رمزاً للقوة بين الدول وركيزة أساسية من ثوابتها، تستوجب فرض السيادة والسيطرة على جميع مناحيها، كما باتت الرقابة على الفضاء الإلكتروني في تزايد مطّرد ومحوراً رئيسياً في صياغة السياسات العامة، خصوصاً تلك المتعلقة بالأمن القومي.
في هذا السياق، يشير تقرير منظمة الأمم المتحدة حول "مؤشر الإنترنت: الاتجاهات الأمنية الدولية" لعام 2015، إلى أنّ 124 دولة لها برامج أمنية إلكترونية، أغلبها تحت إشراف مدني وتخص تقنيات التجسس الإلكتروني وبرامج القرصنة للهجوم على المواقع المعادية. وتتصدر الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، والصين، ترتيب الدول الأكثر استعمالاً لهذه المنظومات الإلكترونية.
أما في المنطقة العربية، تصاعدت الرقابة على الفضاء الإلكتروني بشكل ملحوظ مع ما عرفه العالم العربي من تحوّلات كبرى خلال العقد الأخير، والتي تجلت في انتشار الوعي السياسي لدى لشباب ومتابعتهم لشؤون بلدانهم، الأمر الذي تجسد في حراك عربي واسع عام 2011، كان لتكنولوجيا المعلومات والاتصال دور مؤثر في الإخبار، النقاش، التشبيك واتخاذ القرار. وبات الفضاء الإلكتروني بالنسبة للدول العربية جزءاً ترابياً يدخل ضمن حدودهم الإقليمية ويستلزم تغليب الهاجس الأمني عليه كما هو الشأن في باقي المجالات.
بذلك، تعمل العديد من الدول العربية على إضفاء طابع الشرعية على رقابة الفضاء الإلكتروني بداعي الأمن القومي عامة، والأمن الإلكتروني على وجه الخصوص.
هنا، لا بد من توضيح بعض المفاهيم المركزية لفهم أبعاد ومداخل هذا الموضوع. فالفضاء الإلكتروني عبارة عن مساحة افتراضية تتفاعل فيها مجموعة من الأجهزة والبرامج الإلكترونية، ويتكون من الشبكات المترابطة للبنى التحتية لتكنولوجيا المعلوماتـ، ويتضمن الإنترنت، وشبكات الاتصالات، وأنظمة الحاسب الآلي، والمعالجات الإلكترونية وأجهزة تحكم.
على هذا الأساس، فالأمن المعلوماتي يمثل مجموعة من التدابير والآليات التقنية والإدارية الهادفة إلى حماية المعلومات من الاستحواذ المتعمد أو غير المتعمد، التلف، الإفشاء، التلاعب، التغيير، التعديل أو الفقدان.
ويندرج الأمن المعلوماتي داخل إطار الأمن الإلكتروني المنوط به القيام بعمليات تصميم نظم لحماية الشبكات والحواسيب والبرامج والمعلومات من التدمير أو القرصنة أو التجسس. يعتبر الأمن الإلكتروني المظلة الكبيرة لأمن المعلومات، التطبيقات والشبكات، خصوصاً مع تعرّض الأجهزة الإلكترونية إلى مخاطر الاختراق والقرصنة.
وعلى المنوال نفسه، يمثّل الأمن القومي الحاضنة الكبرى لكل المفاهيم السابقة؛ حيث يسعى إلى حماية الدولة مادياً من خلال تحصين الأراضي والموارد، ومعنوياً بالحفاظ على الشرعية السياسية ومواجهة الاختراقات الأمنية بإجراءات دبلوماسية، قرارات اقتصادية أو رد إلكتروني. لذلك، تحتاج الدولة إلى قوة إلكترونية رادعة؛ إذ نجد أن القوة لم تعد تقتصر على بعدها العسكري فحسب، بل عبر امتلاك قدرات تكنولوجية ومعرفة رقمية تمكن من مواجهة الحروب المعلوماتية وتحقيق مكاسب سياسية تتجلى في توجيه الرأي العام وتسويق أفكار وأطروحات مساندة للدولة.
على مستوى العالم العربي، فقد شهد العقد الأخير رقابة صارمة على الفضاء الإلكتروني؛ تمثّلت في بداية الأمر في إجراءات وقائية من وجهة نظر الدولة، كالحفاظ على شركات الاتصالات في ملكيتها، أو حتى عندما تتم خصخصتها تباع إلى رجال أعمال مقربين من اللأنظمة السياسية حتى تسهّل عملية التجسّس على النشطاء السياسيين والحقوقيين، الكتاب والصحافيين المعارضين، وتتبع اتصالاتهم الهاتفية، اختراق حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وكشف رسائلهم على البريد الإلكتروني.
إضافة إلى ذلك، عملت بعض الحكومات العربية على حجب مواقع إلكترونية تحتوي على مواد صحافية معارضة للنظام السياسي، وكان المدوّنون أكثر عرضة للتجسس؛ حيث تُرصد منشوراتهم وتخترق مواقعهم، من خلال التخريب عبر القرصنة. فترسل لهم رسائل تهديد وشتائم، أو في الكثير من الأحيان يتم اختطافهم قسرياً، كما هو الشأن مع المدونة طل الملوحي في سورية.
وأحياناً، يجري اعتقالهم بتهم سياسية تخص سب النظام وإضعاف شعور الأمة، كما هو الحال مع الصحفيين عبد الكريم الخيواني ومحمد المقالح وصبري بن مخاشن من اليمن، والمدونين المصريين مالك مصطفى، ومحسن عادل ومحمد الشرقاوي.
وقد شهدت بعض البلدان العربية إجراءات مشددة للرقابة الإلكترونية؛ حيث كانت وزارة الاتصالات السورية تأمر أصحاب مقاهي الإنترنت بطلب البطاقات الشخصية من جميع زبائنهم لتسجيل أسمائهم، وأوقات استخدامهم للإنترنت وتقديم سجلات بهذه البيانات إلى السلطات بصورة دورية.
وأشارت منظمات حقوق الانسان إلى أن السلطات تضايق وتحتجز المدونين الذين يعتبرون مناهضين للحكومة. فعلى سبيل المثال، تمت محاكمة وعد المهنا في السنة نفسها، وهو أحد المدافعين عن المواقع الأثرية المعرضة للخطر، لنشره كتابات على الإنترنت انتقد فيها هدم إحدى الأسواق في دمشق القديمة.
بالطريقة نفسها، كانت الحكومة التونسية تطلب من مزودي خدمة الإنترنت في تونس إطلاعها دورياً على عناوين بروتوكول الإنترنت وغيرها من المعلومات الدالة على هويات المستخدمين. وتمر حركة معلومات الإنترنت عبر شبكة مركزية تسمح للحكومة بترشيح المحتوى ومراقبة رسائل البريد الإلكتروني.
وتوظف الحكومة مجموعة من الأساليب لمضايقة المدونين: فرض المرقابة، وتقييد حركة المدونين، والقيام بعمليات تخريب إلكترونية. وقد أمضى الكاتبان على الإنترنت، سليم بوخذير ومحمد عبو، عقوبة بالسجن بسبب عملهما. الأمر الذي جعل العديد من مستخدمي الإنترنت في تونس يقومون باعتصام إلكتروني في أيار/ مايو 2010؛ وهو عبارة عن تظاهر افتراضي عبر الإنترنت احتجاجاً على منع وحجب مدونات ومواقع. فتم تأسيس موقعاً إلكترونياً خاصاً أطلق عليه المتظاهرون اسم "عمار 404" ليكون فضاءً للتظاهر.
وبما أن الفضاء الإلكتروني شكّل منصة هامة خلال الحراك العربي لعام 2011 في التعبير عن الرأي، حشد الجماهير وتنظيم الفعاليات الاحتجاجية بالميادين، فإن الرقابة الإلكترونية تزداد صرامة بعد موجات الثورة المضادة في محاولات انتقامية من أصحاب الرأي، باعتقالهم تارة، اختطافهم أو قتلهم معنوياً عبر الافتراء الإعلامي من خلال التخوين وحتى التكفير، أو بقطع الأرزاق تارة أخرى. فعلى سبيل المثال تم فصل الأستاذ ليث أبو جليل من جامعة الأميرة سمية الأردنية على خلفية منشورات له في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك نشرت منذ أربع سنوات خلال الحراك الإصلاحي بالأردن.
وبالتالي، عرفت العديد من الدول العربية إنشاء قوانين مشدّدة للجريمة الإلكترونية كما هو الحال في الجزائر والأردن وبعض دول الخليج العربي، بينما باءت محاولات إرساء هذه القوانين بالفشل في دول أخرى كحالة المغرب؛ حيث شن مجموعة من النشطاء المغاربة حملة شرسة ضد مشروع قانون المدونة الرقمية، الأمر الذي دفع الحكومة إلى عدم طرحه أمام البرلمان.
كانت مسودة مشروع القانون تتضمن عقوبات حبسية وجنائية صارمة، ضد مسؤولي ومدراء ومالكي المواقع الإلكترونية ووسائل الاتصال الرقمية. وتمت مواجهة هذا المشروع بصفحات للعصيان الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومما يلاحظ في شأن الرقابة الإلكترونية في العالم العربي، أنه بكل تأكيد يمكن اعتبار تحدي الأمن الإلكتروني أعلى تحديات الأمن القومي؛ فمواجهة الإرهاب والتجسس الخارجي يستلزم التوفر على منظومة أمنية إلكترونية ترصد المخاطر وتحدد سبل مجابهتها؛ فقرصنة مواقع رسمية للدولة أو شن حروب إلكترونية على مؤسسات اقتصادية من خلال سرقة معلومات استراتيجية أو المس بالملكية الفكرية هي جرائم حقيقية يجب على الدولة مواجهتها، لكن حجب المواقع الصحافية على الإنترنت، اعتقال المدونين أصحاب الرأي، وكذلك اختراق الحسابات الشخصية هو مس بالحريات العامة، الأمر الذي يستوجب ضبط وربط معادلة الحرية والأمن التي ما فتئت تمثل إشكالية ملحة في العالم العربي.
(المغرب)