القاهرة تتسرب إليّ خلسة، أنتبه فقط لمحاولاتي إخفاء عبورها فيَ، كأني أخاف معاتبة دمشق المدينة البعيدة لي، كأني يمكنني سماع عتابها في كل مرة أنطق باللهجة المصرية "لقد تغيرتي"، نعم تغيرت، وأنت أيضاً تغيرت.
أرى حكاياتٍ تمحو حكايات أخرى، الماضي القريب الذي كان يبدو كالبداهة يتحول إلى سؤال، كأني أجلس في غرفة مونتاج صغيرة، لا يمكنني أن أتعرف ماضيّ، إلا فيما بقي منه، و ما بقي لا يصلح أكثر من دليل على الغياب.
للكلمات فائدة كبيرة، بحسب فولتير، فهي تساعدنا على إخفاء ما نفكر فيه حقاً. إنها تفي بالغرض، تُشعر المستمع بأنك تتحدث حقاً. بينما أنت تملأ الجو بفقاعات، بأحجام مختلفة، حسب التأثير المطلوب.
كان القمر يسحبني نحوه بقوة وبسرعة. تعثرت كعادتي، إذ أني أمشي من غير توازن لا لمشكلة جسدية، إنما أسلّي نفسي بالتعثر مرارا وتكرارا، فلا يكون السير وحيدة شيئاً مملاً، حيلة أخرى لأسلي نفسي بأي شيء بعيد عن التفكير بنفسي.
في الخارج، يراقبونني أحياناً باهتمام، ويشيحون النظر عني كثيراً، لكنهم يعلمون أني موجودة، حينما أرادوا ذلك، لا أغيب، كيف يمكن لسمكةٍ أن تغيب، فهي ضمن هذا الحوض يُرمى لها بفتات الطعام فتأكل، تتم تدفئة المياه فلا تبرد..
منذ ست سنوات، وأنا لا أفكر بشيء سوى الموت. ولاأعرف ما الذي يعنيه الفقدان بالموت، أفكر فقط بالصيف القادم حين يعود الجميع، بأن المسافة التي تفصلنا عن اللقاء هي مسافة غياب قصير، ومشط جدتي يفي بالغرض، مشط لكل من نحب.
صارت نجاتي تذكاراً، وتميمة. التميمة التي تحوّل الاعتداء إلى كابوس نصحو منه ونبتعد عنه. لكن هناك آلافاً أخرى، من لم تُقدّر لهم/نّ أيّ نجاة،؛ آلاف لا ملجأ لهم حتى في حديقة أو حلم. ربّما، لو اقتنعنا بالنجاة منذ البداية لنجونا.
كبرتُ يا أمي، ولا أقوى على نسيان شيء؛ فاجأني صوت الرصاص، حاولت تقليص حجمي، تمنينا ارتداء قبعة الإخفاء، ربما نجوت، غداً أنا أكبر إذاً سأنسى؛ سمعت صوت الإنفجار، ركضت في أرجاء المنزل، اختبأت، نجوت ربما، وأنا أهمس سأكبر سأكبر..
عادت إلى المنزل فرحة بثوبها الأبيض؛ رنّ جرس الهاتف، أجابت.. سمعت.. انهارت بالبكاء، جلست في غرفتها خمسة أيام متواصلة، لم تفعل شيئا سوى البكاء، فالفرحة تبخرت، وقوس قزح بدا ضباباً...
لم ينتهك أحد أفكاري، بل أنا من تنازلت عنها غير آبهة، ولم أًجبر على التخلص من ابني، بل اخترت له عدم الوجود؛ حيلة ابتدعتها فتاةٌ، لتصبح قادرةً على فعل شيء، حتى لو كان التخلّي في سبيل امتلاك حريتي.