1
إنّها شُعْلة منْ كافورِ "باروسَ" الخالصِ
مذاقُ الإمبراطوريّاتِ مغمورة في أعيادِ الانعتاق الكبيرةِ
مذاقُ الشرقِ يُضْنِيه وجْدُهُ
مذاقُ العنبرِ والشهوةِ
مذاقُ كسل عذب يتلوّى مثلَ عشقٍ مراهق
لا يستطيعُ منْ غمرات المنفى فكاكاً
إنّه بحرٌ أرجوانيٌ مثل شعاع قمر داكن
يعلن احتفاءهُ بمجد القرصان المنتصر فوق المنابر
يا أيّها القرصانُ منتصراً على نوبات الغضب
كُبْرى غَضَباتِ التمثال الطّريح
أيُّ نذيرٍ كاشفَكَ بوجْه الشَّرق؟
آه... كمْ هي كثيرة هذه الآلام اللّامتَوقّعة
كمْ هي كثيرة لحظات الصّمت عصيّة على الاختراق
كم هو كبيرٌ صبرُنا الذي لا يطويه النسيانُ
آه...بم أمسكْت منْ بحار حِقَبِكَ الرَّائعة
وإذ بعيداً هناك،
في مكان قصيّ عن ممالك الكلام
فوق قمّة الصمت ذاته،
أينْ ينسجُ الضباب، على مهَلٍ، لغتَهُ
عندئذ فحَسْب، تعرف آلامُك نهايتها.
2
هناك على أرض من الصَلصال الدافئ
يحيا شعب من الملوك
حذار من غضبه
إذا أردنا أن نستضيف العاصفة
لا بدّ من طقوس كبيرة ومن أسرار غامضة
لا بدّ أن نرعى، على مهل، غضب الآلهة،
أن نبدّد حياد الظلال
لا بدّ من خيانة ما
أنت أيّها القرصان المنتصرُ
على نوبات غضب التّمثال الطريح
دعْ إذنْ ظلال الكبرياء النديّة تعدو
في سهُوبنا الجافّة
أنت أيّتها الأمطارُ الأولى غبّ الصيف
أوَلمْ يكنْ منْ طين هذا الجسد الذي حسبتُه جسدي
يا أمطار الفلفل والنبوءات في أوْجاع شعبٍ يُولَد
غضب وعدوان
والخوف المريع
قديماً كان الخوفُ... وغداً تكون الطّفولة
الموج العاتي في أعالي البحار يمتلئ غضباً
سيُحطّمُ بعد ساعة كبرياءَ الصّخر
وفي هذه الدنيا وعلى هذه الأرض
المجبولة من صلصال دافئ
يحيا شعبٌ من الملوك
ملوك بائسون لكنهم
أعِزّةٌ هادئون.
صنّاع أعاصير
3
وعندما نُفخ في الصُّور
حاضرين كنّا فوق حقل الحصاد
هلْ أخطأنا إذا ما عجّلنا بسقوط جذع من الخشب العاري؟
ثمّة آخرون كثرٌ أيضاً
سيرتضون هذا اليومَ بالانتشاء والموت
سيسيرُون غيرَ مبالين نحو طغيان عات
وعند هُبوط الليل
سيعودُون إلى بيوتهم
وقد أتموا عملهم
الكِبْرُ،
لهيبُ كافور "باروس" الخالصِ
مذاقُ الإمبراطوريّات التي غرقت في أعياد الانعتاق الكبير
أيّتها الأميرة ديدون
يا أمّي وأختي وابنتي
لعلّك كنت تبكين وأنتِ تريْننا نُباد
العارُ ضربٌ من الموت لا يلائم منزلتك
وفي شرق الأزمنة الغابرة
كان طيفك الشامخُ يرتجف
هذه الليلة
في فجوات الغابة الساكنة،
القمرُ وعشيقهُ الآثم
سيخلدان للنّوم
لا أحدَ يمكنُه أن يفخر بترتيبات أرحب
لا أحد يمكنُه أن ينشد مجداً مماثلاً
4
أنت أيّتها الغاضبةُ
الملتبسة النّافرة الشرسةُ
ها هو شعبٌ كاملٌ من العشاق يقتفي خطوك
ينشدُ العظمة التي يفحصها الخلودُ
الحاضر في أوج عُنفوانه وفي أثواب الأبّهة
آه الأبديّة
حلم البحّارة وهُمْ في قبضة الرعب
من ذا يجرؤ على النسيان؟
من ذا الذي يتيحُ
لي الارتواء من صمت أبديةٍ من رخام
لأنّك أنت
فارعة رشيقة ومشرقة مثل أميرة "إلف"
أيّتها الماسيّةُ
أنت التي تُتيحين لهم الحياة والموت في العطش
وأسمع صوتك يدنو ورائي
وأبتسمُ
5
أيّها الطريحُ أرضاً
كم مزّق صمتي العار
غضب العِشق الأوّل تغذيه أمطار الخريف
ليلٌ،
طويل مظلم هذا الليلُ
قبل دويّ الصاعقة
وها هي دافئة زاحفة
تواصل سعيها مثل جسد يَرْتجف
عشيرةٌ يجمعها العطشُ
عشيرةٌ تفرّقها زخّاتُ المطر
آه... يا سهولَ جامة الوسيعة
6
ألم يروا في صفوف الغضب
النسغ الصامت لمن تعذّبوا بيننا؟
نسغاً ولوداً
رفعت حرارته رياح الهجير في بساتين البرتقال الساكنة؟
ألم يروا كتيبة فرسان سبعة تماهت أسماؤهم
وثارت تحت سنابك خيلهم أراضي أكثر اتساعاً من رحمة النسيان؟
والغبار الميّت مرتفعاً في إشارات العرّافين الوسيعة،
هم المبشرون بمناورات كبرى تثير انفعال النار المقدسة
ألم يروا الملكة العنيدة تبقع بالأملاح حقول زيتون من طين أحمر؟
يا نبوءات الخلاص الكبير
إنها لكواسر منزوعة الريش ترقص على قمم أحلامنا
-وهذا أمر هين-
كواسر تنسج غسق فجر لم ينبلج بعد
آه ماذا يعرفون عن هذه الضروب من الخلاص؟
ورأينا منبثقا من هذه الأرض في مخاضات عسيرة واهتزازات كبيرة
جَمالاً صلداً مرّ المذاق،
مثل وجه أحرقه الصوان والريح،
أغبر مثل ظهيرة في شهر تموز،
مبيض مثل مقبرة منسية
أجل كم رأينا قصائد من حجر تنتصب في صمت العصور الغابرة؟
وكم رأينا وجوهاً غُفلاً تضيع فيها؟
أجل رأينا سنابك الصليبيين في باحات المساجد
لكن في صباحنا هذا
أقمنا بين الخيش والخشب صلواتنا فيها
يا لقوّة الخاضعين
7
آه كم كثراً كانوا ملوكنا
وتحت أشواك عقائد الولاء
كم كانت طيعة هاماتنا وسواعدنا
أنت أيها القرصان المنذور لكبرى لعنات جحيم البحار
في إحدى ليالي الخريف
وطئت، على ما يبدو، ضفاف الأعداء
في إحدى ليالي الخريف
أضرمت النار في إقطاعات قديمة
وطوقت بغضبك كوى النبال
لأنك وعدت بأميرة فارعة رشيقة ومشرقة
أميرة من أميرات شعوب "إلف"
وفي الساعة الموعودة وقفنا على شفا الهاوية
كان ظلّ الموت يحاصر أنظارنا
وجلّادونا يتربصون بنا على الهضاب العالية
أجل عرفنا ملوكا من آكلي لحم البشر
وفي السهول القاحلة المنذورة للصخب
رأينا كيف يلتبس النشيد بالموت
أجل رأينا أمواج البرابرة تغمر مدننا
لكنّ هناك نشوراً عظيماً يسري تحت موتانا
آه ألم يدركوا أن لحمنا مر؟
وألّا أحنث من أيمان الحشود؟
هذا المساء
بعيداً عن صخب اليم
سينام في أجمات هادئة
القمر مع عشيقه زاني المحارم
يا للسكينة تلفّ كل هذه الحماسة
8
مباركة تلك الساعة التي يمنح فيها صخب البحر الصمت مملكته
تلك التي فيها يستسلم الطفل مكرهاً للنوم
حيث لا نسمع إلا غناء صرار وحيد
وصريراً متردّداً لشبّاك موارب
في حوض من الرخام الأبيض وجد الماء سكونه
ولا شيء يخيف كائنات القاع
إنها ساعة الوحدة في كل ألوانها
الوحدة التي غنمت بعد صراع مرير
في خضرة غير مرتقبة على أرض عطشَى،
تلك التي دفناها مثل حجر كريم غامض في جرح لجسد أزلي نازف
أو وحدة حسبناها قد ضاعت إلى الأبد
ثمّ وجدناها فجأة وسط الحشود الصاخبة
يا ضروب الوحدة لأزمنة السلالات الأخرى
إنها صرخة
صرخة مفردة وحيدة انبثقت من قلب زيتونة معمّرة
حاملة في صدى نفسها الجديد نظاماً من الأشياء محدّداً
أجل فادحاً كان الخطأُ
باهظةً تكون جزيته
حتى متى الإهانة
كم مرّة أخرى علينا أن نموت
9
يا للغدر
يا للخيانة
منهما نسجت راية هذا المجد
وبهما دنّست
أكثرُ دنساً من يد ليلية مدّت لتهب ألسنة النّار احتمالات الفجر المشرق
أكثر من واحد وعشرين يوماً قدّت من ملح ورماد
ودموع قائد عدوّ،
أكثر من موت موعود،
من أجل كل ذلك انطفأ بريق مجدكم
لا ولاء لغير نشيد الحشود وقد أثملها جبروتها
لا ولاء موعوداً إلّا لأولئك المتمرّدين من أهلنا
وقد لاذوا بطيّات الضفاف المغلقة لمدننا
لاذوا بفضاءات العالم الرحبة
مجدنا واضح للعيان
عظمتنا في كل الدروب
إنما كثرٌ هم الأباةُ الذين خضعوا لطبقة السادة الجدد
كثرٌ هم الذين دفعوا للكبرياء جزية الطاعة،
نافين أن تكون ضرباً من الخيانة
لكن من رغبة الأمير ينبثق شرف الموالي
"يا سرّاق التين"
صرخ نذير في صفوفنا
يا سرّاق الأحلام دون شرف
يا سرّاق الأماني والنبوءات
منها نسجت راية مجدكم
وبها تدنّست
10
ثمّ تأتي أشدّ العصور قسوة
وأكثر الساعات قتامة
وينحدر البرابرة بأعداد هائلة
وتنهمر أمطار غزيرة شيباء
لا تروي أرضاً ولا تطهّر دنساً
وتأتي من أعماق الرمال القاحلة
سحب كهنة مبشرين بكلام مستراب
كلام مستراب يرفعونه إلى منزلة ألواح الوصايا
أجل يا أمّي يا أختي ويا ابنتي
تأتي هذه الأيّام حتّى أعتاب بيوتنا
نبوءات شديدة القتامة،
هل لنا أن نرحل ذات يوم عن هذه الأراضي المتزهّدة؟
أن نسلّم غبار الأسلاف الأحمر لقوى الذكريات الحيّة؟
أن نغلق أجفان مساكننا النبيلة
وندعو أطفالنا الذين يلعبون في الساحة
ثم نلتفت ونحن نعبر غبار خطانا
إلى التباشير المضطربة لما كنّا عليه؟
مهزومين، لن يكون لنا غير الحزن نورثه لأبنائنا
لكن لا يزال فينا يدوي صدى نشيد الجنون المرّ
جنون المياه الحيّة الرحب
وكوكب الإيمان الأعمى
أمّا هؤلاء الذين نظموا أناشيد العالم الجنائزيّة
فلهم أن يسطّروا على ألواح كبرى من رخام وبرونز،
منعرجات صباحاتنا المتعثرة،
لهم أن يقولوا ألّا شيء ينبت في أراضينا، ما لم يكن مسجّلاً في أعمدة سجلاتهم،
قل لهم أيها الطفل الذي سوف يولد بيننا في القماط
قل لهم كم إمبراطوريات قبلهم آمنت بالخلود
كم إمبراطوريات قبلهم كان مآلها الغرق في الخلاص الكبير.
* شاعر من مواليد تونس العاصمة سنة 1973، يكتب الشعر بالفرنسية. درس البيولوجيا وعلوم الإدارة في فرنسا وشغل مناصب في هذين المجالين قبل العودة إلى تونس في محاولة للتفرّغ للكتابة، إلى جانب العمل الثقافي وتنظيم أحداث شعرية دولية في تونس. من إصداراته: "الظل.. النور" (1997)، و"أحلام شجرة الكرز المزهرة" (2008)، و"أناشيد الضفة الأخرى" الذي كتب فيه تجربة الثورة التونسية (2014).
** القصائد من ترجمة الشاعر نفسه عن الفرنسية