"أمّوسو": توثيق بصري لأطول اعتصام مغربي

31 يوليو 2019
نساء "أمّوسو" في مواجهة الوحش الرأسمالي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
منذ اللقطات الأولى للوثائقي "أمّوسو" (2019، 96 دقيقة) لنادر يوحموش (العنوان بالأمازيغية، يعني "الحراك")، يكتشف المتفرّج فضاءً قاحلاً وخاليًا. يستنتج أن الإنسان يحتاج إلى طاقة أمل زائدة، ليصمد في فضاء عدواني كهذا. يعيش السكّان في فضاء شاسع، وزمن مترهّل. يتداخل الزمن والمكان لتكثيف الإحساس بالملل. التقطت الكاميرا الكثير من الضجر، الذي يكشف حقيقة الحياة في جنوب شرق المغرب، قرب وارزازات. هناك طقس قاسٍ ورزق قليل. لا جديد في الأفق. في خضم هذا الخلاء والزمن الميت، ترصد كاميرا يوحموش نبض حياة تقاوم الفناء. هناك، يصير بزوغ نبتة خضراء، وتفتّح زهرة بيضاء، بطولةً. 

العيش هناك بطولة أيضًا. الأمر أصعب، مع اندلاع نزاعٍ حول الماء، بين شركة معادن وافدة وقبيلة متجذّرة في أرضها. بدأت الشركة الحفر عام 1988. بعد 3 أعوام (1991)، تضرّرت "الفرشة المائية"، فقرّر السكان بدء الاحتجاج، لكن من دون نتيجة. بدأ اعتصام طويل فوق جبل أصفر، بلغ ذروته عام 2011. يحتاج الصمود في قمة جبل أجرد إلى عزيمة هائلة. من حسن الحظّ أنّ الجبل يوفِّر موقع مراقبة جيد للمعتصمين، ولكاميرا نادر يوحموش. فيلمه هذا حاصل على الجائزة الكبرى في الدورة الـ11 لـ"المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي ـ فيدادوك"ـ المُقامة في أغادير المغربية، بين 11 و22 يونيو/ حزيران 2019.

استنزفت الشركة "الفرشة المائية" للمنطقة. الفضّة للرأسماليين، والعطش للسكان. خرقت الشركة قانون الدولة التي تحميها، لذلك قطع السكان الماء عن المنجم، لحماية "الفرشة المائية" للمنطقة. تدخّلت قوات الأمن. برمجت السلطة محاكمات طويلة لإنهاك المحتجّين، فصدح صوت المنشد الشعبي: "تعالوا أروي لكم ما جرى/ حتى لو جاء السجن/ ستمرّ الأيام/ ستمرّ الأيام/ ونعرف الغدار".


يمنح صوت المغني الحزين أبعادًا اعمق للمشهد القاحل، حيث يجلس عجوز وسط حقله اليابس، يحنّ إلى زمن الخضرة، قبل أن تتسلط شركة كونية على رزق محلي.

القوّة في صفّ الشركة، والحق في صفّ السكان. بينما تستخرج الشركة الفضة من باطن الأرض، يُصوِّر "أمّوسو" نساءً وأطفالاً ينتظرون أن تثمر السنابل، وتزهر أشجار اللوز. يشكو السكّان من العزلة، ومن تجاهل الدولة لهم، ما يجعل الفرد يُشكِّك في مفهوم المواطنة.

تؤرّخ الحكايات الشفهية ما جرى، وتخبر الصُوَر عن وضع اقتصادي كارثي. نساء مسنّات يكدحن في الحقول طول الوقت. الأيدي مشقّقة بسبب دوام القهر. مشاهد طويلة للجهد البدني اليومي، ثم يأتي الرزق قليلاً.

تعزّز هذا الوضع المتفجّر بوصول فاعل جديد، يظهر من اسم تنظيمٍ يؤطّر الاحتجاج، الذي يُقدِّمه نادر يوحموش: "حركة على درب 96". يحيل الاسم إلى تصوّرات الرفيق ودربه الماويّ (نسبة إلى ماو تسي تونغ). كيف أثّرت عودة الرفيق على بلدته؟

رجع الرفيق إلى قريته بشعارات ولافتات ومكبّرات صوت وكاميرا. مع مرور الوقت، صار الأطفال يردّدون شعر محمود درويش، عن الأرض التي تستحق الحياة، وعن رائحة الخبز في الفجر، بينما تُردّد الأمهات أنّ "القمع لا يرهبنا، والقتل لا يفنينا"، وأنّ "الجماهير الشعبية تذكّي النضال فينا". يخطب الرفيق عن القمع والصمت الممنهج واختلال موازين القوى. يندّد بالمافيا والمصالح الأخطبوطية والمقاربة الأمنية. ترتفع أصوات نساء أمازيغيات، يُردّدن شعارات فصيحة، تُتداول في الجامعة المغربية. يتغنّين بوجع عن الزمن، في انتظار مرور أيام "سجن الباطل".

سابقًا، كان متخرّجو الجامعة المغربية يحصلون على عمل، فلا يعودون إلى قراهم. في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ازدادت البطالة بين المتخرّجين، فعادوا إلى قراهم. تلقّت الوضعيات الاقتصادية الصعبة في البوادي موارد بشرية ذات نفس احتجاجي. عاد الرفاق لتأطير قراهم، مسلّحين بمكبّرات صوت، سلّموها إلى النساء والأطفال، فتمدّدت الاحتجاجات. ازداد هذا التوجّه، ليتشكل مشهد خلفي لمرحلة الربيع العربي، بعد عام 2011.

بفضل انتشار عدوى النضال الجامعي، نقل الرفاق ثقافة الاعتصام من المدينة إلى الريف. مزجوا الثقافة النضالية اليسارية الكونية بالسلوكات المحلية. مثلاً: بعد أن تتحدّث عن العطش، يستمع الرفيق إلى أمّه التي تدعو الله للاقتصاص لها من الشركة. يحصل أنْ تجلس الرفيقة في الاعتصام إلى جانب النساء، بسبب فصل الجنسين في القبيلة. لكن الرفيقة، التي جلبت معها أفكار النضال، تتساءل بمنطق لينين: ما العمل؟

هكذا امتزجت الهوية المحلية بالهوية الأممية.
"أمّوسو" وثائقيّ مُصوَّر في أعوام عديدة. إنّه ملحمة احتجاجية ضد شركة تستنزف الماء، وتلوّث ما تبقى منه. عرضًا، يرصد الفيلم تحوّلاً ديموغرافيًا في الأرياف، في مغربٍ يفرغ من سكّانه، إذْ لم يبقَ إلّا النساء والأطفال في البوادي الجنوبية، ينتظرون المال الذي يرسله الأقارب من المدن الكبرى. تتناوب مَشاهد النضال، ومَشاهد الحياة اليومية في منطقة قاحلة، تجعل الحياة اليومية رتيبة. لذا، يمتلئ الفيلم بلقطات كثيرة تجعل الإيقاع ثقيلاً. لكن، يبدو أنّ نادر يوحموش تعمّد ذلك.

في وعيه للزمن، يشبّه المناضل ضد الشركة ملفّه المطلبي بشجرة لوز، تسقى 5 أعوام لتُثمر. المناضل صبورٌ جدًا. مع الزمن المترهّل كلّه، يبدو "أمّوسو" لمن يعيش في مدينة كبيرة غارقًا في الملل، لأن المخرج يصوّر الزمن كما يعيشه سكّان المنطقة. زمن ميت وفقر مدقع في مغرب غير نافع. ما يجعل الوضع كثيفًا حارقًا، هو أنّ الوقائع التي يرصدها الفيلم لم تنته بعد، فالاعتصام لا يزال مستمرًا.
المساهمون