28 سبتمبر 2020
"أونروا" الذاكرة
كما هي العادة، منذ أن أضحى ذلك الرجل الذي يرى العالم صفقات ودولارات، على رأس الدولة الأميركية، لا تفقد نشرات الأخبار حماستها. لا مكان للرتابة التي قد تصيب المؤسسات الصحافية نتيجة لتكرار أحداث لم تعد تشغل بال المتابع، وترامب يشغل منصب رئيس الجمهورية، ولأن الحدث الفلسطيني حدث شديد الراهنية والجدية، يجد ترامب ضالته بالهروب من الفضائحية التي لفت مسيرته القصيرة على كرسي الرئاسة، بخنق القضية الفلسطينية كي يجد متنفسا في بلاده في ذروة استهدافه المباشر لأعمدة القضية الفلسطينية، يقرأ المذيع المتحمس قرار الرئيس الأميركي القاضي بوقف الدعم نهائيا عن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم "أونروا".
وجدتني أحدق في عيني المذيع، خيل إلي أنني على وشك رؤية وجهي الصغير اللاجئ، في صور تشرح الخبر للمشاهد الذي يحتاج للمرئي للتأكد من صدقية الخبر، أو لتعليله وتفسيره أحيانا، وليس ثمة من صور تعبر على وجه الدقة عن ما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، أكثر من صورة لإحدى مدارس "الأونروا" في مخيم لجوء، أو منطقة تقطنها نسبة عالية من اللاجئين. كانت مدرستي تحتل هذه الصور، لا في نشرة الأخبار التي انتقلت للحديث عن محور آخر، وإنما في وعيي الشخصي الذي أصيب مباشرة بالحبر الأميركي، يقول ماركيز: "هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات". كان هذا تماماً ما يحدث.
القرارات، قرار بخصوص اللاجئين الفلسطينيين، قرار بخصوص القدس، قرار بخصوص المساعدات، أخذت تترتب تدريجاً في شريط أخبار حياتنا، وعلينا نحن الفلسطينيين أن نراها كل يوم، مثلما نرى وجوه بعضنا، وكأن صلب العمل الصحافي في هذه الأيام تذكير الفلسطيني بمآسيه، المرتبة زمانيا من حيث الأقدم.
ومواقفنا كما هي العادة أيضاً، مكررة على نحو رديء، بالصيغ نفسها، اللهم أن التغير الوحيد هو الحدث الذي من أجله يخرج البيان الصحافي، قرارات البيت الأبيض وبيانات مكاتب السياسة العربية ودكاكين الفصائل. وتمر كل هذه اللوثات بين القرار والبيان، ويرفرف العلم الموشح بالعدمية، منذ أن صار اللجوء هويتنا وصفتنا الدائمة، وبطاقة التعريف الوحيدة التي نملكها، وصار علم "أونروا" يحرسها.
ذاك العلم الأزرق الذي يعتلي أبصارنا، المرفوع دون أدنى مبالاة بشيء، لا يستدعي اهتمام من تحته بعكس الأعلام التي تنتصب على سواري الدول. كان علما لا شأن له بموقفنا منه، أكثر تذاكيا من تلك الأعلام التي إذا ما رمقتها بشيء من الرفض أو الكراهية، فإنها ستلعنك وستحرض عليك الجيش والدولة.
لم يكن علما ملعونا، على رغم لعنتنا التي تتمشى تحته كل يوم، وكل ساعة وكل دقيقة، لم يكن هناك من يحتج عليه، بل على العكس، إنه مسالم على نحو مدهش، والكل يشعر بسلميته، كان بحق راية سلام في أمكنة مهيئة دائما للحرب.
وتحته تنتصب مدارس اللاجئين الفلسطينيين، بكل ما تحمله من معاناة وأمل ورغبات مؤجلة؛ أطفال الصف الأول وحتى العاشر، ثيابهم المتفاوتة من حيث الجدة، حقائبهم الملأى بالكتب، وساندويشات الزعتر، وقناني الماء. يمرون من تحته كل يوم، يقفون بالطوابير الصباحية، يستمع بعضهم باهتمام لما تتناقله الإذاعة المدرسية، وآخرون باهتمام أقل، ينظرون في كل جهة هاربين من وجودهم المادي في مدرسة يكرهونها، أو يكرهون فقرها. ترن الأجراس، فيدخلون الصفوف بسرعة وكأن قذيفة ما ستهبط في فناء الساحة، على جوانب الطابور أساتذة من أعمار وتخصصات مختلفة، يحملون عصيا أو دفاتر كبيرة الحجم، ينظمون السير اليومي للاجئ الطفل من الساحة إلى الصف، ومن الصف إلى الساحة، وأخيرا من المدرسة إلى البيت، مرورا بالواجبات المدرسية، والحصص المنهجية، وحصص أخرى تسرق في بعض الأحيان استجابة لمناسبة وطنية، يستغلها أستاذ متحمس، للحديث عن فلسطين وخيانات العرب.
لا يخيفني اندثار اللاجئ الفلسطيني، في وسط هذه الاغتيالات العسكرية المباشرة، أو الكمائن التي تنصبها الإدارة الأميركية، لن يندثر اللاجئ، ذلك ما تيقنّا منه بعد كل مجزرة عربية أو إسرائيلية؛ صبرا وتل الزعتر واليرموك، مخيمات تعرضت لأفظع الجرائم، دون أن يتزعزع اللاجئ الفلسطيني.
ما يخيفني حقا ذكرياتنا الجمعية التي نشأت في مدارس "أونروا"، وظلت رايتها الزرقاء تراقب هذه الأيام إلى أن صارت ذكريات، ليس الخطر الوحيد الذي يواجه الإنسان الفلسطيني هو إلغاء حاضره ولكن الخشية على ماضيه، الذاكرة الجمعية التي ظلت تدفعنا نحن الفلسطينيين من المقابر المنسية إلى راهننا العصي على الإلغاء.
وجدتني أحدق في عيني المذيع، خيل إلي أنني على وشك رؤية وجهي الصغير اللاجئ، في صور تشرح الخبر للمشاهد الذي يحتاج للمرئي للتأكد من صدقية الخبر، أو لتعليله وتفسيره أحيانا، وليس ثمة من صور تعبر على وجه الدقة عن ما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، أكثر من صورة لإحدى مدارس "الأونروا" في مخيم لجوء، أو منطقة تقطنها نسبة عالية من اللاجئين. كانت مدرستي تحتل هذه الصور، لا في نشرة الأخبار التي انتقلت للحديث عن محور آخر، وإنما في وعيي الشخصي الذي أصيب مباشرة بالحبر الأميركي، يقول ماركيز: "هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات". كان هذا تماماً ما يحدث.
القرارات، قرار بخصوص اللاجئين الفلسطينيين، قرار بخصوص القدس، قرار بخصوص المساعدات، أخذت تترتب تدريجاً في شريط أخبار حياتنا، وعلينا نحن الفلسطينيين أن نراها كل يوم، مثلما نرى وجوه بعضنا، وكأن صلب العمل الصحافي في هذه الأيام تذكير الفلسطيني بمآسيه، المرتبة زمانيا من حيث الأقدم.
ومواقفنا كما هي العادة أيضاً، مكررة على نحو رديء، بالصيغ نفسها، اللهم أن التغير الوحيد هو الحدث الذي من أجله يخرج البيان الصحافي، قرارات البيت الأبيض وبيانات مكاتب السياسة العربية ودكاكين الفصائل. وتمر كل هذه اللوثات بين القرار والبيان، ويرفرف العلم الموشح بالعدمية، منذ أن صار اللجوء هويتنا وصفتنا الدائمة، وبطاقة التعريف الوحيدة التي نملكها، وصار علم "أونروا" يحرسها.
ذاك العلم الأزرق الذي يعتلي أبصارنا، المرفوع دون أدنى مبالاة بشيء، لا يستدعي اهتمام من تحته بعكس الأعلام التي تنتصب على سواري الدول. كان علما لا شأن له بموقفنا منه، أكثر تذاكيا من تلك الأعلام التي إذا ما رمقتها بشيء من الرفض أو الكراهية، فإنها ستلعنك وستحرض عليك الجيش والدولة.
لم يكن علما ملعونا، على رغم لعنتنا التي تتمشى تحته كل يوم، وكل ساعة وكل دقيقة، لم يكن هناك من يحتج عليه، بل على العكس، إنه مسالم على نحو مدهش، والكل يشعر بسلميته، كان بحق راية سلام في أمكنة مهيئة دائما للحرب.
وتحته تنتصب مدارس اللاجئين الفلسطينيين، بكل ما تحمله من معاناة وأمل ورغبات مؤجلة؛ أطفال الصف الأول وحتى العاشر، ثيابهم المتفاوتة من حيث الجدة، حقائبهم الملأى بالكتب، وساندويشات الزعتر، وقناني الماء. يمرون من تحته كل يوم، يقفون بالطوابير الصباحية، يستمع بعضهم باهتمام لما تتناقله الإذاعة المدرسية، وآخرون باهتمام أقل، ينظرون في كل جهة هاربين من وجودهم المادي في مدرسة يكرهونها، أو يكرهون فقرها. ترن الأجراس، فيدخلون الصفوف بسرعة وكأن قذيفة ما ستهبط في فناء الساحة، على جوانب الطابور أساتذة من أعمار وتخصصات مختلفة، يحملون عصيا أو دفاتر كبيرة الحجم، ينظمون السير اليومي للاجئ الطفل من الساحة إلى الصف، ومن الصف إلى الساحة، وأخيرا من المدرسة إلى البيت، مرورا بالواجبات المدرسية، والحصص المنهجية، وحصص أخرى تسرق في بعض الأحيان استجابة لمناسبة وطنية، يستغلها أستاذ متحمس، للحديث عن فلسطين وخيانات العرب.
لا يخيفني اندثار اللاجئ الفلسطيني، في وسط هذه الاغتيالات العسكرية المباشرة، أو الكمائن التي تنصبها الإدارة الأميركية، لن يندثر اللاجئ، ذلك ما تيقنّا منه بعد كل مجزرة عربية أو إسرائيلية؛ صبرا وتل الزعتر واليرموك، مخيمات تعرضت لأفظع الجرائم، دون أن يتزعزع اللاجئ الفلسطيني.
ما يخيفني حقا ذكرياتنا الجمعية التي نشأت في مدارس "أونروا"، وظلت رايتها الزرقاء تراقب هذه الأيام إلى أن صارت ذكريات، ليس الخطر الوحيد الذي يواجه الإنسان الفلسطيني هو إلغاء حاضره ولكن الخشية على ماضيه، الذاكرة الجمعية التي ظلت تدفعنا نحن الفلسطينيين من المقابر المنسية إلى راهننا العصي على الإلغاء.