شهد عام 2012 نقاشات قانونية وسياسية حول دور الشريعة في الدستور الذي كان يجري العمل على صياغته، بعد الثورة المصرية، وأُقرّ بعد استفتاء شعبي قبل أن يعطّل انقلاب يونيو/ حزيران العمل به، غير أن الجدل حول طبيعة مصادر التشريع أعاد إلى الأذهان الاختلاف حول الدستور في مصر ما قبل الاستعمار.
برزت في هذا السياق جهود عدد من الباحثين العرب، والغربيين بصورة أكبر، ومنها ما قدّمه أستاذ التاريخ السياسي ليونارد وود في كتابه المنشور عام 2016 بعنوان "إحياء التشريع الإسلامي: استقبال القانون الأوروبي والتحولات في الفكر التشريعي الإسلامي في مصر في الفترة ما بين (1875 - 1952م)" عن "منشورات جامعة أكسفورد"، وصدرت حديثاً نسخته العربية عن "مركز نهوض" بترجمة بدر الدين مصطفى.
تعود أهمية الفترة التي يدرسها الكتاب إلى خصوصية مصر، خلافاً لبلدان عربية أخرى، في تطوّر منظومتها القانونية التي أملتها سياسة التحديث التي قادها محمد علي باشا، تضمّنت إقرار جملة تشريعات أتت وليدة اجتهادات حاولت تلبية رؤية الحكم، ومن أبرزها "لائحة زراعة الفلاحة" عام 1830، والتي اعتبرت أول قانون مصري حديث لتنظيم العقوبات، والسياستنامة الأولى والثانية لتنظيم الجهاز الإداري للدولة عام 1837.
ويستند المؤلّف الذي وضع كتابه كأطروحة دكتوراه من كلية القانون "جامعة هارفارد"، إلى الفترة التي تراجع فيها محمد سعيد باشا عن الاستقلال التشريعي لأسلافه ضمن تفاهمات مع الدولة العثمانية أسفرت عن تطبيق دستورها المستمدّ من الشريعة مع بعض التعديلات التي توائم مصر عام 1855، والذي ظل معمولاً به حتى عام 1875 حين استبدله إسماعيل باشا بقانون وضعي مع إنشاء محاكم أهلية.
يركّز الكتاب على ما يقارب من ثمانية عقود أعقبت قانون إسماعيل، والتي شهدت تاريخاً مضطرباً من التدخلات الاستعمارية في الوعي القانوني الإسلامي خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكيف بدأت الإزاحة السريعة للقوانين المحلية، المصرية والإسلامية، عبر إنفاذ القوانين الأوروبية، مفصّلاً تطوّر التيارات التي دعت آنذاك إلى إحياء الشريعة الإسلامية.
يرى وود أن تلك التيارات سعت إلى تطوير نسخة حديثة من الشريعة الإسلامية يمكن تدوينها وإحلالها محل القوانين الأوروبية المفروضة حديثاً، مشيراً إلى الإنجازات الثرية للعديد من الخبراء القانونيين في مصر الذين عطلوا التقاليد في الفقه الإسلامي وخلقوا مناهج جديدة للشريعة استجابت بشكل واضح لمطالب العالم المعاصر.
لا يُغفل الكتاب دور البعثات الدراسية حيث أتاحت تخرّج أساتذة في القانون من الجامعات الغربية خلال تلك القترة، وكيف تغيّر فهمهم لتاريخ التشريع الإسلامي والقانون المقارن، متتبعاً التفاعلات شديدة التناقض والتأثير المتبادل بين دعاة كلّ من الفكر الأوروبي وذلك الإسلامي، ومحاولات التوفيق بين القانون الغربي الذي فرضته الظروف الاستعمارية بالأساس، والرغبة في التحديث التابعة لها، وبين الشريعة في صورتها التقليدية.
ويستعرض وود أيضاً الجوانب التقنية في الصنعة الفقهية والقانونية من جهة، والسياقات الفكرية والتعليمية والسياسية والثقافية المصاحبة لها من جهة أخرى، في منهج يجمع بين البحث القانوني والفقهي، وعلم اجتماع الفقه والقانون، وتاريخ الأفكار.