لم يكن مُستهجَناً فوز المخرج الفلسطيني، رائد أنضوني، بجائزة الدبّ الفضي في مهرجان برلين السينمائي في دورته السابعة والستين، مُؤخَّراً، عن فيلمه "مطاردة الأشباح" كأفضل فيلم وثائقي. وهو فيلم وثائقي تجريبي، يمكن إدراجه في إطار الـ "ديكودراما" في عدد من مشاهده، لكونه قدّم برؤية سينمائية جديدة ومبتكرة تنويعات على تجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، خاصة في غرف التحقيق، لينجح في إخراج المشاعر الإنسانية للممثلين المفترضين، وجميعهم من الأسرى المحررين.
الشخصية المحورية في الفيلم، والتي تناول حكايتها، وكان أشبه بدليل يُبدي قوّته في بعض المشاهد، وينهار حد البكاء في مشاهد أخرى، بل ينفجر غضباً كغيره في الكواليس التي هي جزء أساسي في العمل، كان "أبو عطا"، مدرب ومصمم الرقصات الشعبية الفلكلورية الشهير، والذي بجرأته قدَّم جانباً لا يعرفه الكثيرون عنه، هو ذلك الجانب الإنساني لأسيرٍ مُحرَّر، قرّر مشاركة غيره من الأسرى المحرّرين التجربة، ومن بينهم ابنته الشابة التي عاشت التجربة حديثاً.
البداية كانت من إعلان عن فيلم حول الأسرى، لتبدأ المقابلات، وتوزيع الأدوار في عدة مهام تصب في اتجاه تصميم الديكور الخاص بمحاكاة غرف التعذيب وأقسام مراكز التحقيق، خاصة مركز تحقيق "المسكوبية" الشهير قرب القدس، حيث غرفة "الشبح"، و"البرّاد"، و"الخزانة"، و"الكرسي"، و"العزل"، وغيرها من الوسائل الصعبة. فأخذ كل منهم يعود بذاكرته، بعضهم لسنوات قريبة، وآخرون لسنوات أكثر بعداً، في حين قام الفنان رمزي مقدسي، بدور المحقق، هو الذي عاش تجربة الأسر تماماً.
وكان من بين اللحظات الفارقة للفيلم، والذي يمزجُ بين المشاهد التمثيليّة وبين التوثيق اليومي للنقاشات، وكواليس العمل كجزء محوري بالفيلم، الزجّ بمخرج العمل في إحدى الزنازين ليستعيد هو الآخر تجربةَ الأسر الصعبة لدى الاحتلال، خاصَّة فترة التحقيق الأكثر صعوبة، في فنتازيا مؤلمة، ومسٍّ مباشر وغير مباشر للجرح، في محاولات عبثية منه، ومن غيره ممن شاركوا في الفيلم، لاصطياد الأشباح التي تعيش دواخلهم، أو حولهم، تطاردهم، ويطاردونها، في رحلة مستمرة كعدّائين في مسابقات التتابع، إذ يسلّم هذا العصى لذاك أو تلك في الفيلم، كما هو في الواقع الفلسطيني، والذي لا يخلو فيه يوم من تسجيل أسماء جديدة على لائحة الأسر والاعتقال، وهو ما انعكس في مشاهد "مطاردة الأشباح" حد بكاء الحاضرين، في العرض الافتتاحي المحدود في قاعة الهلال الأحمر الفلسطيني بمدينة البيرة، الشهر الماضي، أو حتى دموع "أبو عطا" ورفاقه.
وأشار "أبو عطا" إلى أنه، في بداية الأمر، لم يقتنع حين كلّمه رائد أنضوني مخرج العمل بالمشاركة في الفيلم، ولكن "حين بدأنا نتحدث في التفاصيل، أعجبتني الفكرة، وطريقة الطرح وتناولها. هذه تجربة غنية جداً وجديدة بالنسبة لي، فتجاربنا في التحقيق نقطة في بحر تضحيات الأسرى والشهداء. في هذا الفيلم، نروي لأبنائنا ما عايشناه، ونتحدث أيضاً عن فلسطين. كانت تجربة مغايرة حقاً".
وقال المخرج رائد أنضوني: "بالنسبة لي كمخرج سبق لي أن عشت هذه التجربة، فإن لمستم في شخصيتي داخل الفيلم شيئاً من الجنون، فاعذروني على ذلك، لأنني كنت أعيش التجربة مثل بقية من شاركوا في الفيلم، علاوة على كوني مشغولاً بمسؤولية كيف يمكن أن يكون الشكل النهائي لـ"مطاردة الأشباح".. أحياناً كنت أعيش تلك الحالة التي يمكن أن أصفها بالضياع، لكن في نهاية المطاف سعيد بالنتيجة، وبالكيفية التي كان عليها الفيلم".
وكان وزير الثقافة الفلسطيني، د. إيهاب بسيسو، قد قدّم رسالة شكر خاصة لكل من عمل في هذا الفيلم، مستذكراً أنّه في السابع من أيار/مايو عام 2016، في ذكرى ميلاد الشاعر، توفيقق زياد، "قررنا في وزارة الثقافة إقامة معرض فلسطين الدولي العاشر للكتاب.. شاءت المصادفة أن نقوم بجولة في مجمع رام الله الترويحي الذي احتضن المعرض، قبل اختياره مساحة لإقامة المعرض".
وقال بسيسو: "ونحن في ذلك الموقع الذي تمّ تصوير الفيلم فيه، لفت انتباهنا أحد العاملين في المجمع إلى أن ثمّة مستودعاً أسفل الموقع، وطرح علينا إمكانية استثماره كمخزن لكتب الناشرين، هبطنا إلى أسفل بذات الطريقة التي شاهدتموها في الفيلم، كان المستودع مهملا، وأعتقد أنه كان قد تم الانتهاء من تصوير الفيلم قبل عام من ذلك التاريخ، لكن الفكرة كانت ملهمة، إذ قمنا بتحويل هذه المساحة بتكويناتها من غرف وزنازين ومساحات لتعذيب الأسرى في فترة التحقيق، إلى فضاء في معرض فلسطين الدولي العاشر للكتاب، وحمل اسم فضاء الحرية".
وأضاف: "قمنا بتنظيف المكان، وتأهيله، وأعدناه إلى حالته التي ظهر عليها في الفيلم إلى حد كبير، وتحول هذا المكان الذي استخدم كديكور في فيلم مطاردة الأشباح لرائد أنضوني، إلى مكان لمحاكاة معاناة الأسرى، ومساحة لعرض إبداعاتهم وعذاباتهم في آن، والتأكيد على أن قضية الأسرى حاضرة على الدوام كجزء من ثقافتنا الوطنية".