جملة عوامل ثقافية واجتماعية قادت إلى ظهور عدّة مدارس واتجاهات داخل العلم الجديد الذي بدأ التنظير حوله يتراكم في أوروبا والولايات المتحدة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهو ما يعرض له كتاب "الأنثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس"، الذي صدر مؤخّراً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة.
الكتاب الذي نقله إلى العربية الباحثين السعودي أبو أحمد باقادر والمغربية إيمان الوكيلي، يقارب أربع مدارس أنثروبولوجية؛ بريطانية وألمانية وفرنسية وأميركية عبر مجموعة محاضرات ألقاها الأنثروبولوجيون فريدريك بارث، وأندريه غينغريتش، وروبرت باركن، وسيدل سيلفرمان، مقتفياً أثر كلّ مدرسة في المدارس الأخرى، ومقوّماً إمكاناتها المستقبلية.
يضمّ المؤلَّف أربعة أقسام؛ الأول بعنوان "بريطانيا والكومنولث"، ويناقش بروز الأنثروبولوجيا في بريطانيا ما بين عامي 1830 و1898، وبدء ذهاب الأنثرولولوجيون إلى المستعمرات في رحلات استكشافية، والتحول العظيم في البراديغم النظري في التقليد البريطاني في عام 1922 مع نشْر كتاب برونيسلاف مالينوفسكي أرغونوتس "غرب المحيط الهادئ"، ونشْر كتاب رادكليف براون "سكان جزر الأندمان"، اللذين شكّلا سُلّمَي الفرضيات القادرة على البقاء لقيام الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، وصولاً إلى العصر الذهبي بين عامي 1945 – 1975، والإرث المستمر للتقليد البريطاني حتى اليوم.
في القسم الثاني، "البلدان الناطقة بالألمانية: انقطاعات ومدارس وغياب التراث - إعادة تقويم التاريخ السوسيوثقافي للأنثروبولوجيا في ألمانيا"، يقدّم مدخلاً وصورة عامة للمشهد من كتب الرحالة المبكرين إلى الأنوار الألماني، وتأسيس مؤسسات الدراسات الفولكلورية المنفصلة، وظهور النظرية الاشتراكية لماركس وإنغلز في ألمانيا وأخذها الظاهر لموضوعات أنثروبولوجية؛ وظهور أُولى مرحلتَي تأسيس الأنثروبولوجيا الأكاديمية الرسمية التي ارتبطت بصورة أو أخرى باسم أدولف باستيان، ثم مرحلة التدخل الاستعماري، وبروز عناصر إثنوغرافية واقتصادية إبداعية، والأنثروبولوجيا الماركسية، وأنثروبولوجيا النساء، مروراً بالفترة النازية وما شابها من ملابسات في علاقة الأنثربولوجيين والسلطة، وتتبّع التسلسل التاريخي لتجربة الأنثروبولوجية الألمانية من عام 1945 حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
يحمل القسم الثالث عنوان "البلدان الناطقة بالفرنسية"، والذي يبتدئ بالمرحلة التي سبقت إميل دوركايم (1858 – 1917) وكيف أن المدرسة النظرية المهيمنة المحيطة بها ظلت على مقربة من علم الاجتماع الأوروبي حتى وقت متأخر جداً لتصبح بشكل ملحوظ أكثر أنثروبولوجيةً بعد الحرب العالمية الأولى، كما يناقش نظريته حول الحتمية الاجتماعية والتعليم وموقفه من الدين، وتركيز الدوركايميون على التطورية، والعلقاة بين البنوية والماركسية، وصولاً إلى البيئة المؤسسية للأنثروبولوجيا في فرنسا في ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرز أعلامها.
في القسم الرابع، "مدرسة الولايات المتحدة" يسلّط الضوء على كيفية جلب الأنثربولوجيا إلى العالم الجديد، واهتمام الأميركيين بدراسة "المجتمعات المركبة"، ثم بدء نقد مبدأ النشوئية التطورية، والدفاع عن التاريخانية لفهم توزّع الصفات العرقية، وإضفاء الطابع المؤسساتي على الأنثروبولوجيا في أقسام الجامعة العلمية، والمتاحف، وأثر الحرب الباردة التي تسبّبت في ظهور المكارثية في الأكاديميات، وفي الوقت نفسه توجهت الحكومة الأميركية إلى إطلاق مشروعات لتنمية العالم الثالث وجعله آمناً لمصلحة الرأسمالية، وصولاً إلى تسعينيات القرن العشرين التي شكّلت سنوات تحدٍّ للأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة، إذ أُغلقت عدة ساحات في وجه البحث الأنثروبولوجي، إمّا بسبب اضطرابات سياسية، وإمّا بسبب عدم رغبة "المحليين" في أن يكونوا أهدافًا لبحوث الباحثين الأجانب.