"التانغو" الأخير في طهران
تخبرنا الرسائل الشريرة التي أطلقها محمد يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، في تصريحاته السيئة الصيت، أخيراً، وكذا المقالة اللافتة لحسن هاني زادة، رئيس وكالة (مهر) الإيرانية شبه الرسمية، أن إيران شرعت في حملة منظمة للكشف عما تريده من تدخلاتها في الشأن العراقي والعربي. وهي تؤكد، بذلك، ما حاول كثيرون تجاهله من أنها لا تقاتل "تنظيم الدولة" داخل أراضينا لسواد عيوننا، إنما تخوض حربها الخاصة بها، لإحياء مشروعها الإمبراطوري العرقي الذي طالما تحدثت عنه أدبياتها، منذ أزمان سالفة.
يقول يونسي: "لا يمثل العراق مجرد مجال حضاري لنفوذنا، بل هو هويتنا، وثقافتنا، ومركزنا، وعاصمتنا، وهذا أمر يتعلق بالحاضر والماضي أيضاً ... جغرافية إيران والعراق واحدة، ولا تقبل التجزئة، وسندافع عن كل شعوب المنطقة لأننا نعتبرها جزءاً من إيران"!
ويكتب حسن زادة: "العراق بحاجة إلى حلة جديد، بعيدة عن الكوفية والعقال والدشداشة، ويتجه نحو ثقافة جديدة (اقرأ: ثقافة فارسية)، ليس فيها عنصرية، لا بل قريبة من الواقع الديمغرافي والمذهبي في العراق ... وعلى الشعب العراقي أن يتجه نحو الوحدة مع أصدقائه الحقيقيين (الإيرانيين)، وينسلخ من ثوب العروبة المزيفة، لأن كل ويلات العراق سببها وجود العربان".
هنا نصطدم بكم هائل من العجرفة، والاستعلاء، والغرور الأحمق، عرف به كل دعاة المشروع العرقي الفارسي، وهم، في حالتنا اليوم، يستخدمون التوجه الديني والمذهبي غطاءً له، لكي ينجحوا في استمالة السذّج والبسطاء من أبناء العراق. وهذا كله لا يمكنك أن تداريه إلا بمزيد من برود الدم، والسخرية، وإذا ما حاولت استدعاء التاريخ، قريبه وبعيده، فلسوف تكتشف أن صفات العجرفة، والاستعلاء، والغرور الأحمق، متأصلة لدى دعاة هذا المشروع، لكنك ستواجه من يقول لك إن حرب السنين الثماني أورثت شعوراً بالحقد لدى القادة الإيرانيين، خصوصاً بعدما أجبر الخميني على تجرع كأس السم، والقبول بالسلام، وها قد دار الزمان، واخترق الإيرانيون العراق، وهم يسعون إلى الانتقام والثأر، وإلا فما الذي يدفعهم إلى بدء حربهم ضد "تنظيم الدولة" من مدينة تكريت، سوى رغبتهم في النيل من رمزية هذه المدينة التي ارتبط اسمها، على نحو ما، بالحكم السابق؟
ثمّة ردود أفعال على رسائل يونسي الشريرة، لكنها باهتة، أو جبانة، أو هاربة من أن تشكل موقفاً واضحاً. حاولت الخارجية الإيرانية التنصل بالادعاء أن الترجمة كانت غير دقيقة، فيما مترجمون مختصون أفادوا بعكس ذلك، واعترض مسؤولون إيرانيون على توقيت إطلاق تصريحات كهذه، وليس على مضامينها، وردّت الخارجية العراقية بخجل، والمضحك في ردها إشارتها إلى أن "العراق دولة ذات سيادة، ويحكمها أبناؤها"، فيما تعرف هي، ويعرف وزيرها، أن العراق لم يعد كذلك، منذ وطئت أقدام الغزاة أرض بغداد، و"مرجعية النجف" ردت بخجل أكثر، حيث اكتفت بالتلميح، ولم تسمّ الأشياء بأسمائها. لكنّ ما هو أشد إيلاماً، سكوت ما تسمى منظمات المجتمع المدني العراقية، المعنية بالدفاع عن حريات الشعوب، وكذا سكوت سياسيين ومثقفين عراقيين عن شجب هذه التصريحات جبناً، أو تماهياً معها، أو اتفاقاً مع مضامينها!
الحق أن أوضح رد، وأكثرها صفاقة، جاء على لسان القائد المليشياوي العراقي (هل هو عراقي حقا؟) هادي العامري الذي أكد لنا أن إيران باقية في العراق وتتمدد، "رغماً عمن يرضى، ومن لا يرضى"، بحسب تعبير فج استخدمه، ولعله كان الصدى لتصريح أحمد رضا بوردستان، قائد القوات البرية الإيرانية الذي كشف أن بلاده قضمت 40 كيلومتراً مربعاً من أراضي العراق، ورسمت خطاً أحمر عندها.
هنا تواجهنا الحقيقة، وفي زمن المكر الشامل، كما يقول جورج أورويل، يصبح إدراك الحقيقة فعلاً ثورياً: إن طهران تعمل، ومن دون هوادة، على إحياء مشروعها الإمبراطوري العرقي القديم - الجديد، وتسعى إلى وراثة العالم العربي المفكك، والذي أصبح قابلاً للقسمة والتشظي، بمجرد إنضاج صيغة "سايكس بيكو" جديدة، سوف تكون، هذه المرة، برعاية أميركية - إسرائيلية - إيرانية، حيث تعتبر إيران نفسها المؤهلة إقليمياً، دون سواها، للاستئثار بالتركة، خصوصاً وقد "وصلت إلى مضيق باب المندب، وشواطئ البحر الأبيض المتوسط"، كما أنذرنا علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني.
انتظروا، إذن، ماذا سيحدث بعد انقشاع غبار المعارك الماثلة، اليوم، على أرض العراق، ولسوف ترون قاسم سليماني وهادي العامري، وربما نوري المالكي أيضاً، وهم يرقصون رقصة التانغو في طهران، وهي الرقصة التي يسميها صناعها الأرجنتينيون "رقصة المصير اليائس"، لأنها تحكي قصة محاولة إعادة الحياة إلى ماض أفل.
على أية حال، الذين راهنوا ويراهنون على أن إيران تسعى إلى تحرير العراق من قبضة "داعش" لوجه الله سيكتشفون آنذاك، وإن متأخرين، أنها إنما تفعل ذلك لوجه الشيطان، وسيصابون بخيبة الأمل، وربما سيخطر في بال بعضهم أن صدام حسين كان على حق.