"الرسالة" التي لم تصل
في مناسبة عيد الأضحى، تعمد قنوات عربية إلى عرض التحفة الفنية للمخرج العربي الكبير، الراحل مصطفى العقاد، فيلم "الرسالة"، للجمهور الواسع في نسختيه، العربية والإنجليزية.
اختيار في محله، لأنه يغفر للسينما العربية التي جاوز عمرها المائة سنة، إسفافها الكبير وغياب رسائل واضحة لها، حتى جاء "الرسالة" ليضع الملح على الجرح، بطرقه أهم القضايا التي تشكل، اليوم، جوهر الصراع في المنطقة العربية، برمتها، ويتعلق الأمر بالإسلام والآخر، والإسلام والديانات الأخرى، والإسلام والشعوب التي تعيش في كنفه، أو تلك التي تجاوره وتنافسه، ومدى إمكانية إقامة حوار، سمي بعد "11 سبتمبر" "حوار الحضارات"، مع ما عرفته هذه الفترة من الحوار من نيران مكثفة على المشاريع الديمقراطية في العالم العربي، وحركاته الاجتماعية ورصيده البشري الذي فتكت به أنظمة محلية مستبدة، هي اليد الطولى والقفازات المنفدة لمشاريع الاستحواذ الغربية.
طبعاً، من المحزن حقّاً، ألّا تكون الخزانة السينمائية العربية تحتوي على عشرات الأعمال من هذا الكعب العالي. لكن، من حسن الحظ أن "عبقرية الندرة" قد تكون فعالة في تجفيف منابع أعمال سطحية، حاولت أن تقترب من موضوع الإسلام والغرب، في تناول سمج وبليد، وكان أن كرس، في غياب لغةٍ سينمائية، صورةً سلبيةً عن مشروع الإسلام ورسالته، وأدّى بالغرب المناوئ إلى الركوب على منطوق تلك الأعمال، للتخويف من الإسلام والمسلمين، حتى أن عباراتٍ من قبيل "الجهاد" أو "الكفار" و"القتال" أصبحت مطية للتدليل على ما روج أنه دليل على "النزعات الإرهابية"، الصريحة والكامنة في المشروع الإسلامي.
اليوم، يوجد العرب والمسلمون في موقع غير محسودين عليه، ولا يقل صعوبة عن العقبات التي اعترضت قيام الدين المحمدي في مكة والمدينة، غير أن هذا المشروع المحاصر في بدايته، سيجد طريقه إلى قلوب الناس، بعد أن اكتمل كرؤية حضارية، في مواجهة ثقافات أخرى، وقوى محلية وإقليمية في ذلك الوقت.
برع المخرج الراحل، مصطفى العقاد في ذلك، ويا للمصادفة المريعة، حيث سيقضي نحبه في تفجير إرهابي في عمان، برع، خصوصاً، في النسخة الإنجليزية التي أدى البطولة الممثل العالمي، أنطوني كوين، والممثلة اليونانية إيرين باباس، وتحديداً في المشهد الأخير الذي يجري فيه العودة إلى مكة، والدخول إلى الكعبة وتحطيم الأوثان، ليُعلن رسميّاً قيام دين جديد مكتمل الملامح.
فحين تبدلت موازين القوى لمصلحة جيش المسلمين، لم تسفك الدماء، ولم تغتصب النساء. أقبرت شريعة القتل، وحل محلها دين للناس أجمعين، بمختلف مستوياتهم الإيمانية، وعلى غير لون بشرتهم، فالعبرة، هنا، بالمشروع وحامليه.
عملية "استعادة مكة" جرت بحس تفاوضي عال، وبحسابات استثمرت جيداً في عائدات الربح والخسارة، وحين ألجم العقلاء جموح المتحمسين بعدم تسديد ولو رمية نبل واحدة، وعندما دقت طبول السلام، بدلاً من طبول الحرب، في مكان سيصبح مركز الكون بالنسبة للمسلمين، فذلك كان لمحة عبقرية من مخرج من طراز مصطفى العقاد، علمه العيش في أميركا، أن صورةً واحدةً مؤثرةً ومشغولةً بعناية، يمكن أن يكون أثرها أكبر من عشرات الكتب والندوات واللقاءات، التي حاولت، من دون جدوى، ردم فجوة سوء الفهم الثقافي والحضاري الحاصل، اليوم، في عالم تنهشه فوبيا الإسلام، ومع هيمنة نماذج متطرفة، تسهل العمل، وتزكي الشراك المحبوك بعناية.
هذا الشراك، هو الذي يطعم الغرب، الآن، مصالح وإمكانات ومشاريع تفتيت، في ظل شبه تأييد من الطلائع في العالم العربي، والتي لم يعد لها ما تقول، بعد أن هرب الربيع وخلطت الأوراق جيداً بأصابع الساحرة التي تصنع الحرب والسلم و"الديمقراطية" والمطر!
حقاً، "الرسالة" لم تصل.