02 نوفمبر 2024
"السفير"... حقبة ذهبية ومسرح تناقضات
حين يودّع جمهورٌ عريضٌ من مثقفين وسياسيين وإعلاميين صحيفة السفير، فإنهم، في واقع الأمر، يشيعون عصراً ذهبياً للصحافة اللبنانية، وللصحافة العربية الورقية. ومع أن "السفير" صدرت في العام 1974، بعد أن قطعت الصحافة في لبنان (صحفاً يومية ومجلات أسبوعية) شوطاً كبيراً في حضورها، إلا أن هذه الصحيفة جاءت لتضيف جديداً إلى الصحافة اليسارية. وبخبرة رئيس تحريرها ومؤسّسها، طلال سلمان، وبعصاميته وموهبته، والذي عمل في صحف ومجلات شتّى قبل إصدار صحيفته، وبانتسابه إلى تيار قومي/ يساري، من دون أن يكون حزبياً، فقد نجح في إصدار صحيفةٍ يجد فيها القوميون واليساريون والديمقراطيون المستقلون منبراً لهم لتأمّل تجاربهم وفحص التحدّيات. وساعد على ذلك أن "السفير" حرصت على فتح صفحاتها، ليس للأحزاب والتنظيمات والحركات فقط، بل لتياراتٍ داخل الأحزاب والمنظمات، أو تياراتٍ منشقة. وبهذا، تحوّلت الصحيفة إلى ساحة سجالٍ مفتوحٍ حرٍّ ورصين، واضطر يساريون كثيرون إلى التخلي عن الديباجات الروتينية والعبارات المعلبة، في ما يكتبون، لكي يتاح لكتاباتهم المرور في "السفير"، ومساجلة مثقفين متعدّدي المشارب. وبصدور الصحيفة في أجواء ساسية ساخنة في بيروت، وبانحياز صاحبها إلى جهةٍ سياسيةٍ بعينها، هي الحركة الوطنية اللبنانية آنذاك التي كان يقودها كمال جنبلاط، فقد باتت الصحيفة صوتاً لهذه الحركة، ولحليفتها المقاومة الفلسطينية التي كانت تتخذ من الجنوب اللبناني، ومن العاصمة بيروت، مقرّاً رئيساً لها، من دون أن توفّر الصحيفة الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية من النقد.
وبخلاف الصحيفة الأولى آنذاك "النهار" (صدرت أول مرة عام 1933) التي تحمل طابعاً لبنانياً محضاً، ولم تضم في صفوف محرّريها وفنييها من هو غير لبناني (باستثناء الناقد
السينمائي المصري سمير نصري)، فإن "السفير" استوعبت من هو تونسي وأردني وفلسطيني وسوري ومصري في عداد فريقها الرئيسي، فضلاً عن مراسلين وكتّاب عرب، وذلك إعمالاً للشعار الذي رفعته "صوت لبنان في الوطن العربي وصوت الوطن العربي في لبنان". ومنذ السنوات الأولى لصدورها، ومع الظروف الصعبة للحرب اللبنانية الداخلية التي اندلعت بعد عام واحد على صدورها، نجحت الصحيفة في أن تمثل إضافةً عصريةً ومتطورةً لصحافة يسارية. وفي مسارها الأول، امتزج محتواها الثقافي والفكري بمزيجٍ من اليسارية وليبراليةٍ تقدميةٍ ذات منزع نقدي.
وبينما عُرفت الصحيفة بأنها تلقت، لدى إنشائها، دعماً مالياً سخيا من ليبيا معمر القذافي، وحتى في السنوات الأولى لإصدارها، فقد نجحت "السفير" في أن تنأى عن أن تكون بوقاً للسياسة الليبية أو للقذافي، وشيئاً فشيئاً أخذت تنشر مقالات ناقدة لـ "التجربة الليبية".
بمراجعة إجمالية لتجربة هذه الصحيفة المميزة، يتّضح أن عنصر قوتها كان يتمثل في هويتها السياسية الصريحة التي عبّرت عنه، بمزيج من الحماسة الشديدة والرصانة، والمراهنة على التسييس خصوصية لها، وذلك في المرحلة الأولى والأساسية من مراحل التعبير عن هويتها، والتي استمرت حتى بعيْد الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، انهيار صيغة الحركة الوطنية اللبنانية (ائتلاف أحزاب وقوى وشخصيات) وخروج منظمة التحرير من بيروت إلى تونس، غير أن مسار أمور الصحيفة الذي اختتم مع نهاية عام 2016 يثبت أن عنصر قوتها بات هو نفسه عنصر ضعفها. فبعد أقل من عقد على صدورها، انقلبت "السفير"، بحكم تغيّر الظروف على المقاومة ومنظمة التحرير، وباتت صفحاتها، سنوات وبصورة يومية، منبراً لكل أشكال الشتائم والتشهير والتخوين التي يطلقها عشرات السياسيين والحزبيين، وبما يتعدّى بطبيعة الحال النقد المطلوب، والذي يمثل حقاً للصحيفة، إن لم يكن واجباً يقع على عاتقها. والصحيفة التي كانت توصف بأنها لسان الحركة الوطنية باتت لصيقة بحركة أمل وبالنظام في دمشق وبالأجندة السياسية لهما. ثم جاء انتصار الثورة الإسلامية في ايران، ولاحقا ظهور حزب الله، كي تصطف "السفير" معهما و"بقيادتهما". وهو ما فعلته حتى اختتام مسيرتها.
وكي تحافظ على إرثها، عمدت "السفير" إلى صيغةٍ مهنية مزدوجة، فالصفحات الأولى والثانية والثالثة، إضافة إلى الصفحة الأخيرة بما تتضمنه من أخبار وتقارير وصور وحوارات وتعليقات، كانت مخصصة للولاء السياسي لطهران ودمشق وحزب الله. أما صفحات الآراء والدراسات والثقافة والإعلام فقد احتفظت بهامشٍ، ليس واسعاً، من التعددية، لكنه كان يتيح نشر آراء متعارضة، وكما لو أن الصحيفة صحيفتان. وهو ما منحها فرصة إظهار قدرٍ من الانسجام مع بداياتها، وإبداء قسماتٍ يساريةٍ وليبرالية لهويتها في غمرة الولاء الطافح لنظام ولاية الفقيه، وإن ظلّ شعارها مرفوعاً على الصفحة الأخيرة، وهو: صوت لبنان في الوطن العربي وصوت الوطن... إلى آخره، إضافة إلى شعار: صوت الذين لا صوت لهم على الصفحة الأولى. واقع الحال أن الصحيفة تحوّلت إلى: صوت الذين لا صوت إلا لهم. وبخلاف الإيهام بأن الصحيفة ظلت تعدّدية، ولا تحمل ولاءً لطرف واحد، فواقع الحال يدحض ذلك، وكل سياسي وصحافي مهني يدرك أن الصحيفة، كل صحيفة، تُعبّرعنها تقاريرها وأخبارها، وعناوينها الرئيسية والصور التي تختارها، أما المقالات فتعبّر عن كاتبيها.
وعلى الرغم من أن الصحيفة صدرت واستمرت وهي تهزج للإنسان العربي ولحقوقه وحرياته، وتنعى على "النظام العربي" تهافته، فقد انتهت إلى اتخاذ موقفٍ عدائيٍّ من أول موجةٍ تحرّرية شعبية من نوعها، وهي موجة الربيع العربي، ولم تجد الصحيفة في إبادة الشعب السوري واستئصاله، وفي تهديم حواضره ومدنه وبلداته، خلال السنوات الخمس الأخيرة، ما يثير أرق محرّري الأخبار والمتابعات فيها.
مثل كثيرين آخرين، أمضى كاتب هذه السطور شطراً طويلاً من حياته في متابعة هذه الصحيفة الحيوية، ويشعر المرء بخسارة هذا التراث وبفقدانٍ عاطفي له. وفي الوقت ذاته، تتوطّد القناعة أن الصحيفة خسرت استقلاليتها السياسية والمهنية منذ أمد طويل، وأخفقت في وعودها التحرّرية الشاملة، وفقدت حضورها السياسي والفكري شيئاً فشيئاً ثلاثة عقود على الأقل، وتحوّلت إلى منصة دعائية، على الرغم من محاولاتها الإبقاء على الشعلة الأولى مبثوثةً في صفحاتٍ داخلية، ما جعل غياب الصحيفة يبدو، على قسوته، وكأنه خاتمة طبيعية لاستقالةٍ طوعيةٍ سابقة، وتتويجاً لمسارٍ من الانطفاء التدريجي .. المؤسف.
وبخلاف الصحيفة الأولى آنذاك "النهار" (صدرت أول مرة عام 1933) التي تحمل طابعاً لبنانياً محضاً، ولم تضم في صفوف محرّريها وفنييها من هو غير لبناني (باستثناء الناقد
وبينما عُرفت الصحيفة بأنها تلقت، لدى إنشائها، دعماً مالياً سخيا من ليبيا معمر القذافي، وحتى في السنوات الأولى لإصدارها، فقد نجحت "السفير" في أن تنأى عن أن تكون بوقاً للسياسة الليبية أو للقذافي، وشيئاً فشيئاً أخذت تنشر مقالات ناقدة لـ "التجربة الليبية".
بمراجعة إجمالية لتجربة هذه الصحيفة المميزة، يتّضح أن عنصر قوتها كان يتمثل في هويتها السياسية الصريحة التي عبّرت عنه، بمزيج من الحماسة الشديدة والرصانة، والمراهنة على التسييس خصوصية لها، وذلك في المرحلة الأولى والأساسية من مراحل التعبير عن هويتها، والتي استمرت حتى بعيْد الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، انهيار صيغة الحركة الوطنية اللبنانية (ائتلاف أحزاب وقوى وشخصيات) وخروج منظمة التحرير من بيروت إلى تونس، غير أن مسار أمور الصحيفة الذي اختتم مع نهاية عام 2016 يثبت أن عنصر قوتها بات هو نفسه عنصر ضعفها. فبعد أقل من عقد على صدورها، انقلبت "السفير"، بحكم تغيّر الظروف على المقاومة ومنظمة التحرير، وباتت صفحاتها، سنوات وبصورة يومية، منبراً لكل أشكال الشتائم والتشهير والتخوين التي يطلقها عشرات السياسيين والحزبيين، وبما يتعدّى بطبيعة الحال النقد المطلوب، والذي يمثل حقاً للصحيفة، إن لم يكن واجباً يقع على عاتقها. والصحيفة التي كانت توصف بأنها لسان الحركة الوطنية باتت لصيقة بحركة أمل وبالنظام في دمشق وبالأجندة السياسية لهما. ثم جاء انتصار الثورة الإسلامية في ايران، ولاحقا ظهور حزب الله، كي تصطف "السفير" معهما و"بقيادتهما". وهو ما فعلته حتى اختتام مسيرتها.
وكي تحافظ على إرثها، عمدت "السفير" إلى صيغةٍ مهنية مزدوجة، فالصفحات الأولى والثانية والثالثة، إضافة إلى الصفحة الأخيرة بما تتضمنه من أخبار وتقارير وصور وحوارات وتعليقات، كانت مخصصة للولاء السياسي لطهران ودمشق وحزب الله. أما صفحات الآراء والدراسات والثقافة والإعلام فقد احتفظت بهامشٍ، ليس واسعاً، من التعددية، لكنه كان يتيح نشر آراء متعارضة، وكما لو أن الصحيفة صحيفتان. وهو ما منحها فرصة إظهار قدرٍ من الانسجام مع بداياتها، وإبداء قسماتٍ يساريةٍ وليبرالية لهويتها في غمرة الولاء الطافح لنظام ولاية الفقيه، وإن ظلّ شعارها مرفوعاً على الصفحة الأخيرة، وهو: صوت لبنان في الوطن العربي وصوت الوطن... إلى آخره، إضافة إلى شعار: صوت الذين لا صوت لهم على الصفحة الأولى. واقع الحال أن الصحيفة تحوّلت إلى: صوت الذين لا صوت إلا لهم. وبخلاف الإيهام بأن الصحيفة ظلت تعدّدية، ولا تحمل ولاءً لطرف واحد، فواقع الحال يدحض ذلك، وكل سياسي وصحافي مهني يدرك أن الصحيفة، كل صحيفة، تُعبّرعنها تقاريرها وأخبارها، وعناوينها الرئيسية والصور التي تختارها، أما المقالات فتعبّر عن كاتبيها.
وعلى الرغم من أن الصحيفة صدرت واستمرت وهي تهزج للإنسان العربي ولحقوقه وحرياته، وتنعى على "النظام العربي" تهافته، فقد انتهت إلى اتخاذ موقفٍ عدائيٍّ من أول موجةٍ تحرّرية شعبية من نوعها، وهي موجة الربيع العربي، ولم تجد الصحيفة في إبادة الشعب السوري واستئصاله، وفي تهديم حواضره ومدنه وبلداته، خلال السنوات الخمس الأخيرة، ما يثير أرق محرّري الأخبار والمتابعات فيها.
مثل كثيرين آخرين، أمضى كاتب هذه السطور شطراً طويلاً من حياته في متابعة هذه الصحيفة الحيوية، ويشعر المرء بخسارة هذا التراث وبفقدانٍ عاطفي له. وفي الوقت ذاته، تتوطّد القناعة أن الصحيفة خسرت استقلاليتها السياسية والمهنية منذ أمد طويل، وأخفقت في وعودها التحرّرية الشاملة، وفقدت حضورها السياسي والفكري شيئاً فشيئاً ثلاثة عقود على الأقل، وتحوّلت إلى منصة دعائية، على الرغم من محاولاتها الإبقاء على الشعلة الأولى مبثوثةً في صفحاتٍ داخلية، ما جعل غياب الصحيفة يبدو، على قسوته، وكأنه خاتمة طبيعية لاستقالةٍ طوعيةٍ سابقة، وتتويجاً لمسارٍ من الانطفاء التدريجي .. المؤسف.