وكأنهم يستعيدون ممرات المشائين في شوارع أثينا، أو جلسات سقراط مع تلامذته وخلّانه التي أرخت لها كتب أفلاطون، أو الصراع المحموم لنيتشه مع "الجميع ولا أحد" عبر مذكراته، وهو يتجول في الممرات الضيّقة للغابات… يتجمع العشرات من الشباب في شوارع الرباط والبيضاء وطنجة وغيرها من المدن المغربية، في حدائق عمومية وساحات، غير محتمين بشيء سوى حماسهم وأفكارهم، ليناقشوا المواضيع الفلسفية المختلفة، حتى الحساسة منها. جلسات ووقفات مفتوحة على العموم، مواجهين أحياناً عنف الدولة، ومزاحمينها على المجال العام.
وإذ دعا نيتشه إلى إحراق كتب الفلسفة التي لم يُلهمها الجُهد الجسدي ولم يرفقها العرق والعضل والحماسة، معتبراً إنتاج المكاتب المغلقة إنتاجاً وُلد ميتاً واجتراراً مخنوقاً.. فشباب "الفلسفة في الزنقة" لهم من بعض ذلك، خروجاً بالفلسفة والنقاش نحو الشوارع والساحات، وتحدياً للسلطات التي تراقبهم وأحياناً تفرّقهم بالعنف في الشوارع الضيقة.. احتدادٌ بين المجموعتين؛ السلطة التي ترغب منذ تراجع صخب المظاهرات في استعادة ما تسميه "هيبة الدولة" على المجال العام، وشباب "الفلسفة في الزنقة" الذين يطرحون أجرأ الأسئلة الفلسفية، بما في ذلك أسئلة حول ضرورة وجود الدولة وصيغتها المثلى.
مواضيع عن الحب والثورة والسياسة والجمال والغاية من الحياة وتاريخ الفلسفة.. ذلك جزء من لائحة المواضيع التي يناقشها شباب في زهرة أعمارهم، يميّز منهم المراقب الكثير ممن شاركوا في الحراك السياسي الذي عرفه المغرب منذ 2011، ولعل ذلك ملمح من كثير من مميزات الحراك الشبابي، إذ انكبّ جزء من شباب الحلم الربيعي المغربي على النقاشات والفعاليات الثقافية، وكأنهم في سباق محموم مع الزمن، كما هم فيه بنفس القدر مع الدولة، بهدف فتح جبهات متعددة، يحافظون بها على شرعيتهم في "المجال العام"، ويتمرّسون على النقاش وطرح الأسئلة والأفكار، وتقوية التشبيك في ما بينهم، رغم الإمكانات المحدودة التي يتوفرون عليها.
يؤطرها الشباب، وتبقى مفتوحة أمام المارة، ويُسمح لكل حاضر بأن يُحدِث برأيه في الموضوع، بل وأن يشارك في اختيار مواضيع التجمّعات المرتقبة، يحدثنا عن ذلك نبيل بلكبير، أحد مؤسسي المبادرة: "بدأنا العمل سنة 2013، مستفيدين من تجارب الجامعات الشعبية التي انتشرت في فرنسا وكندا والبرازيل، ورغبنا في نقل ذلك النموذج أول الأمر إلى بلدنا. لكننا لم نجد مكاناً ليستضيف نشاطنا الأول الذي كان عن موضوع تاريخ الفلسفة، فاخترنا أن نقوم بذلك في الشارع، ومن هنا ولدت الفكرة".
النشاط الذي لم يكن مقصوداً لذاته أول الأمر، والذي سمّي لموضوعه "الفلسفة" ومكانه "الزنقة"، استكمل منذ أسبوعين في العاصمة الرباط لقاءه الخمسين، بوتيرة أسبوعية. بينما تختلف الوتائر في مدن الدار البيضاء وطنجة وتزنيت وغيرها، يشرف عليها عادة الطلبة والتلاميذ المنتمون إلى الاتحاد الطلابي لتغيير النظام التعليمي. وتبدأ تلك اللقاءات بتأكيد قيم المجموعة التي أهمها أن "لا أحد يملك الحقيقة ووجوب احترام رأي الآخر".
من جهته شكك، خالد العلمي، أستاذ فلسفة بأگادير، في نجاعة مبادرة شبيهة، مثيراً الأسئلة حول وضعية الشارع والمجال العام عندنا، والذي نرغب في أن ننقل إليه النقاش، يقول: "أتفهّم غيرة أصحاب الفكرة على الفلسفة ورفضهم تحويلها إلى مادة دراسية جامدة، وأتفهم إصرارهم على ربطها باليومي وبالشارع، لكن لنتأمّل في هذا اليومي وفي هذا الشارع: هل يجسد المدينة؟ هل يشبه الآگورا؟ أم يتخبّط في بداوة وتخلف يستحق أن يكون موضوعاً للدراسات السوسيولوجية أكثر منه فضاء للتفلسف، أخشى أن يتحول طموح إضفاء روح الفلسفة على الزنقة إلى إضفاء فوضى وعبث الزنقة على الفلسفة".
يشار إلى أن مجموعة من الفعاليات الثقافية انطلقت في المغرب، في السنوات القليلة الأخيرة، مميزها هو رغبتها في الخروج إلى الفضاء العام والمقاهي والساحات، بغاية لا تقتصر على النشاط لذاته والمشاركين فيه فقط، بل تروم دعوة الآخرين للمشاركة، والاهتمام بالفعل الثقافي، سواء أكان مسرحاً أم قراءة وكتابة، أم تفلسفاً.
(المغرب)