ظلّ نبات البن معروفاً في العالم العربي ومناطق القرن الأفريقي إلى أن انتشرت في بقية المعمورة منذ حوالي، حين تعرّفت البشرية جميعها على تلك الشجيرة الاستوائية التي تحمل أوراقاً خضراء لامعة وحبوباً حمراء، لتتصدّر قائمة المحاصيل المزورعة في بلدان عدّة، وتصبح واحدة من أغلاها سعراً.
"بلاد القهوة: إمبراطورية مظلمة لرجل واحد وصنع عقارنا المفضل" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للباحث في تاريخ الطعام بـ"جامعة هارفرد"، أوغسطين سدغويك عن "منشورات بنغوين"، ويتناول فيه أحد أهم المشروبات التي يعتمد عليها 80% من سكّان الكوكب من أجل استيقاظهم كلّ صباح.
يضيء الكتاب على مرحلة تشابك فيها الكافيين مع احتياجات الرأسمالية بطرق لا تعد ولا تحصى مع وصول القهوة والشاي إلى الغرب في القرن السابع عشر، ويتتبع سيرة أحد أشهر أبرز الرأسماليين الذي بنى ثروات هائلة من خلال مزارع البن التي أنشأها في العالم الجديد.
يعود سدغويك إلى الإنكليزي جيمس هيل الذي ولد في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة مانشستر الصناعية عام 1871، وأبحر في الثامنة عشر من عمره إلى أمريكا الوسطى، حيث سعى إلى إعادة تشكيل الريف السلفادوري في صورة مصنع من مانشستر، وأصبح هناك رئيساً لأربع عشرة عائلة سيطرت لاحقاً على عالم السياسة والاقتصاد في السلفادور في معظم القرن العشرين.
في عام 1951، كانت مزارعه توظّف حوالي خمسة آلاف عامل، بحسب الكتاب، وتنتج أكثر من ألفي طن من حبوب البن الجاهزة للتصدير من 2500 فدان من الأراضي الخصبة بالقرب من منحدرات بركان سانتا آنا، توضح في علب حمراء مألوفة من قهوة "هيلز براذرز".
يوضّح المؤلّف أن زراعة البن تتطلب قدراً هائلاً من العمالة من أجل عمليات الزراعة والتقليم والقطف والمعالجة، ما دفع هيل إلى استغلال آلاف العمّال، من خلال جهوده التي أثمرت عن إصدار حكومة السلفادور آنذاك قراراً بخصخصة الأراضي، ما أجبر سكان الريف السلفادوريين، ومعظمهم من السكان الأصليين الذي ينتمون إلى قبائل موزوز، والذين لم يكونوا جائعين من قبل، إلى العمل في مزارعه الجديدة بعد أن كانوا يعيشون من أراضيهم التي تمّت مصادرتها.
"ما الذي يجعل الناس يعملون؟"، السؤال الذي يسعى الكتاب إلى الإجابة عنه من خلال رصده لتاريخ واحدة من أكبر الاحتكاريات الرأسمالية، التي بنت استثمارها الواسع على منح أجر قليل لعمال باتوا يعيشون من محصول واحد تحوّل إلى سلعة تجارية تباع بعشرات أضعاف تكلفتها الحقيقية.
ويصل الكتاب إلى الثورة التي نظّمها العمّال ذوي الميول الشيوعية في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين ضد بارونات القهوة، وواجهتها الحكومة التي يمتلك مزارعو البن تأثيراً واسعاً عليها، حملة شرسة أدّت إلى وقوع مجازر عديدة، كما اندلعت احتجاجات ثانية بعد نصف قرن، وتمّ خلالها اختطاف حفيد جيمس هيل، خايمي هيل، من قبل المتمردين وأطلقوا سراحه مقابل ملايين الدولارات لم تجد العائلة صعوبة في دفعها.