استعر الخلاف بين الاشتراكيين الفرنسيين إثر نشر عمدة مدينة ليل، الوزيرة الاشتراكية السابقة مارتين أوبري، برفقة شخصيات أخرى اشتراكية ويسارية، منهم الزعيم البيئي دانييل كوهين بينيديت، ووزير التعليم السابق بنوا هامون، مقالاً في صحيفة "لوموند" بعنوان "الخروج من النفق"، انتقد بشدة حصيلة ولاية فرانسوا هولاند الرئاسية وحكوماتها المتعاقبة.
استولد المقال ما يشبه الزلزال السياسي في العائلة الاشتراكية الفرنسية، التي تعيش منذ أشهر على إيقاع خلافات حادة في صفوفها، وذلك بسبب نبرة النص القوية وتقييمه السلبي لمختلف الإنجازات التي تتفاخر بها حكومة رئيس الوزراء مانويل فالس. سارع فالس إلى الردّ على أوبري، معتبراً أن "انتقاداتها بمثابة تشكيك عام وشامل لأداء الحكومة"، لكنه اعتبر أيضاً أن "لا اقتراح حمله المقال، وأنا أتصرف كرئيس حكومة ولست كاتب مقالات".
كما هاجم المقال خطة الحكومة الاشتراكية لتخفيف الأعباء الضريبية عن الشركات، ومنح المزيد من الصلاحيات لأرباب العمل للاستغناء عن العمّال وإعفائهم من دفع ثمن الساعات الإضافية، واعتبرها خطة ليبرالية لا تمت بصلة إلى الروح الاشتراكية التي تضع في المقام الأول مصلحة العمال والموظفين.
كما أفسح المقال حيّزاً أيضاً للأداء الحكومي بخصوص قضية اللاجئين والمهاجرين، وانتقد تصريحات فالس المعارضة لسياسة الهجرة الألمانية، معتبراً أن "ما تقوم به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هو الموقف الأقرب إلى الروح اليسارية، لأنه ضد إغلاق الحدود في وجه النساء والأطفال وضحايا الحرب من اللاجئين، الذين تبتلع الحرب العشرات منهم يومياً".
طالب المقال أيضاً بانتهاج تغيير جذري في سياسة الحكومة الاشتراكية، وإلا فإن "الهزيمة في الانتخابات الرئاسية قادمة بلا شك. إن ما تمّ التحضير له ليس فقط فشلاً للولاية الاشتراكية بل إضعافاً طويل الأمد لفرنسا ولليسار بشكل خاص".
اقرأ أيضاً: خيارات محدودة لليسار الفرنسي بعد الهزائم
والواقع أن الاشتراكيين يدركون جيداً الأثر السلبي والمزلزل لمقال أوبري، الذي نشرته بالتزامن مع الإعلان الحكومي عن انخفاض درجة البطالة للمرة الأولى في الولاية الرئاسية الاشتراكية، وهذا ما نسف الإعلان الإيجابي وقلّل من أهميته. كما أن المقال يأتي قبل عام من موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفي غمرة النقاش الساخن حول انتخابات تمهيدية في صفوف اليسار لاختيار المرشح الرئاسي.
وبعد يومين من نشر المقال، بادرت أوبري إلى بعث رسالة مسمومة إلى الرئيس هولاند، خلال تجمّع للمطالبين بانتخابات تمهيدية داخل العائلة اليسارية، وأعلنت ترشيحها لهذه الانتخابات، علماً بأن النقاش لم يُحسم بعد في شأنها، تحديداً في صفوف الحزب الاشتراكي. هكذا وجد هولاند نفسه مطالباً، ليس فقط بإقناع الحزب الاشتراكي باختياره مرشحاً لولاية ثانية، بل إقناع اليسار برمّته. هذا اليسار الذي لن يفرش له الورود في طريق الترشح، وسيصوّت ضده حتماً لاعتبارات باتت معروفة.
أما هولاند الذي كان موجوداً في جولة في أميركا الجنوبية قادته إلى البيرو والأرجنتين، فقد تفادى التطرّق إلى الموضوع، وقال مقرّبون منه إن "الرئيس لا يرد على مقالات صحافية وهو موجود في الخارج". واعتبر هؤلاء أن "المقال لا يؤثر عليه من بعيد ولا من قريب. وأن أوبري هي التي تجد نفسها في موقع مثير للشفقة لكونها لم تقبل بعد بهزيمتها في الانتخابات التمهيدية عام 2001".
وفي لعبة الكراسي المتحركة هذه التي يستثمر فيها كل واحد أخطاء خصمه، لا يبدو هولاند متأثراً كثيراً بانتقادات أوبري التي استهدفت في المحل الأول حصيلة أداء حكومة مانويل فالس. وبالفعل، ففي نظر عدد من المراقبين تبقى أوبري رغم صواب انتقاداتها للحصيلة الاشتراكية، مطبوعة بهزيمتها في تلك الانتخابات التمهيدية التي نجح فيها هولاند وأفضت إلى ترشحه لانتخابات 2012 ونجاحه في الوصول إلى سدة الإليزيه.
وفي كل الأحوال، ثمة أيام عصيبة تنتظر الاشتراكيين بسبب تناحرهم المتواصل، فيما تبدو الخلافات داخل حزب "الجمهوريون" أقل عنفاً وأيضاً، وهنا الخطر الأكبر، فيما يشتغل اليمين المتطرف بصمت بقيادة مارين لوبان زعيمة حزب "الجبهة الوطنية"، على وضع استراتيجية جديدة لاستمالة أكبر عدد من الناخبين الناقمين على أداء الحكومة الاشتراكية، وإحداث اختراق غير مسبوق في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
اقرأ أيضاً: يمين فرنسا ويسارها يرتبان الداخل بعد انتخابات الأقاليم