على الرغم من الصور التي تتناقلها شبكات التواصل الاجتماعي لجثامين تتقاذفها الأمواج، تضع سترات نجاة برتقالية، وعلى الرغم من صراخ الأمهات ونحيبهن، فإنّ كثيراً من الشباب في الجزائر، يفكر في الهجرة من البلاد وإن غرق في البحر الأبيض المتوسط، أو جرب الهجرة وفشل وكاد يخسر حياته.
يقول بعض هؤلاء، في حي باب الوادي بقلب الجزائر العاصمة، إنهم سئموا من حياة التسكع على الطرقات. يؤكد إسماعيل (29 عاماً) أنه سيحاول الهجرة السرية مجدداً. سبقت له المحاولة مرتين كما يقول لـ"العربي الجديد": "يئست من إمكانية العثور على عمل منذ تخرجي في جامعة الجزائر، في ماجستير العلوم الاقتصادية. طرقت كثيراً من الأبواب، وتقدمت بطلبات عمل منذ خمس سنوات، لكنّ حلمي بقي ضائعاً". يريد إسماعيل مغادرة الجزائر بأيّ طريقة، والسفر إلى إيطاليا: "الحياة هناك أفضل، إذ فيها إمكانية للعمل في الحقول والمطاعم بانتظار تحسن وضعي المعيشي، بينما هنا تقتلك الحسرة". يتحدث عن مغامرته الأولى قبل عامين، عندما اتفق رفقة عدد من الشبان مع شبكة تهريب لتأمين هجرتهم عبر قوارب صغيرة. كلفة الشخص الواحد كانت تعادل 500 يورو، وكثيرون اضطروا للعمل في أشغال شاقة في ورش البناء من أجل تحصيل هذا المبلغ: "فالمهم كان الهروب، للوصول إلى جزيرة سردينيا الإيطالية".
من جهته، يروي عبد الرؤوف (25 عاماً) قصة صديقه آدم، الذي قذف به البحر في شاطئ "الرايس حميدو" بمنطقة باب الوادي. يتحسر عليه ويقول إنه هو شخصياً كان ينوي أن يغادر الجزائر في القارب نفسه، لكنّ القدر شاء أن تتوفى جدته، فبقي ليحضر جنازتها، ونجا من الموت على عكس صديقه وآخرين، وكانوا قد جمعوا الأموال وغادروا لكنّ بعضهم عاد جثثاً هامدة، وابتلع البحر جثثاً أخرى وقذفها إلى أماكن لا يمكن للأهل الوصول إليها.
بحسب معلومات شباب كثر، فإنّ الشبكات تتفق معهم لنقلهم بقوارب صغيرة تقليدية، تحمل ما بين 15 شخصاً و20، وتتقاضى مبلغاً لا يقل عن 400 يورو عن كلّ شخص، مقابل إيصالهم إلى إيطاليا أو إسبانيا. لكنّ البعض يحمل في المركب أكثر من 25 راكباً وربما يصل الأمر إلى 30، ما يؤدي إلى غرقه في أحيان كثيرة وموت المهاجرين. وعقب عمليات التحري التي أجرتها السلطات الأمنية الجزائرية، كشفت التحقيقات شبكات عديدة لتهريب الشباب الباحثين عن بصيص أمل. وتقول وردة (32 عاماً) التي تفكر بالهجرة السرّية، لـ"العربي الجديد": "لا أمل لدي سوى الحرقة (الهجرة السرية)، إذ إنّ خلاصي من ظلم الحكومة التي لم توفر العمل لي فيها، في خوض مغامرة البحث عن أفق جديد مسدود في الجزائر".
تذكر بيانات متتالية لحرس السواحل الجزائري، أنّ أعمار المهاجرين تتراوح ما بين 16 عاماً و43. وفي الفترة الأخيرة، توجد نساء وأطفال من بينهم. ومع توالي مغامرات الهجرة السرّية، يبرز كثير من القصص المأسوية لعائلات فقدت أبناءها في رحلات من هذا النوع، آخرهم كانوا المفقودين من مدينة عنابة (شرق) ومن محلة الرايس حميدو في العاصمة الجزائرية.
في اليوم الذي كانت فيه القنوات التلفزيونية المحلية تبث صوراً لعائلات في العاصمة الجزائرية تبكي فقدان أبنائها المهاجرين في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كانت السلطات الجزائرية تعلن إحباط محاولة هجرة سرية لـ164 شخصاً على متن قوارب تقليدية. وقبل أيام، كشف تقرير للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، أنّ السلطات الجزائرية أحبطت محاولة هجرة سرية لأكثر من 2200 مهاجر سرّي منذ بداية العام الجاري وحتى 15 نوفمبر الماضي. ولا يشمل الرقم المهاجرين الذين نجحوا في الوصول إلى السواحل الإيطالية والإسبانية، أو الموقوفين في مراكز الإيواء في إسبانيا وإيطاليا خصوصاً.
ترى الباحثة في علم الاجتماع فضيلة حاج الطاهر، أنّ الهجرة السرية باتت تشكل معضلة في الجزائر، وخصوصاً عندما نشاهد قوافل لشباب يخوضون مغامرات غير محمودة العواقب، ويعودون جثثاً أو يبقون في عداد المفقودين. تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الوضع يستدعي الاهتمام من طرف السلطات العليا، بهدف تقديم حلول ناجعة لمشاكل الشباب ممن يتجهون نحو المجهول". تؤكد أنّ "مشكلة الهجرة السرية التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة تحتاج إلى مراجعة شاملة لكلّ السياسات الخاصة بالتنمية، وتفعيل دور الشباب بتطبيق مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص". وتتابع حاج الطاهر أنه "لا فارق بين المهاجر السرّي والمنتحر، فكلاهما يتجه نحو مصير مجهول"، مشددة على "ضرورة تأسيس لجنة وزارية لدراسة هذه الحالة ومعالجة أسبابها، وتجنيد كلّ المؤسسات الاجتماعية والمهنية من أجل الاعتناء بفئة الشباب، وذلك من خلال خلق قطاعات استثمارية تستقطبهم، خصوصاً ذوي الشهادات العليا من بينهم".