استناداً إلى كتب التّاريخ الإسبانيّة والمناهج المدرسيّة، إنَّ قوات الخلافة الأمويّة، في العام 711، عبرت مضيقَ جبل طارق وبدأت غزواً عسكريّاً لشبه الجزيرة الإيبيريّة كان نتيجة الحملة العسكريّة التي انطلقت من شبه الجزيرة العربيّة مع بداية القرن السّابع عشر بهدف نشر الدّين الإسلامي. وتتابع هذه الكتب إنَّ القوات المسلمة غزت شبه الجزيرة الإيبيريّة (إسبانيا والبرتغال) كجزءٍ من حرب مقدّسة سعت فيها إلى نشر الدّين الإسلامي وفرضه على سكان المنطقة الذين كانوا يعتنقون الدّين المسيحي. سرعان ما هزمت القواتُ الأمويّةُ المملكةَ القوطيّة وبسطت سيطرتها على جزء كبير من إسبانيا، مقلصةً وجود الممالك المسيحيّة إلى شريط يمتد شمالاً على مساحة ضيقة في الجبال الأسترية.
كلّ من درس وقرأ التاريخ في إسبانيا، لا بدَّ أنّه يعرف هذه القصّة. لكن الحقيقة هي أنَّ المصادر التاريخيّة ليست واضحة. فالنّصوص الإسلاميّة التي تتناول الغزو "إسبانيّاً"، والفتح "عربياً"، تأخرت مدة قرن ونصف، والمصدر اللاتيني الوحيد، مجهول المؤلف، والذي يحمل عنوان "تأريخ عام 754"، يروي حادثة دخول المسلمين، ولكنه لا يتعاطى مع الأمر ببعدٍ دينيٍّ، كما أنّه، وبشكلٍ يتّفق عليه الجميع، لا يتحدّث عن غزوٍ باسم الدّين ونشر الديانة الإسلاميّة. دفع هذا الأمر المؤرخين إلى التشكيك في الرواية المهيمنة والتأكيد أنَّ ما حدث في شبه الجزيرة العربية لم يكن غزواً ناتجاً عن حربٍ مقدسة، بل كان سلسلة من موجات الهجرة التي ولّدت عملية تعريب للمنطقة.
واحدٌ من أشدّ المدافعين عن هذا التيار التاريخي هو إيميليو غونزاليس فيرين، أستاذ الفكر العربي والإسلامي في جامعة إشبيلية، والذي يؤكد سواء في كتابه "قصة الأندلس" (2006 Almuzara) أو في كتابه الأخير الصادر عن دار النشر نفسها "عندما كنّاً عرباً" (2018)، أنَّ حوض البحر المتوسط كان في لبَّ عملية من الاستشراق بدأت بجذورٍ يهودية مسيحية، أولاً، واستمرت، فيما بعد، بطابعٍ إسلاميٍّ واضح. ضمن هذا السياق، يبدو نوعاً من السخف، إذاً، تحديد العام 711 كتاريخ رئيسي للحديث عن غزو عسكري ذي أبعادٍ دينية، لقد كانت عملية تعريب بطيئة انتشرت في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط بسبب سلسلة من حركات الهجرة المستمرة.
لم يكن غزو حربٍ مقدسة، بل سلسلة هجرات عرّبت المنطقة
الكتاب، يمكن اعتباره، كما قال فرانز كافكا مرةً عن الكتب المزلزلة، إنّه "فأسٌ تحطِّم البحار المتجمدة الموجودة في داخلنا"، وبالفعل هذا ما أراده فيرين، أن يفتح جدلاً ونقاشاً وأن يمدَّ جسّراً يصل به الإسبان، وأقول العرب أيضاً، مع الماضي الأندلسي. وقد بدا واضحاً من مقدمة الكتاب نزعة الكاتب ورغبته في تغيير نظرة الإسبان نحو الإسلام، مميزاً فيه بين الثقافة، الدين والمجتمعات الحديثة. ضمن هذا السياق يمكن فهم الكتاب على أنَّه دراسة في علم التاريخ والإسلام، علاوة على كونه طلباً أو اقتراحاً شخصيّاً من قبل الكتاب: قراءة التاريخ الإسباني دون إقصاءات.
مفاهيم تاريخيَّة إشكاليَّة مثل "الفتح الإسلامي" – وهو التعبير المستخدم عربيّاً للإشارة إلى الفتح الإسلامي للأندلس- وما يقابله إسبانيَّاً من "الغزو الإسلامي" و"حروب الاسترداد"، يتوقف عندها صاحب "أهوال إبراهيم- الأصول الثقافية للإسلام" (2013)، عائداً في ذلك إلى التأريخ المهمش، وإلى أقرانه من المستعربين من أمثال أميريكو كاسترو وإيميليو غارسيا غوميز وغيرهم من الذين يدافعون عمَّا حدث حقاً على مجموع الأراضي التي تسمَّى اليوم إسبانيا عبر التاريخ، وليس عن تاريخ ما صارت عليه إسبانيا إبَّان تكوينها في العصر الحديث.
هكذا سنكتشف مع غونزاليس فيرين أنَّ الأمير الأموي، وليس الملك القوطي، على سبيل المثال، هو أوَّل من وضع تعبير "ملك هسبانيا"، إضافة إلى دحض فكرة الغزو المفترض، وإبراز حقيقة تاريخيّة مفادها أنَّ المسلمين لم يغزوا الأندلس بهدف بناء خلافة إسلاميّة "فمن يريد أن يفهم تاريخ منطقة البحر المتوسط يجب عليه أن يعرف أنَّ الفتوحات الإسلامية آنذاك لم تكن شيئاً غريباً أو "خارجياً" عن تلك المنطقة، كما أنها لم تفرض نفسها بعنف وقوة، بل كانت ضمن بنية التركيبة الداخلية للمنطقة، وبالتالي إنَّ الأندلس ليست ثمرة غزوٍ دينيٍّ أو حرب مقدسة، بل هي نتيجة عملية بطيئة من التّغيُّرات والتطوارت العامة الشائعة آنذاك في محيط البحر المتوسط بأكمله، تعززت في شبه الجزيرة الإيبيرية بسبب انهيار المملكة القوطية" يؤكد فيرين بحيادية باحث قضى نصف عمره في دراسة الإسلام.
يجب أن تبقى الأندلس مزيجاً من عناصر مختلفة مؤتلفة
يقف فيرين مطولاً عند هذه النقطة ويتساءل عن سبب اختيار إسبانيا لرواية معينة، أي رواية الغزو الإسلامي، وتالياً حروب الاسترداد والهوية القومية الكاثوليكية الأحادية التي يرى الكاتب أنَّها تعود لأبعاد وأسباب سياسية "إذ إن الكيان الإسباني قام على أساس "حروب الاسترداد"، ومن دون "غزو"، لا توجد "حروب استرداد" ذات قيمة، غير أن "حروبنا الاستردادية" ليست إلا مفهوماً مجرّداً، فهي ليست حدثاً تاريخياً يمكن إثباته، بل إنها فكرة- قوة تأسيسية لإسبانيا التفردية". من هنا كانت هذه النهاية لقصة الأندلس، فالمهم في الأمر ليس الإخلاص إلى الأحداث التاريخية، بل الرغبة في بناء سردٍ تاريخيٍّ يدعم رؤية معيّنة لتاريخ البلاد، ويبرّر، كما هو واضحٌ، مواقف أيديولوجيّة معينة في الوقت الحاضر.
غير أنّ أكثريّة الإسبان، كما يوضّح فيرين نفسه، لا يتفقون مع ذلك الجزء من الماضي، أي الأندلس، لأنه يعني، بالنسبة لهم، وجود كيان إسلامي هائل لا يفهم الفروقات ولا الأوقات، وبما أنه لا يجذبهم اليوم، فهم لا يريدون التعامل معه كجزء من تاريخ إسبانيا. وهذا ما يبرر الرغبة في بناء قصة مصمَّمة على قياس مصالح جيوسياسية محدّدة تقوم على أساس نظرة سلبيّة للعرب والإسلام، تم شحذها بشكل مدروس لا سيّما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وهذا ما دفع أكثرية الجمهور إلى دفن وطمس ما يوجد من الثقافة العربية الإسلامية في التاريخ الإسباني.
الغريب، أو ربما ليس كثيراً، هو توافق رؤية الأصوليين الإسلاميين مع كتب التاريخ الإسبانية التي تتحدث عن فكرة "الغزو الإسلامي". فالسردية الأصوليّة الإسلاميّة، والتي تمثل الأندلس بالنسبة لها ذروة الخلافة الإسلاميّة، لا تتردد في إصدار الدعوات - ولا سيّما أعضاء أكثر الجماعات والتيارات تطرّفاً - لاستعادة الأندلس والخلافة الإسلاميّة عبر الغزو العسكري.
من هنا كان لا بدَّ من الدفاع عن الأندلس كرمز حضاري وكنواة تاريخية تجسّد حركيَّة الخروج من الذات نحو لقاء شخص آخر أو شيء آخر. وفي هذا الخروج لا تضيع الذات في هذا الغريب بل تتغيّر وتتجدد. بهذا المعنى يجب أن تبقى الأندلس، تماماً كالكلمة التي ابتكرتها: الموشّح. أي مزيجاً من عناصر مختلفة مؤتلفة، عديدة واحدة، إنسانياً، ثقافياً، حضارياً وتاريخياً.
مما لا شك فيه أنَّ كتاب "عندما كنا عرباً" لمؤلفه إيميلو غونزاليس فيرين، مفيدٌ، لأنّه يساهم في نشر مصلحة اجتماعيّة وتاريخيّة في إسبانيا: أولاً استعادة محور كامل من التاريخ الإسباني، وثانياً التعامل مع الإسلام على محمل الجد وفهمه في إطاره الصحيح، وبالتالي تحريره من المناقشات التي يشارك فيه كل من هبّ ودب دون أن يكون له علم بالموضوع.
* كاتب ومترجم مقيم في إسبانيا