يستكمل المخرج البلغاري ستَفان كومانداريف (1966)، في "دَوريّات" (2019)، الجزء الثاني من ثلاثيته، التي تركها من دون عنوان موحّد يجمعها، في تعمّدٍ لإضفاء مزيدٍ من التشتّت واللاوحدة على أسلوب سرد سينمائي، أراده منحازاً إلى التعدّد والتراكم. وبدلاً من مركزية تقليدية، يقترح أخرى تتشكّل نواتها من شتات حكايات، أبطالها يخسرون غالباً مركزيّتهم على الشاشة. ملامح هذا التشظّي ظاهرة في الجزء الأول، "اتّجاهات" (2017)، المُشارك في "نظرة ما"، في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي. في الجزء الثاني، تأكّدت الظاهرة أكثر.
شوارع صوفيا ليلاً. السيارات مساحات درامية أُريد لها أنْ تكون مسرحاً وشاهداً على عيش سكّان مدينة ومجتمع ممزّقين. عبر قصص قصيرة وسريعة، ينقل "اتّجاهات" قلقاً وجودياً غدا المصدر المحرّك لانفعالات أبطالها، وتلك الأمكنة ـ التي يُجيد كومانداريف التحرّك فيها بحيوية، بصُحبة مصوّر بارع، فاسَلين هريستوف (سيُوكل إليه تصوير الجزء الثاني أيضاً) ـ تشهد تحوّلات عميقة ومربكة للمجتمع البلغاري.
سائقو سيارات الأجرة في "اتّجاهات" وركّابها يُجسّدون عيّنات من سكان مدينة شاحبة، يغيب الفرح عنها، فيكتئب أهلُها الذين يُبطّن بعضهم كرهاً عميقاً لبعض. شوارعها خيط رفيع يربط قصص السائق، هي نفسها في "دَوريّات" ـ الفائز بجائزة "فيبريسي" لأفضل فيلم، في الدورة الـ25 (16 ـ 23 أغسطس/ آب 2019) لمهرجان سراييفو، مع خضوعها، في سيناريو سيمون فَنسيسلافوف وستَفان كومانداريف لعمليات تشريح أدقّ، إذْ يُضيفان أبعاداً سياسية أعمق إليها.
السيناريو، المذهلة كتابته رغم سعة مساحة عرضه الدرامي، يحاول لَمّ بعض فتات حيوات معلّقة في فراغ، أو واقفة عند حافة انهيار أخلاقي مريع، بعيون رجال شرطة. هؤلاء يُنظر إلى وجودهم من خلال كاميرات تعرف كيف تدخل إلى جوانيّاتهم، فيغدو المشهد بسببها أوسع من مجرّد رصد أحداث ليلة واحدة من حياة عاصمة، تستعدّ للاحتفال بالذكرى الـ30 لسقوط جدار برلين (9 نوفمبر/ 1989)، وبداية تغيير النظام السياسي في البلد.
عشية الذكرى (2019)، تتحرّك في صوفيا 3 دوريّات للشرطة. كلّ شرطيّين في سيارة، تربط أحدهما بالآخر، كما تشي الأحداث والحوارات الثنائية، صلة ما. وجودهما معاً غير عفوي، إذ جرى ترتيبه وفقاً لانسجام مصالح وعلاقات خاصة، تشير إلى تواطؤ إداريّ يفضي لاحقاً إلى كشف فساد هيكلي لجهاز خطر، يُفسِد بدوره أجزاءً من جسد بلغاريا المنخور بالأمراض.
في صوفيا ليلاً، 6 رجال (إيريني جامبوناس وستِفان دنوليوبوف وإيفان بارنيف وأسين بلاتشكي وستويان دويشيف وفاسيل فاسيليف) يتلقون الأوامر عبر أجهزة اللاسلكي، لرصد كلّ تحرك قد يُفسد الاحتفال.
المساحة الواسعة، التي يمنحها سيناريو متعدّد الحكايات، يعطي مخرجه إمكانية قيامه بمسح شامل لمجتمعه. براعته في الكشف عن دمامل تغطّي الجسد البلغاري، وجرأته في نكئِها وعرض ما فيها من قيح وخرّاج، تمنح الفعل السينمائي قوّة نقدية ومكاشفة علنية لأوضاع متنافرة يشهدها البلد منذ 3 عقود. الحوار جزء حيوي لعرض التباس الحاصل فيه. التجوال لساعات في الشوارع يوفّر متّسعاً للسجال بين رجال الشرطة، وعبره تتشكّل ملامح واقع قاس، السخرية منه أحد الأنساق الأسلوبية المخفّفة لسوداوية طاغية على الجزء الأول، بينما الثاني يرتجي التخفيف منها، من دون الإيهام برغبة في التخلّص منها بالكامل.
الكوميديا الخفيفة للنص الصارم متأتية من وجود جثة شاب مدمن، مرمية قرب خطوط سكة حديدية. كلّ دورية تريد التخلّص من مسؤولية الإعلان عنها، ومتابعة الإجراءات القانونية الطويلة التي تتبعها. جميعهم تقريباً يفكّرون في حلّ واحد: نقلها إلى الطرف الثاني من السكّة، كي لا يُسجّل وجودها في نطاق عمل الدورية. انشغالاتهم الشخصية أهمّ من الاهتمام بجثة مدمن مخدرات. التفرّغ لهمومهم يتيح عرضاً أوسع لقطاع شهد شكلياً تغييراً في وظيفته التاريخية. فمن كونه أداة قمع وحماية للنظام الاشتراكي السابق، تحوّل "شكلياً" إلى وسيلة لحماية المجتمع في النظام الرأسمالي الجديد. هذا ما يسخر منه "دَوريّات"، ويعارض قبوله كواقع عبر إعادة التذكير بدور الشرطة القديم الذي لم يتغيّر جوهره. يضفي السيناريو على بعض رموزه جانباً إنسانياً، لكنه لا يخلو من عنف. السلوك العام السائد يتمثّل بتورّط أعداد منهم بعمليات تهريب مهاجرين بطرق غير شرعية. حكايات كثيرة تتنوّع وتتباين مضامينها، بعضها يشي بنقاء سريرة، وأخرى بفساد وخراب أخلاقي مريع.
هذه رؤية كومانداريف في الجزء الثاني من ثلاثيته، لمفصل خطر من مجتمعه، تاركاً بقيته للجزء الأخير: هل سينقلها إلى الشاشة بأسلوبه المبهر نفسه، وباعتنائه بجماليات العمل السينمائي الجاد، التي اشتغلها في الجزأين؟ سؤال لا يتضمّن شكاً بقدر ما يعكس رغبة في تحقيق ثلاثية نادرة، تصوير ثاني أجزائها (دوريّات) مذهل في ديناميكيته.
الكاميرات المحمولة لم يتوقف لهاثها على مدار زمن تصويره، والأخرى المثبتة على واجهات السيارات وجوانبها ساعدت على نقل تفاصيل حركتها في الشوارع، وعكسها بوضوح انفعالات الموجودين فيها. هناك كاميرات كثيرة منصوبة في زوايا مختلفة وفي مستويات علوّ متباينة، للقطات بانورامية لشوارع صوفيا عشية الاحتفال بذكرى انقلاب سياسي تاريخي كبير، بسبب قوّته أصيب سكانها بصدمة، ربما بدأوا يستفيقون منها الآن، كما استفاق الشاب المدمن في المشهد الأخير من غيبوبته، ولم يعد جثة هامدة.