في الرابع عشر من آب/أغسطس 2013، استيقظت مصر على واحد من أشد أيامها دموية في العصر الحديث؛ قوات الانقلاب تفض بالقوة اعتصام أنصار الشرعية في ميدان رابعة العدوية في القاهرة، ومعه اعتصام آخر في ميدان النهضة بالجيزة، وتقتل عدة آلاف، بحسب بعض التقديرات، وتحيل الميدانين إلى كومتي نار.
صار ميدان رابعة من حينها رمزاً لصمود الثوار العزّل أمام آلة عسكرية لا ترحم. غير أني في ذكرى المجزرة الثالثة أودّ أن أسلط الضوء على زاوية مغايرة أرصد منها عدة أخطاء منهجية ترتب بعضها على بعض ووقعت فيها قيادة الاعتصام، وهو أمر لطالما أوتي الثوار من قِبله؛ خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها الرئيس المعزول محمد مرسي.
أول هذه الأخطاء اعتقاد أن الآلية التي أسقطت المخلوع حسني مبارك في ثمانية عشر يوماً هي ذاتها الآلية التي ستسقط الانقلاب العسكري، مع أن الفارق بين الحالتين كبير. فلم يكن اعتصام الثوار في ميدان التحرير عام 2011 هو الفاعل الأوحد في سقوط مبارك بعد هذه المدة القصيرة، لقد كان الاعتصام هو المحرك أو المتغير الذي دفع الجيش إلى التخلي عن مبارك لأسباب تضيق مساحة هذا المقال عن دراستها.
من الصعب أن نتصوّر أن مبارك الذي ظل مستقراً في حكمه قرابة ثلاثين عامًا مدعومًا بالجيش والدولة العميقة ومرحبًا به إقليميًا ودوليًا يمكن، أن يسقطه اعتصام سلمي في أيام معدودات، دون أن يكون لهؤلاء الداعمين دور في الإطاحة به.
لا يعني هذا التقليل من دور الثوار واعتصام التحرير، ولكنه كان الخطوة التي أجبرت داعمي مبارك على التخلي عنه، وكان بإمكانهم، إذا لم تكتمل أسباب هذا الإجبار، أن يستمروا في دعمه حتى آخر رمق كما يحدث مع بشار الأسد في سورية. ولكنهم لأسباب تحتاج إلى دراسة قرروا استيعاب الحدث والتخلي عنه.
أما في حالة الانقلاب العسكري على مرسي، فليس من المعقول أن يفلح اعتصام مماثل أو حتى أكبر منه في إجبار الجيش مرة ثانية على التخلي عن خطوة قام هو ذاته بها بعد مباركة قوى إقليمية ودولية حسبت للأمر حسابه قبل أن تقدم عليه.
وترتب على هذا خطأ ثانٍ هو اعتقاد أن مدة الاعتصام المطلوب ستكون قصيرة كسابقتها، واستمرت قيادة الاعتصام تبشر الثوار بقرب النصر وعودة مرسي الوشيكة. استبعاد احتمال طول المدة تسبب في غياب أسئلة مهمة عن الأذهان منها: إلى أي مدى يستطيع الثوار البقاء في الاعتصام؟ وماذا لو طال عمر الانقلاب شهوراً وسنوات؟ وهل يستطيع المعتصمون الابتعاد عن حياتهم الطبيعية والبقاء في الميدان فترة لا نعلم مداها؟
الاعتقاد بأن الاعتصام سيُسقط الانقلاب وأن مدته ستكون قصيرة وغياب طرح مثل هذه الأسئلة أدى إلى الخطأ الثالث؛ وهو اعتبار الاعتصام ثابتًا وليس متغيرًا، هدفًا وليس وسيلة يمكن أن تتغير. أو بتعبير آخر: لقد تشبثت قيادة الحراك الثوري بآلية الاعتصام ورأتها الصورة الوحيدة المعبرة عن استمرار الثورة ورأت في غيابها نجاحاً للانقلاب وإنهاءً للحالة الثورية. ومن ثم ينبغي عدم التفكير الآن في أي آلية بديلة وينبغي الدفاع عن هذا الاعتصام بكل غالٍ ونفيس؛ لأن الاعتصام صار أيقونة الثورة والإجراء المعبر عن بقائها والهدف الذي تبذل من أجله الدماء رخيصة.
حتى هذه الدماء، ساد اعتقاد بأنها لن تكون غزيرة، وهذا هو الخطأ الرابع. لقد استبعدت قيادة الإخوان احتمال أن تقدم قوات الانقلاب على فض الاعتصام بالقوة؛ بحجة أن كلفة الفض أخلاقيًا وشعبيًا ودوليًا ستكون فوق طاقة احتمال الانقلابيين. على الرغم من أن مؤسسات سلطة الانقلاب تهدد وتتوعد وتناور بمجازر في الحرس الجمهوري والمنصة، وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الموالية لها تمهد للمجزرة طريقها شعبيا، وعلى الرغم من أن تجارب العالم مع إنسانية المجتمع الدولي غير مطمئنة.
الوقوع في هذه الأخطاء الأربعة حرم قيادة الإخوان، وهذا هو الخطأ الخامس، من اتخاذ القرار السليم في تلك الحالة؛ وهو لا يخرج في تقديري عن أحد خيارين: إما الجاهزية لمنع اقتحام الاعتصام وفضه بالقوة، وهو خيار لا يتناسب مع استراتيجية الإخوان السلمية ويصعب تنفيذه في الوقت ذاته بسبب عدم التكافؤ في موازين القوى. وإما تفويت الفرصة على الانقلابيين والتحول من آلية الاعتصام إلى أي آلية أخرى تحقق استمرار الحالة الثورية وبكلفة أقل.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يقع فيها الإخوان في ذات الأخطاء المنهجية؛ بإمكاننا أن نقول كلاماً قريباً مما سبق بشأن ترشحهم للرئاسة وبشأن حدوث الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي.
في كل مرة تُساء التقديرات وتُستبعد احتمالات وتغيب البوصلة ويُفقد القرار السليم وتتبخر المبادرة وتُرفع لافتة: ليس بالإمكان أبدع مما كان وما باليد حيلة. ومع غياب التخطيط المنهجي ذي المدى البعيد، يلجأ الإخوان إلى المواجهة دون جاهزية بصمود يُقدّر لهم، ولكن الصمود وحده لا يكفي.
* معتقل على ذمة قضية سياسية. عمل مدرساً ومدققاً لغوياً ومعلقاً صوتياً، مدون وناشط سياسي مصري، وباحث متخصص في الأدب العربي الحديث.