كانت فصول المجزرة لا تزال دائرةً في رابعة العدوية وميدان نهضة مصر في القاهرة، في الوقت الذي كان فيه الناشط اليساري "المعروف" يتحدّث على "تويتر" عن "اشتباكات متكافئة"، والحقوقية "الشهيرة" تروي لمتابعيها على "فيسبوك" عن استمتاعها بـ"اللعب مع الدولفين"، والأذرع الإعلامية في جلسة مع قيادات عسكرية وأمنية لشرح المطلوب منهم في سبيل الترويج للرواية الأمنية حول المذبحة، بينما كان وجود قيادات الاعتصام في وادٍ آخر قد ساهم في زيادة هول المقتلة.
في الأيام الأخيرة لحكم الرئيس المعزول محمد مرسي، ظهر الحقوقي، ناصر أمين، في صورة نشرها على حسابه في "فيسبوك"، معتلياً أحد أسوار القصر الرئاسي خلال مشاركته في التظاهرات ضد مرسي، والتي عُرفت إعلامياً باسم "أحداث الاتحادية". لاحقاً قال أمين إنه لم يكن معتلياً سور القصر، وإنما أحد الحواجز الأمنية المجاورة للسور.
وعقب فض اعتصام رابعة العدوية، كان أمين رئيساً للجنة الشكاوى في المجلس الحكومي لحقوق الإنسان، وتم اختياره رئيساً لما سمّي وقتها بـ"لجنة تقصّي الحقائق" لتحديد المسؤوليات في سقوط عدد كبير من القتلى في فض الاعتصام، رغم أنه كان مؤيداً للفض، ومعادياً، على العلن، للاعتصام والمعتصمين.
في الخامس من مارس/آذار 2014، أعلن ناصر أمين التقرير النهائي للجنة تقصي الحقائق، والذي جاء فيه أن فضّ الاعتصام كان محتّماً لأسباب عديدة؛ منها أن المعتصمين كانوا يحملون السلاح، وأنهم يستخدمون الأطفال في الصراعات السياسية، وأنهم قاموا بعمليات احتجاز قسري واعتقال غير قانوني، محمّلاً المعتصمين كل الأخطاء، دون أي إشارة إلى أنهم اعتصموا رفضاً لانقلاب عسكري على السلطة والثورة.
وقال أمين، في سياق عرضه التقرير، إن قوات الشرطة ارتكبت ثلاثة أخطاء؛ هي: "المسارعة بالهجوم، إذ لم تنتظر الشّرطة سوى 15 دقيقة على بدء الضرب، وفشلها في تأمين الممر الآمن المعدّ لخروج المعتصمين السلميين، وعدم مراعاتها الفروقَ التناسبية بينها وبين المعتصمين من حيث التسليح وكثافة إطلاق النيران".
في حينها، تعرّض التقريرُ، ومن أعدوه، لاتّهامات واسعة تتعلّق بمحاباة الجهاز الأمني والانحياز للرواية الحكومية، ولعلّ أكثر ما أثار سخط المعترضين؛ هو أنّه انتهى إلى اقتراح سبع توصيات فحسب، كلّها غير ملزمة، ومن بينها: "ضرورة إخضاع أفراد الشرطة للتدريب والتأهيل، وحثّ الحكومة على الإسراع بتطبيق كلّ الاتفاقيات الدولية المناهضة للتعذيب، وكافة أشكال المعاملة اللإنسانية والمهينة، ودعوة الحكومة إلى ضرورة تعويض الضحايا غير المتورطين في العنف الذين سقطوا في الاشتباكات المسلحة، ومناشدة الحكومة التدخل الفوري لوقف حملات التحريض على العنف التي تروج لها بعض وسائل الإعلام المحلية".
وبعد نحو عام ونصف العام من صدور التقرير زارت لجنة من المجلس الحكومي لحقوق الإنسان عدداً من السجون سيئة السمعة في مصر، والتي تتداول منظمات محلية ودولية وقائع تعذيب وقتل وتنكيل فيها، وخرجت بتقرير يؤكد أنها أقرب إلى "فنادق الخمس نجوم".
ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يعلن أمين، في 14 يوليو/تموز الماضي، أنّه قد تم منعه من السفر أثناء توجهه إلى بيروت للمشاركة في أعمال مؤتمر قانوني. آنذاك، قالت سلطات مطار القاهرة، في بيان، إن قرار المنع جاء تنفيذاً لقرار من النائب العام لاتّهام أمين في قضية "التمويل الأجنبي للمنظمات"، وهي القضيّة ذاتها التي منعت السلطات بسببها زوجته، هدى عبد الوهاب، من السفر إلى موسكو في العشرين من يونيو/حزيران الماضي.
أحمد دومة
يوم 14 أغسطس/آب 2013، تمّ الدفع بالناشط، أحمد دومة، إلى شاشة التلفزيون كمقدم برامج. كان واضحاً أنه يتم تجهيزه منذ فترة ليلحق برفاق سبقوه، أمثال خالد تليمة، وإسراء عبد الفتاح، وهي خطة استخدمتها الثورة المضادة مبكّراً لاحتواء النشطاء، ونجحت مع كثيرين.
لكن الليلة الأولى لدومة كمقدم برامج لم تكن عادية، حيث ابتُدئ يوم عمله الأول بمجزرة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث، تمثلت في فض اعتصامي رابعة والنهضة المعارضَين للانقلاب العسكري.
وفرّغ أحمد دومة، خلال حلقته الأولى، كل طاقة الغضب تجاه الإخوان المسلمين، وكل طاقة الكراهية تجاه الرافضين لانقلاب الثالث من يوليو/تموز من نفس العام، وكرر كل المحفوظات الرائجة عما يسمونه "ثورة الثلاثين من يونيو".
لكن في الثالث من ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، ألقت الشرطة المصرية القبض على أحمد دومة من منزله في القاهرة، واقتادته إلى أحد مقار الشرطة، تنفيذاً لقرار النيابة العامة بضبطه وإحضاره، ليظل محتجزاً حتى الرابع من فبراير/شباط 2015. حينذاك عاقبته محكمة جنايات القاهرة، المنعقدة في معهد أمناء الشرطة بطرّه، بالسجن المؤبد والغرامة 17 مليون جنيه، في القضية المعروفة إعلامياً بـ"أحداث مجلس الوزراء"، والتي وقعت مجرياتها إبّان تولي المجلس العسكري حكم البلاد، عقب تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك.
واتُهم دومة، ومعه آخرون في القضية ذاتها، بـ"التجمهر وحيازة أسلحة بيضاء ومولوتوف والتعدي على أفراد من الجيش والشرطة، وحرقِ المجمّع العلمي، والاعتداء على مبانٍ حكومية، منها مقر مجلس الوزراء ومجلسي الشعب والشورى، والشروع في اقتحام مقر وزارة الداخلية تمهيدًا لإحراقه".
جمال عيد
في حلقة "مقدّم البرامج"، أحمد دومة، كان الحقوقي، جمال عيد، حاضراً، أيضاً، في مداخلة تليفونية، وكرر النغمة الرائجة إعلامياً في تلك الفترة (وكأنّه إحدى أذرع النظام الإعلامية)، قائلاً إن "قيادات جماعة الإخوان هي المسؤول الأول عمّا جرى؛ لأنهم يرمون الشباب إلى مصرعهم من أجل كرسي السلطة"، دون أيّ إشارة منه إلى جرائم قوات الأمن، كما قال إن "مرسي خان كل وعوده، وتواطأ على العدالة، وكرم عنان وطنطاوي اللذان من المفترض أن يحاكما مثله، وأصبح رئيس الأهل والعشيرة، وعيّن نفسه أكتر من إله، وكلها مبررات كافية لسقوطه"، متجاهلاً حقيقة أنّ طنطاوي كان لا يزال مكرّماً في عهد السيسي.
غير أنّ كلّ هذا الكلام لم يكن كافياً لينجو عيد من مصير أحمد دومة؛ ففي 2016، وبعد سلسلة طويلة من التضييقات على عمل المنظمات الحقوقية في مصر، عادت قضية "التمويل الأجنبي للمنظمات"، والتي أثيرت منتصف 2011، إلى الواجهة، وبدأت القضيّة تخضع لتحقيق جدّي كان الحقوقي جمال عيد أحد ضحاياه؛ حتّى صدر قرارٌ بمنعه من السفر في الرابع من فبراير/شباط الماضي، تبعه، في وقت لاحق، قرارٌ آخر بالتحفظ على أمواله، بما فيها أموال زوجته وابنته الصغيرة، وهو لا يزال، إلى اليوم، في انتظار صدور الأحكام في القضية.
مالك عدلي
ظلّ المحامي، مالك عدلي، طيلة فترة حكم الرئيس المعزول، محمد مرسي، يحرّض على إسقاطه بشتى الطرق. كان عدلي يظن أنه يستكمل المسار الثوري "الذي اختطفته جماعة الإخوان"، وهي روايةٌ تتطابق مع الرواية الرائجة على لسان المجلس العسكري الذي حكم بعد تنحي مبارك، وباتت تتكرر على لسان الكثير من معارضي مرسي.
وعند فض رابعة؛ لم يكن مالك معارضاً للفض، ولم يكن يرى أن الاعتصام قانوني، بل كان يعتقد، كما سوّق الإعلام في حينها، بأنّ المعتصمين مخدوعون، أو "مخطوفون ذهنياً"، لكن أحد أبناء عمومته سقط ضحية فض الاعتصام.
وتخيل بعضهم أن يوجّه الناشط غضبه تجاه قوات الشرطة التي قتلت المعتصمين، ومن بينهم ابن عمومته، لا سيّما أنّ لدى النشطاء تجارب عدة عن طرق تعامل الشرطة مع معارضيها على مدار نحو ثلاث سنوات تلت ثورة يناير (التي قامت ضد الشرطة بالأساس)، لكنّه مضى في "الطريق الأسهل"، واختار أن يرمي سهام غضبه باتّجاه الضحية.
يوم 27 أغسطس/آب، وبعد نحو أسبوعين على المجزرة، كان مالك ضيفاً على قناة "إم بي سي مصر"، وقال، أثناء اللقاء، إن "جميع قادة جماعة الإخوان المسلمين متورطون في الدماء التي سالت في الفترة الأخيرة، وقد ثبت أن لديها مليشيات مسلّحة، وأنّه قد تمّ بالفعل إطلاق النار من بعض مقراتها على بعض المواطنين"، وأضاف "جماعة الإخوان المسلمين ليست دولة داخل الدولة، ولا دولة تواجه الدولة، وإنما هي جماعة ارتكبت جريمة داخل الدولة المصرية، ومن حق الدولة التعامل معها كيفما شاءت".
وفي الحلقة نفسها استغرب عدلي، كيف أن النظام المصري لم يُصدر، حتى ساعته، قراراً باعتبار جماعة الإخوان المسلمين "تنظيماً إرهابياً"، وقال إن النظام استعاد القدرة على ضبط الأمن في الشارع، وإن التزام المواطنين بقرار حظر التجول هو مؤشر على موافقتهم على السياسات القائمة.
لم يدم هذا الوضع كثيراً، فلاحقاً، بدأت تراشقات كثيرة بين عدلي وعدد من أفراد النظام، بينهم قيادات في الشرطة، وفي السادس من مايو/أيار الماضي، اعتقلت قوات الأمن المصرية الناشط والحقوقي الشاب تنفيذاً لقرار النيابة العامة بضبطه للتحقيق معه، وذلك على خلفية التحريض على التظاهر فيما سمي بـ"جمعة الأرض"، و"نشر شائعات حول مصريّة جزيرتي تيران وصنافير" اللتين أصبحتا سعوديتين بموجب اتفاقية تعيين الحدود بين البلدين.
يمكن اعتبار الأشخاص السابقين نماذج واضحة على ما طاول مؤيدي المذبحة من قمع وتنكيل، لكنهم لم يكونوا النماذج الوحيدة، فثمّة نماذج كثيرة مشابهة؛ وكلّها موثّقة بالنصّ والصّورة، منها، على سبيل المثال، تحريضُ الناشط، علاء عبد الفتاح، المحبوس حاليّاً، على فض اعتصام "النهضة"، وتحريض باسم يوسف على فضّ الاعتصام في مقاله "جماعة شرارة"، وصولاً إلى رقصه على دماء الضحايا في برنامجه خلال أغنية تقول، في أحد مقاطعها، إن "السيسي فشخ الإخوان"، وتحريض علاء الأسواني على فض الاعتصام في تغريداته وتدويناته ومقالاته، وخاصة مقال "اجتماع عاجل في الجبلاية"، كما أنّ بقاء الدكتور محمد البرادعي في منصبه كنائب للرئيس المؤقت في ظل المجزرة هو أمرٌ لا يمكنه إنكاره، وتولّي الدكتور عصام حجي منصب المستشار العلمي للرئيس المؤقت، رغم كل المجازر، هو، أيضاً، أمرٌ لا يمكن تجاهله.
وبوسعنا أن تتحدث بنفس القدر من الغضب، أو اللوم، عن مواقف محمد أبو الغار، وجورج إسحاق، وممدوح حمزة، وغيرهم، وما جرى لهم جميعاً من تشويه واتهامات بالعمالة والتخوين معروف للجميع. ربّما يكون كلّ ذلك مقدمة لعقوبات أوسع، ولعلّها تكون عقوبة السكوت على إراقة الدم المصري.