في وسط المدينة، يفترش المعتصمون منذ ما يقارب الثلاثة أشهر الأرض، داخل خيم صغيرة ورثة، نصبت في ساحة الصمود التي بات ينظر إليها كإحدى الساحات النضالية، على غرار ميدان التحرير في مصر وشارع بورقيبة في تونس.
فالمدينة الصغيرة، المنسية في أقصى الصحراء والمهشمة سياسياً واجتماعياً، تحولت إلى منطقة حج سياسي. ومنذ ثلاثة أشهر باتت تصنع الحدث السياسي في البلاد، وغطت أخبارها، على جميع التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد. وبعد أن كانت السلطات تعتقد أن ما يجري فيها ليس سوى مجرد احتجاج سلمي، وتجمع صغير لعدد من الناشطين في مجال البيئة والمجتمع المدني، ممن يرفضون استخراج الغاز الصخري، صمد الاعتصام لأسبوع تلو الآخر، حتى بات يقترب من إنهاء شهره الثالث.
اقرأ أيضاً: الجزائر: جهود احتواء احتجاجات الجنوب لا تثمر
ولم تستطع السلطة، مع كل الحيل والتكتيكات التي استخدمتها، سواء من خلال الحوار أو ارسال وفد برلماني، ثم وزير الطاقة يوسف يوسفي، ثم المدير العام للأمن الوطني، وحتى تدخل رئيس الحكومة عبد المالك سلال، ولاحقاً الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في ثني المحتجين الذين تمسكوا بخيار واحد، وهو أن تعلن السلطات إلغاء استغلال الغاز الصخري في المنطقة، التي تعدّ أكبر خزان مائي في الجزائر.
كما لجأت السلطة إلى تجريب تكتيك القوة والعنف، الذي استعملته الشرطة مع المحتجين الأسبوع الماضي، وهو ما أدى الى مخاوف من انزلاق الأوضاع، في المدنية والمنطقة برمتها، إلى دائرة العنف. الأمر الذي استدعى تدخل قيادات محلية من الجيش لتهدئة الوضع.
قبلة السياسيين
وبات الساسة وقادة المعارضة ونواب البرلمان، لا يتوقفون عن التوافد إليها، سواء في وفود رسمية أو في مهمات استطلاع للمواقف والآراء الشعبية، أو جس نبض الشارع في المدينة. وإليها أيضاً تشد الرحال القنوات التلفزيونية المحلية والدولية، العاملة في الجزائر، مع الإشارة إلى محاولات من بعض وسائل الإعلام الموالية للسلطة، إطلاق إشاعات وتقارير، تحاول ان تلصق تهمة اليد الأجنبية بالناشطين، وتزعم أن المعارضة السياسية في الجزائر تحاول أن تستغل الاعتصام، لصالح تركيز مزيد الضغط على السلطة.
لكن المحتجين في مدينة عين صالح والناشطين المعدين للاعتصام السلمي، يحرصون على استبعاد كل المظاهر السياسية والحزبية، ومنع القيادات السياسية التي تزور المدينة وتلتقي بالمعتصمين، من أي محاولة لاستغلال الاعتصام أو الحركة المطلبية، لصالح مواقف وأحزاب وقوى سياسية أو مدنية.
ويرى الناشط طارق زقزاق، أن "ساحة الاعتصام مفتوحة للقيادات السياسية كأفراد، وليس بصفتهم الحزبية". ويضيف: "نحن لا نقبل أي استغلال من أي جهة كانت لموقفنا واعتصامنا ومطالبنا، لكننا في المقابل، لا نمنع أي طرف يريد أن يعبر عن موقفه المؤيد لنا. هذا من صلب جهدنا لتشكيل وعي مجتمعي وسياسي واجماع وطني، ضد استغلال الغاز الصخري".
ومثلما حاولت السلطة تنويع أساليب التعاطي مع المستجدات في عين صالح، لإقناع المحتجين - بالترغيب أو بالترهيب - بوقف الاعتصام، مقابل هدنة أربع سنوات، على اعتبار أن بوتفليقة تعهد بعدم استغلال الغاز الصخري إلا بعد أن تنتهي كل الدراسات التقنية والفنية، التي تمتد إلى عام 2022، غير أن المحتجين نجحوا في تنويع مظاهر النضال السلمي، من اجل تحقيق مطلبهم الوحيد، وهو وقف استكشاف او استغلال الغاز الصخري. واتسمت الفعاليات، فضلاً عن إخراج المسيرات إلى وسط المدينة، بتنظيم محكم في مداخل الاعتصام. لكن نجاح المحتجين الأكبر كان نقلهم الاحتجاج ضد الغاز الصخري، إلى خارج المنطقة، وتحويل مطلب رفض استغلال الغاز الصخري إلى مطلب شعبي وطني، انخرطت فيه كل المناطق والمحافظات في البلاد.
تحولات غير مسبوقة
وبات الأمر يطرح تساؤلات، حول عمق التحول الاجتماعي والمدني الذي حدث في مدينة عين صالح، وفي مدن الجنوب الجزائري عموماً. وهي مناطق كانت في "عقيدة" السلطة مركزاً للهدوء والسكينة، وقابلة للموافقة على أي قرار أو توجه سياسي تعتمده السلطة. وفي استثناء الملف الأمني المتصل بمكافحة الإرهاب، في منطقة الجنوب على أطراف وتخوم الحدود مع دول الساحل، لم تكن نقطة الجنوب بالنسبة للسلطة، سوى خزان نفط وغاز، يدر على الخزينة العمومية المليارات سنوياً من مداخيل وعائدات بيع النفط والغاز، من دون أن تكون لهذه الأموال أي انعكاس على أرض الواقع، ولا سيما في مدن الجنوب، التي لا تشهد بنيتها التحتية أي تطور نوعي ملموس.
يعزو مراقبون تحول هذه المناطق إلى مركز للنشاط المدني، فضلاً عن اثبات مستوى رفيع من الوعي السياسي والمدني، إلى عاملين. يتعلق الأول بالطفرة الإعلامية التي شهدتها الجزائر في الفترة الأخيرة، على صعيد الانفتاح على القنوات التلفزيونية المستقلة، والتي أتاحت كسر الحصار عن المطالبات والفعاليات الشعبية التي كانت تحاصرها قنوات السلطة. يضاف إلى ذلك مواقع التواصل الاجتماعي التي صنعت لسكان مناطق الجنوب، جسور تواصل لنقل مطالباتهم وفعالياتهم السياسية والثقافية والشعبية، ولا سيما أنّ هذه المناطق كانت تعاني من حصار وتهميش إعلامي كبير. اذ لم تكن تصلها الصحف إلا بعد يومين من صدورها، وبحسب خطوط النقل الجوي التي كانت تتكفل بنقل الصحف.
أما العامل الثاني، وفقاً للمراقبين، فيرتبط بارتفاع عدد الطلبة الجامعيين من مناطق الجنوب، وهو ما ساهم في ارتفاع نسبي لمستوى الوعي المدني والمجتمعي، في مدن وبلدات الجنوب.
وتبقى تطورات الأوضاع في عين صالح مفتوحة على كل الاحتمالات، خلال الفترة المقبلة، بعد أن فاجأت السلطة من حيث لا تحتسب، وباتت تتصدر الأحداث في الجزائر.
اقرأ أيضاً: تخوّف غربي من احتجاجات الجزائر