23 نوفمبر 2019
"سيداو" لشيطنة الفترة الانتقالية في السودان
حفلت الخريطة الفكر ــ سياسية العربية، منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، بتناقضاتٍ جمّة. وبنظرةٍ سريعةٍ للتاريخ الفكري والسياسي للمنطقة العربية، خصوصا المتعلق بالجماعات الدينية المسيَّسة؛ كالمذهب الوهابي السلفي الذي تأسست عليه المملكة العربية السعودية، والفكر الإخواني الذي ظل يسعى إلى تسلُّم السلطة في العالمين العربي والإسلامي، منذ العقد الثالث من القرن العشرين، يجد المرء تناقضات فادحة كثيرة. ويمكن الإشارة، هنا، على سبيل المثال، إلى نكبة الإخوان المسلمين على يد الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر، وهجرة عدد من كوادرهم القيادية إلى السعودية، وتبنّي الأخيرة لهم وتمويل نشاطاتهم عقودا طويلة. قبل سنوات قليلة، قلبت لهم السعودية ظهر المجن، حين أعلن وزير الداخلية السعودي، الراحل، نايف بن عبد العزيز، فيما يشبه الندم، أنهم أخطأوا في رعايتهم الإخوان المسلمين. منذ تلك اللحظة، بدأت حملة شيطنتهم، حتى وصلت إلى حدّ تصنيفهم جماعةً إرهابية.
أيضًا، فعلت السعودية الشيء نفسه مع الشيخ أسامة بن لادن. استخدمت الإدارة الأميركية، ومن خلفها، وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، العربية السعودية لإيجاد من سُمّوا "المجاهدين الأفغان"، بغرض مواجهة احتلال الاتحاد السوفييتي السابق أفغانستان، غير أن تنظيم القاعدة الذي قويت شوكته بتمويل سعودي وتسليح وتدريب أميركيين، سرعان ما انقلب على السعودية، وعلى أميركا، وأخذ يضرب في عمق أراضيهما. انقلب الأميركيون والسعوديون على التنظيم الذي صنعوه بأيديهم، ولا تزال الحرب ضده، وضد الجماعات المسلحة التي خرجت من عباءته، قائمةً.
في خطوةٍ جديدةٍ، صرَّح ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، معلنًا أنهم استخدموا المذهب
الوهابي، بناءً على توجيهاتٍ غربية، ليلعب دور الترياق ضد التمدّد الشيوعي في المنطقة. الأمر الذي يعني أن المذهب الوهابي قد استنفد غرضه، ولا ضرورة لأن تلتزم السعودية بتعاليمه، من الآن فصاعدا. ولكنَّ المذهب الوهابي تمدّد في أقطارٍ عديدةٍ، وقد كانت فروعه في دول إسلامية عديدة مدعومةً بالمال السعودي، والخليجي، خصوصا قي منطقة القرن الأفريقي، ومن بين أقطار هذه المنطقة التي ينشط فيها السلفيون، السودان. ففي وقتٍ بدأت العربية السعودية تتجه إلى تحرير النساء من قبضة السلفية الوهابية، تهاجم الجماعات السلفية التي صنعتها السعودية في السودان حقوق المرأة. والسودان بلدٌ، كانت فيه المرأة حرَّةً إلى حد كبير، إلى أن جاء الإسلاميون إلى الحكم بانقلاب عسكري في عام 1989. بل إن ثورة ديسمبر أخيرا التي اقتلعت نظام الإسلاميين نسوية، وشبابية، بالدرجة الأولى. الشاهد أن الفضاء العربي محشوٌّ بالتناقضات، وبالمناهج الذرائعية. لم يصدر عن سلفيي السودان، وجماعات الإسلام السياسي السودانية، أي نقد لما قامت به السعودية من توجه انفتاحي. هذا في حين شرعوا الآن في شيطنة الفترة الانتقالية في السودان بسبب مباراة في كرة القدم النسائية، وبسبب تجدد الجدل حول اتفاقية "سيداو" (القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة)، والتي اعتمدتها الأمم المتحدة في العام 1979. تستخدم هذه الهجمة المرتدّة على الثورة السودانية الخطاب الديني السلفي التكفيري، بغرض إرباك الفترة الانتقالية، وصرف الأنظار عن الجهود الجارية في الإعداد للتحول الديمقراطي القادم.
يعيد الإسلاميون والسلفيون الأسلوب القديم نفسه الذي استخدموه في عام 1965، بعد عامٍ واحدٍ من ثورة أكتوبر 1964، حين قادوا حملة حل الحزب الشيوعي السوداني، وطرد نوابه من البرلمان. وقد تضافرت في تلك المؤامرة في حقبة الديمقراطية الثانية (1964 – 1969)، جهود كل من حسن الترابي، والصادق المهدي، وإسماعيل الأزهري، وبقية القوى الطائفية. كما استُخدم الخطاب التكفيري نفسه، أيضًا، في 1968، وانتهى بالحكم بالردة على المفكر محمود محمد طه. وهو الحكم نفسه الذي جرى استنادا عليه، إعدام طه، في أخريات حكم الرئيس الأسبق، جعفر نميري، في 1985.
في هذا المنعطف الجديد، بدأت حملة شيطنة وزراء الفترة الانتقالية بخطبةٍ للشيخ عبد الحي يوسف، إمام مسجد حي جبرة، جنوبي الخرطوم، هاجم فيها وزيرة الشباب والرياضة، ولاء البوشي، لتدشينها مباراةً لكرة القدم النسوية. ووصف إمام المسجد الوزيرة بالانتماء إلى الحزب الجمهوري الذي تقوده حاليًا، ابنة محمود محمد طه. وقد نفت الوزيرة انتماءها لأي حزب. ولكن الحملة استمرت في ربط الوزيرة بالحزب الجمهوري، بغرض شيطنتها، وشيطنة الفترة الانتقالية برمتها، ووصم كل ما يجري من مراجعاتٍ لتركة النظام السابق المثقلة، بالعلمانية، وباستهداف الدين الإسلامي. هذا في حين أن تكوين فرقٍ لكرة القدم النسائية لم يكن قرارًا اتخذته هذه الوزيرة، ولا علاقة له، البتة، بالفترة الانتقالية، فقد جرى الشروع في تكوين فرق لكرة القدم النسائية، في فترة حكم الرئيس المعزول، عمر البشير، تمشيًا مع توجهات الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). وقد صمت هؤلاء الأئمة حينها، ولم يبدوا أيَّ معارضةٍ للقرار. ولسوء حظ من قادوا الحملة المغرضة، أن السعودية أعلنت، في الوقت نفسه الذي قامت فيه الوزيرة السودانية البوشي بركلة البداية للمباراة النسائية في الخرطوم، عن الشروع في دوري لكرة القدم النسوية، مكون من ست فرق. ولم يعلق هذا الإمام الذي قاد الحملة، ولا غيره ممن ركبوا معه الموجة على ما جرى في السعودية، ولا بكلمة واحدة. واستمروا في تدبيج الخطب النارية من بعض منابر المساجد، وشغل وسائط التواصل الاجتماعي، بالهجوم على الحزب الجمهوري، وعلى وزارة الفترة الانتقالية.
هذا الإمام الذي قاد هذه الحملة الجائرة، المغرضة، على الوزيرة، وعلى الفترة الانتقالية،
واصطف من خلفه رهط المتضرّرين من زوال نظام البشير، من الإسلاميين، رجلٌ متطرفٌ، خطب عقب مقتل أسامة بن لادن، وأقام عليه صلاة الغائب. وله تسجيلٌ على موقع يوتيوب، يشيد فيه بالمتطرّفين الانتحاريين الذي يربطون الأحزمة الناسفة ويفجرونها في أماكن التجمعات. أيضًا، هذا الإمام نفسه هو الذي اعترف البشير، في أثناء محاكمته التي تجري في الخرطوم، بمنحه خمسة ملايين دولار، من مجمل الخمسة وعشرين مليون دولار، التي وصلت إليه من السعودية، بطائرةٍ خاصة. فلا غرابة، إذاً، أن صمت هذا الشيخ المتطرّف، عن كرة القدم النسائية في السعودية، وعن توزيع شيوخ الوهابية الزهور في شوارع العربية السعودية، في عيد الحب الغربي (فالنتاين). ولا غرابة، أيضًا، أن غض الطرف تمامًا عن حفلات الترفيه الغنائية الراقصة، وغيرها من إجراءات الانفتاح التي لا تنفك تتوالى تباعًا، في السعودية، خبط عشواء.
القضية الثانية التي استخدمها السلفيون والإسلاميون، في السودان لإرباك الفترة الانتقالية هي اتفاقية "سيداو"، الهادفة لإزالة التمييز ضد المرأة. أعادت الحملة الجارية ما ظل نظام البشير المدحور يردّده باستمرار، لتبرير عدم التوقيع على هذه الاتفاقية، زاعمًا أنها تهدف إلى نسف العقيدة الإسلامية، وجر المجتمع السوداني إلى التفسّخ والانحلال. هذا، في حين تمنح بنودها الموقعين عليها حق أقلمة البنود بما يلائم السياق الثقافي والأخلاقي الخاص بكل قُطر. غير الكارهين، أصلاً، لمنح النساء حقوقهن الدستورية، لا يناقشون نص الاتفاقية بموضوعية، وبنَفَسٍ هادئٍ، وإنما يتجهون، مباشرةً، إلى الشحن الديني العاطفي التهييجي، لإشاعة مناخٍ يتعذّر فيه إسماع صوت العقل. والغرض المخفي وراء هذا التباكي الكاذب على الدين هو محاولة استعادة المنظومة الاستبدادية المدحورة، والمنافع الشخصية التي أضحت مهدّدة، وإرباك الفترة الانتقالية، وصرفها عن أداء مهامها، أملاً في استعادة البنية الاستبدادية، الكليبتوقراطية التي أخذت تخضع، حاليًا، للتفكيك.
السعودية صاحبة المذهب الوهابي، موقعة على اتفاقية سيداو، ومصر بأزهرها، موقعةٌ عليها،
أيضا. بل، إن كل الدول المنضوية تحت مظلة جامعة الدول العربية، موقعةٌ على هذه الاتفاقية، باستثناء السودان والصومال. السبب أن السودان بقي تحت قبضة حكم الإسلاميين ثلاثين عامًا، أنفقوها في تدبيج الخطاب الديني الملتهب، واستخدامه لتغطية نهبهم موارد الدولة، حتى أسقطتهم ثورة الشباب في ديسمبر/ كانون الأول 2018. أما الصومال فقد بقي متأثرًا بنظام الإسلاميين في السودان، منذ سقوط نظام سياد بري. كما وجد فيه السلفيون الممولون من السعودية، ومن دول الخليج، أرضًا خصبةً لتوجهاتهم. فمن خليط التأثيريْن؛ السوداني الإسلاموي، والسعودي السلفي، نشأت المحاكم الإسلامية في الصومال، وانبثق منها لاحقًا، تنظيم الشباب الصومالي المتطرف.
يهاجم إسلاميو السودان وسلفيوه، الآن، الفترة الانتقالية بضراوةٍ شديدة، على الرغم من أنها لم تكمل الشهرين، بعد. يصفونها بأنها تنوي هدم الدين، لمجرّد أن مباراةً نسائيةً جرت بناء على قرارٍ جرى اتخاذه في فترة حكم الرئيس المعزول عمر البشير، ولمجرّد أن جدلاً بدأ يثور حول إعادة النظر في الامتناع عن التوقيع على اتفاقية سيداو. هذا، في حين لم نسمع قط أن هؤلاء شنوا حملةً على السعودية، أو على مصر وأزهرها، لأنهما وقعتا على تلك الاتفاقية. يقدم إسلاميو السودان، وسلفيوه، بحملتهم الانصرافية هذه، أبشع الأمثلة في صناعة الماء العكر، من أجل الصيد فيه. كما يقدّمون، أيضًا، أصرخ مثلٍ للديماغوجية الانتقائية، وللشعبوية الدينية، واللامبدئية، علاوةً على فقدان الهدف السامي.
في خطوةٍ جديدةٍ، صرَّح ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، معلنًا أنهم استخدموا المذهب
يعيد الإسلاميون والسلفيون الأسلوب القديم نفسه الذي استخدموه في عام 1965، بعد عامٍ واحدٍ من ثورة أكتوبر 1964، حين قادوا حملة حل الحزب الشيوعي السوداني، وطرد نوابه من البرلمان. وقد تضافرت في تلك المؤامرة في حقبة الديمقراطية الثانية (1964 – 1969)، جهود كل من حسن الترابي، والصادق المهدي، وإسماعيل الأزهري، وبقية القوى الطائفية. كما استُخدم الخطاب التكفيري نفسه، أيضًا، في 1968، وانتهى بالحكم بالردة على المفكر محمود محمد طه. وهو الحكم نفسه الذي جرى استنادا عليه، إعدام طه، في أخريات حكم الرئيس الأسبق، جعفر نميري، في 1985.
في هذا المنعطف الجديد، بدأت حملة شيطنة وزراء الفترة الانتقالية بخطبةٍ للشيخ عبد الحي يوسف، إمام مسجد حي جبرة، جنوبي الخرطوم، هاجم فيها وزيرة الشباب والرياضة، ولاء البوشي، لتدشينها مباراةً لكرة القدم النسوية. ووصف إمام المسجد الوزيرة بالانتماء إلى الحزب الجمهوري الذي تقوده حاليًا، ابنة محمود محمد طه. وقد نفت الوزيرة انتماءها لأي حزب. ولكن الحملة استمرت في ربط الوزيرة بالحزب الجمهوري، بغرض شيطنتها، وشيطنة الفترة الانتقالية برمتها، ووصم كل ما يجري من مراجعاتٍ لتركة النظام السابق المثقلة، بالعلمانية، وباستهداف الدين الإسلامي. هذا في حين أن تكوين فرقٍ لكرة القدم النسائية لم يكن قرارًا اتخذته هذه الوزيرة، ولا علاقة له، البتة، بالفترة الانتقالية، فقد جرى الشروع في تكوين فرق لكرة القدم النسائية، في فترة حكم الرئيس المعزول، عمر البشير، تمشيًا مع توجهات الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). وقد صمت هؤلاء الأئمة حينها، ولم يبدوا أيَّ معارضةٍ للقرار. ولسوء حظ من قادوا الحملة المغرضة، أن السعودية أعلنت، في الوقت نفسه الذي قامت فيه الوزيرة السودانية البوشي بركلة البداية للمباراة النسائية في الخرطوم، عن الشروع في دوري لكرة القدم النسوية، مكون من ست فرق. ولم يعلق هذا الإمام الذي قاد الحملة، ولا غيره ممن ركبوا معه الموجة على ما جرى في السعودية، ولا بكلمة واحدة. واستمروا في تدبيج الخطب النارية من بعض منابر المساجد، وشغل وسائط التواصل الاجتماعي، بالهجوم على الحزب الجمهوري، وعلى وزارة الفترة الانتقالية.
هذا الإمام الذي قاد هذه الحملة الجائرة، المغرضة، على الوزيرة، وعلى الفترة الانتقالية،
القضية الثانية التي استخدمها السلفيون والإسلاميون، في السودان لإرباك الفترة الانتقالية هي اتفاقية "سيداو"، الهادفة لإزالة التمييز ضد المرأة. أعادت الحملة الجارية ما ظل نظام البشير المدحور يردّده باستمرار، لتبرير عدم التوقيع على هذه الاتفاقية، زاعمًا أنها تهدف إلى نسف العقيدة الإسلامية، وجر المجتمع السوداني إلى التفسّخ والانحلال. هذا، في حين تمنح بنودها الموقعين عليها حق أقلمة البنود بما يلائم السياق الثقافي والأخلاقي الخاص بكل قُطر. غير الكارهين، أصلاً، لمنح النساء حقوقهن الدستورية، لا يناقشون نص الاتفاقية بموضوعية، وبنَفَسٍ هادئٍ، وإنما يتجهون، مباشرةً، إلى الشحن الديني العاطفي التهييجي، لإشاعة مناخٍ يتعذّر فيه إسماع صوت العقل. والغرض المخفي وراء هذا التباكي الكاذب على الدين هو محاولة استعادة المنظومة الاستبدادية المدحورة، والمنافع الشخصية التي أضحت مهدّدة، وإرباك الفترة الانتقالية، وصرفها عن أداء مهامها، أملاً في استعادة البنية الاستبدادية، الكليبتوقراطية التي أخذت تخضع، حاليًا، للتفكيك.
السعودية صاحبة المذهب الوهابي، موقعة على اتفاقية سيداو، ومصر بأزهرها، موقعةٌ عليها،
يهاجم إسلاميو السودان وسلفيوه، الآن، الفترة الانتقالية بضراوةٍ شديدة، على الرغم من أنها لم تكمل الشهرين، بعد. يصفونها بأنها تنوي هدم الدين، لمجرّد أن مباراةً نسائيةً جرت بناء على قرارٍ جرى اتخاذه في فترة حكم الرئيس المعزول عمر البشير، ولمجرّد أن جدلاً بدأ يثور حول إعادة النظر في الامتناع عن التوقيع على اتفاقية سيداو. هذا، في حين لم نسمع قط أن هؤلاء شنوا حملةً على السعودية، أو على مصر وأزهرها، لأنهما وقعتا على تلك الاتفاقية. يقدم إسلاميو السودان، وسلفيوه، بحملتهم الانصرافية هذه، أبشع الأمثلة في صناعة الماء العكر، من أجل الصيد فيه. كما يقدّمون، أيضًا، أصرخ مثلٍ للديماغوجية الانتقائية، وللشعبوية الدينية، واللامبدئية، علاوةً على فقدان الهدف السامي.