"سيريزا" اليوناني والاتحاد الأوروبي ..وتسيبراس أمام تحدي وعود الانتخابية
اليونان دولة عريقة، ولديها مقدّرات بشرية كثيرة في مساقات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، وقادرة على التعامل مع الأزمة المالية والمديونية الهائلة التي تقضّ مضاجع القادة السياسيين فيها. وليس مفاجئاً فوز حزب سيريزا اليساري الراديكالي، لكنّ المفاجئ فوزه الساحق على الأحزاب الأخرى، بنسبة 37%، وتهاوي نجم الحزب الاشتراكي "باسوك"، ليحصل على قرابة 4.5%، وتمكّن زعيم الحزب ألكسيس تسيبراس من التحالف مع حزب اليمين الوسط "آنيل – اليونانيون المستقلون"، لتشكيل حكومة برئاسته، في 24 ساعة. لكن، هل من المتوقع مسارعة رئيس الوزراء الشاب إلى تأكيد وعوده التي قدمها في حملته الانتخابية، وأهمها نهاية حقبة سياسة التقشّف ومحاربة الفساد وتقديم المساعدات للفقراء، وحتى إعفائهم من دفع فواتير الطاقة الكهربائية، ورفع الحدّ الأدنى للرواتب إلى 750 يورو، بدلاً من قيمتها الحالية، 580 يورو، وصرف راتب إضافي ثالث عشر؟ إذا مضى تسيبراس في هذا المنحى، فهذا يعني عمليًا تحميل موازنة العام الحالي عبئاً مالياً جديداً بقيمة 12 مليار يورو، والسؤال من أين سيحصل تسيبراس على هذه الأموال بصورة عاجلة، لإثبات مصداقية وعوده التي مكّنته من هذا الفوز؟
صرح تسيبراس، فور فوزه أيضًا، عن استعداده للتفاوض مع شركاء اليونان، والأطراف المعنية في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمؤسسات الأوروبية وألمانيا، بصفتها الدائن الأكبر لليونان، للتوصل إلى حلّ عادل ودائم يرضي الأطراف كافة. وفي إشارة إلى بدء مرحلة جديدة، قال إنّ الشعب اليوناني كتب التاريخ، ولا بدّ لأوروبا أن تتغيّر. وهو الذي ترزح بلاده تحت ثقل مديونية كبيرة للغاية، تبلغ قيمتها قرابة 240 مليار يورو، ما يعادل 157% من قيمة الدخل القومي للبلاد، وعلى الحكومة الجديدة أن تتوصل إلى اتفاق عاجل مع الجهات المدينة، لكي تضمن الحصول على دعم مالي من البنك المركزي الأوروبي بفوائد منخفضة، وإلا سيمتنع البنك المركزي الأوروبي عن تقديم الأموال إلى البنوك اليونانية، للحدّ من خسائره، حال مغادرة اليونان لنادي اليورو، والبدء بطباعة الدراخما مجدّدًا، علمًا أنّ الوقت قصير أمام هذه الحكومة، وعليها أن تدفع أولى الاستحقاقات لصندوق النقد الدولي، في شهر مارس/آذار المقبل. وفي 20 يوليو/تموز، يتوجب على الحكومة اليونانية دفع 3.5 مليار يورو لصالح البنك المركزي الأوروبي، وهناك دفعة مالية أخرى مستحقّة في 20 أغسطس/آب بقيمة 3.2 مليار يورو، وتتوقّع اليونان، حال التوصّل إلى صيغة تفاهم مع البنك المركزي الأوروبي، الحصول على دفعة مالية في فبراير/شباط المقبل، على أن تبدأ سلسلة عمليات إصلاحية عاجلة في المجالات الحيوية.
ويفضل صندوق النقد الدولي والشركاء الأوروبيين التعامل بحكمة ومرونة مع الحكومة الجديدة، وقد صرّح بنك الاستثمار الدولي "الدائنون على استعداد لدفع كلفة تمديد مهلة مخاطر إفلاس اليونان، بدلاً من دفع المزيد من الأموال لسياسة رفض الإصلاحات الوطنية المعتمدة، والتنكّر للمبادئ الاقتصادية". وأشار غيكاس هاردوفيليس وزير المالية اليوناني السابق، قبل الانتخابات اليونانية بأسبوع، إلى إنّ إمكانية خروج بلاده من نادي اليورو إجراء قد يحدث مصادفة، إذا لم تتمكن الحكومة الجديدة من التوصل إلى اتفاق مع الدائنين، في الوقت المناسب، وتوقفها عن دفع الديون المستحقّة قد يؤدّي إلى حالة من القلق والتوتر في الأسواق المالية، واستمرار سحب المواطنين ورجال الأعمال اليونانيين ودائعهم المالية في البنوك الوطنية. عندها، سيرفض البنك الأوروبي المركزي مواصلة دعم البنوك اليونانية. وكان عديدون من أصحاب الملايين اليونانيين قد اجتمعوا مع رئيس الوزراء البلغاري، بويكو بوريسوف، لمعرفة الشروط المطلوبة للاستثمار في بلاده، والتعرّف على مناخ العمل في رومانيا، أيضًا، باعتبار الدولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي، ما يسهّل نقل أعمالهم إليهما بيسر حال فوز حزب سيريزا، وتردّي مناخ العمل في اليونان.
الموازنات المالية المحافظة
رفض رئيس الوزراء اليوناني اليساري الجديد، ألكسيس تسيبراس، وضع يده على الكتاب المقدّس خلال أداء مراسم القسم لتولّي منصب رئاسة الوزراء في اليونان، الدولة المعروفة بتقاليدها الدينية المتجذّرة، وهو معروف بإلحاده، وقال إن قسم أعضاء المجلس الوزاري سياسي وليس دينيًا، كما بقي وفيًا لطقوسه، ولم يضع ربطة عنق. وهذا كله لا يحول بالطبع دون تولّيه المنصب الجديد، وتحمّل مسؤولية الحكومة الجديدة المكوّنة من عشرة وزراء فقط. وقبل أن يتوجه إلى مقرّ رئاسة الوزراء، في مركز العاصمة أثينا، للمشاركة في مراسم تسلّمه المنصب من أندونيس ساماراس رئيس وزراء حزب "ديمقراطية جديدة" الذي خسر الانتخابات البرلمانية الجديدة، ذهب تسيبراس إلى حيّ كيسارياني، حيث النصب التذكاري لمئتي قتيل شيوعي، أعدمتهم القوات الفاشية الألمانية في العام 1944 لوضع إكليل من الزهور. ولهذه التصرفات دلالات سياسية كثيرة، توضح قوّة شخصيته وإيمانه بمبادئه، وإصراره على المضيّ في الطريق الذي خطّه خلال مسيرته السياسية. لكن، هل سيتمكن هذا القائد الإغريقي من تخليص اليونان من أزمة المديونية الخانقة، والمضي باليونان إلى شاطئ الأمان؟
الشخصية المحورية في المجلس الوزاري اليوناني الجديد هو وزير المالية بالطبع، يانيس ڨاروفاكيس، الذي تخلّى عن منصبه في جامعة تكساس، للعودة إلى اليونان وتولّي موقعه شديد الحساسية ضمن الظروف الصعبة التي تمرّ بها بلاده. وقد وصف مهمّة حزب سيريزا بأنها مثل "كأس السمّ"، وعلى الحزب تجرّعها، وقال إنّ اليونان لن تغادر نادي اليورو، ووصف بلاده بأنّها مستعمرة اقتصادية، كناية لحجم المديونية الهائلة. وأضاف إنّ سياسة التقشف والجمود التي اعتمدتها الحكومات السابقة أثبتت فشلها، ولا بدّ من إجراء عمليات تغيير جذرية، لتطوير الاقتصاد الوطني، وقال إنّ استمرار خفض الرواتب وأسعار السلع والمواد الاستهلاكية يدلّ على انكماش الاقتصاد الوطني، وعدم تعافيه، على الرغم من الانضباط والالتزام. وهذا الوزير الجديد معروف كذلك برفضه الموازنات المالية المحافظة التي اعتمدتها الحكومات السابقة. وكان قد شغل منصب المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء اليوناني الأسبق، غيورغيوس باباندريو، بين 2004 – 2006، وسرعان ما انتقد بشدّة سياسة الحكومة الاشتراكية، مع بدء الأزمة الاقتصادية في البلاد. كما أنه معروف بمعارضته الشديدة برامج الاتحاد الأوروبي، ويرى أنّ الأضرار المترتبة على انضمام اليونان للاتحاد، وتدخل الأخير في سياسة اليونان الاقتصادية والمالية، أديا إلى استدامة حالة الكساد وعرقلة المسيرة الاقتصادية في البلاد.
نموذج سياسي غير تقليدي
أكّد فوز حزب سيريزا في اليونان عقم سياسة الاتحاد الأوروبي الاقتصادية، كما يرى مختصون عديدون، حيث يفرض الاتحاد سياسة مالية صارمة، لا تسمح برفع معدلات عجز موازنات الدول الأعضاء، بما يزيد على 3%. وعلى الرغم من وفاء اليونان بكل متطلبات الاتحاد وشروطه، كما يؤكّد الخبير الاقتصادي، بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في مقال في "نيويورك تايمز"، ويضيف إنّ النتائج المتوقعة للنمو الاقتصادي في اليونان جاءت مخيبة للآمال، ما يدلّ على أنّ سياسة التقشف ليست مجدية. ويدرك رئيس الوزراء اليوناني الجديد هذه الحقائق، وسيعمل على الخروج من هذه الدوّامة. لكن، لا أحد يمكنه أن يتنبّأ بنتائج التوجهات الجديدة، ويحتمل هذا الأمر مخاطر، لأنّ التجربة اليونانية قد تصيب بالعدوى بعض دول الاتحاد، فهناك دول عديدة تعاني من الركود الاقتصادي، كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها. ويتفق كذلك صندوق النقد الدولي مع شروط الالتزام والتقشف التي وضع أطرها الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي، من دون تحقيق الأهداف المنشودة، وأهمها رفع مستويات النمو الاقتصادي في غالبية دول المنظومة.
وتشير الانتخابات اليونانية كذلك إلى فشل الأحزاب اليسارية التقليدية، وتراجع شعبيتها إلى مستويات غير مسبوقة، وشهدت دول أوروبية عديدة تراجع شعبية الأحزاب اليسارية، وخسارتها الانتخابات البرلمانية. وكان حزب باسوك اليساري العريق قد فاز في انتخابات العام 2009 بنسبة 44%، وحصل على 160 مقعدًا في البرلمان (تعداد نوابه 300)، ما مكّنه من تشكيل حكومة أقلية، لكنّه حاز على المرتبة السابعة، بنسبة لا تتجاوز 4.68% في انتخابات العام الحالي 2015. وهي الانتخابات التي أكّدت سخط الشعب اليوناني على النخبة السياسية السابقة التي تسببت بالمديونية الهائلة، فهي التي طالبت بمئات المليارات من المؤسسات المالية الدولية من دون أن يشعر الشعب اليوناني بأنّ حياته تحسّنت بعد تدفّق هذه الأموال في البنوك اليونانية، بل ترتّب على ذلك تراكم الفوائد والديون إلى معدّلات كبيرة للغاية، كما هو معروف. ولا توجد خيارات كثيرة أمام الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، وقد صعد نجم الأحزاب المتطرفة نتيجة فشل الإطار الاقتصادي العام الذي تبناه الاتحاد، والإصرار على سياسة شدّ الأحزمة والتقشّف، ما أدّى إلى انهيار الأحزاب الأوروبية العريقة، وتراجع شعبيتها إلى مستويات تدعو للدهشة، وعلى الاتحاد مراجعة سياساته، وخصوصاً في الشأن الاقتصادي، وتقديم حيّز من الحرية للعمل على رفع معدّلات النمو في الدول الأعضاء.
ليس حزب سيريزا متطرفًا على ما يبدو كما يرى كثيرون، وقد رحّب بلقاء القادة الأوروبيين في بروكسل، فور فوزه، للتفاوض بشأن الالتزامات المالية الكبيرة وطريقة تسديدها. وهو، في الوقت نفسه، لا يخشى من الخروج من نادي اليورو، والبدء بطبع العملة المحلية الدراخما، وفتح مجالات مختلفة لنمو الاقتصاد، كما كان عليه الحال قبل عقدين في اليونان. هو حزب يساري، ويتبنى الفكر الاقتصادي اليساري، ولا يطرح أفكارًا كالانسلاخ عن الاتحاد، كما أحزاب يمينية متطرفة كثيرة في أوروبا، في وقت تطرح فيه الأحزاب اليسارية الأوروبية التقليدية أفكارًا يسارية، وأنظارها متوجهة إلى اليمين.
ردود الفعل العالمية
طالبت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، اليونان بتنفيذ التزاماتها في مجال الإصلاحات الاقتصادية، مؤكّدة على ضرورة عمل الحكومة الجديدة لتحقيق النمو الاقتصادي، والامتثال لالتزاماتها، ووعدت بأن تواصل برلين العمل مع حكومة تسيبراس. وأكّد شتيفان زايبيرغ المتحدث باسم المستشارة ميركل إنّ ألمانيا ترغب ببقاء اليونان عضوًا في نادي اليورو، فيما طالب ڨولفغانغ شويبلي وزير المالية الألماني بالإبقاء على التزامات اليونان بشأن إجراء الإصلاحات، بغضّ النظر عن طبيعة الحكومة المقبلة. ولا توجد نيات لدى ألمانيا لشطب الديون الهائلة المترتبة على اليونان. لكن، يمكن مناقشة برنامج إنقاذ جديد على المستوى الأوروبي، إذا تقدّمت اليونان بطلب للنظر في إمكانية إعادة جدولة البرنامج الحالي المتفق عليه، حتى نهاية شهر فبراير.
وقد أوضح رئيس البرلمان الأوروبي مارتين شولتز أنّ رئيس الوزراء اليوناني الجديد رجل براغماتي، ولا بدّ من قبول مزيد من التنازلات، للتوصل إلى اتفاق مع الحكومة اليونانية الجديدة، التي أجرى شولتز محادثة هاتفية مطولة مع رئيسها تسيبراس، أكّد فيها إنّ رئيس الوزراء اليوناني يدرك جيّدًا ضرورة القيام بحزمة إصلاحات واسعة في السياسة الخارجية والداخلية في اليونان. وليس من المتوقع أن تتنكر اليونان لالتزاماتها تجاه الاتحاد الأوروبي، لحاجتها لشركاء، ولعدم وجود بدائل للضغط على المؤسسات الدولية المالية. لذا، ستكون التنازلات مشتركة من الطرفين، بغض النظر عن البرنامج المتطرف الذي وضعه حزب سيريزا، طوال حملته الانتخابية.
كما هنّأت الولايات المتحدة وفرنسا تسيبراس بفوزه الكبير، ونوّه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد التهنئة إلى رغبة بلاده للعمل المشترك الجادّ مع حكومة تسيبراس، متمنيًا للزعيم الشاب التغلّب على الأزمات التي تعصف ببلاده.
ويعد زعيم حزب سيريزا ورئيس الوزراء اليوناني، ألكسيس تسيبراس، أصغر من تولوا هذا الموقع في تاريخ بلاده منذ 150 عامًا، وقد تمكّن من رفع شعبية حزبه في الانتخابات البرلمانية في السنوات الثلاث الأخيرة إلى خمسة أضعاف. ويعتبر فوزه الساحق بمثابة إشارة لضرورة البدء بعملية تغيير جذرية في السياسة الاقتصادية للمنظومة الأوروبية، وإعادة النظر في متطلبات التقشّف، والوفاء بالموازنات المالية، كما جاء على لسان السكرتير العام للحزب الاشتراكي البرتغالي، أنطونيو كوشتا، وكما تطالب بذلك أحزاب راديكالية ووطنية عديدة، تؤكّد فشل التوجهات الأوروبية في العقد الأخير.