لم تكن تتخيل المصورة السكندرية الشابة سارة زهير وهي تسمع تلك الكلمات في ربيع عام 2016، أنها ستكون زيارتها الأخيرة لمنطقة "طابية الأطة" أو "مساكن خفر السواحل" كما يطلق عليها، فمنذ سنوات والحكومة تعلن عزمها هدم المساكن ثم تتراجع أمام ضغوط الأهالي وتمسّكهم ببيوتهم.
"أزور المنطقة منذ عام 2011 بصورة مستمرة، وفي كل مرة أحضر الكاميرا معي، لكنني أنشغل بالحوار مع السكان ثم التمشية على البحر، وأعود بقليل من الصور وكثير من الحكايات" تقول زهير لـ"العربي الجديد"، موضّحة أنها سافرت في اليوم التالي لهذه الزيارة إلى القاهرة، وعندما عادت لم تجد إلا الركام وسورا كبيرا يحاوط الطابية. "كان الأمر صادماً، كل شيء تلاشى، ولم يتبقَ إلا سارية عليها علم مصر القديم وهو عبارة عن هلال وثلاث نجوم" تضيف سارة، بينما تتأمّل صورها بحزن شديد مستعيدة ذكريات كثيرة عاشتها هناك.
يعود تاريخ "طابية الأطة" إلى القرن التاسع عشر، وكان مسمّاها الأصلي "طابية الأضا" وتعني الجزيرة باللغة التركية، وهي واحدة من عشرات الطوابي والحصون العسكرية التي تمّ بناؤها لحماية حدود الإسكندرية، وخلال فترة الاحتلال الإنكليزي لمصر (1882-1956)، تحوّلت إلى مساكن مخصّصة للجنود والبحارة الإنكليز.
تاريخ برسم النسيان
تقع مساكن "طابية الأطة" في منطقة حيوية بين قصر التين والقاعدة البحرية وقلعة قايتباي في حي الجمرك غرب الإسكندرية، وهي عبارة عن عدّة مبانٍ صغيرة، مكونة من ثلاثة أدوار، تتميز بنمط معماري مختلف عن باقي أحياء الإسكندرية، جعل البيوت متصلة ومنفصلة في آن، فكل مجموعة من البيوت يصلها ممر طويل تتوسّطه ساحة واسعة، يُطلق عليها الأهالي مسمّى "سرايا".
لكن في العقدين الماضيين تعرضت "الطابية" إلى الإهمال، وطالبت القوات المسلحة المصرية الأهالي بمغادرتها، بدعوى أنها منطقة عسكرية، وبعد مفاوضات وضغوطات على الأهالي، رحلت العديد من الأسر إلى مساكن بديلة في حيّ المكس، لكن ظّلت مئة أسرة ترفض الرحيل، مما اضطر القوات المسلحة إلى أن توفّر مساكن قريبة لهم، تبعد عن الطابية مسافة خمسمائة متر.
داخل قاعة عرض مركز "تياترو الإسكندرية" تتجاور صور "الطابية" مع أربع قصص مصورة أخرى، تسلّط الضوء على تاريخ الإسكندرية المنسي، وتعكس معاني متنوعة للرحيل مثل السفر والموت والتهجير. عبر مزيج من القصص الإنسانية والصور الفوتوغرافية، تحاول المصوّرة بناء ذاكرة بصرية لمنطقة "طابية الأطة"، مدفوعة بخوف متراكم من التلاشي والرحيل وفقدان الذاكرة.
"تتغير الإسكندرية كل يوم، موجات متتالية من الهدم والإهمال، يتلاشى معها تاريخ المدينة وتراثها" تقول زهير، مضيفة: "على مدار عام كامل من ربيع 2016 حتى صيف 2017، عملت على تطوير أربع قصص مصوّرة عن مفهوم الرحيل، لكن ظلّت قصة الطابية أكثرها ألماً".
قبل الهدم وبعده
تدرك زهير أن الصور الفوتوغرافية لن تعيد بناء ما هُدم، وقد لا تستطيع صناعة ذاكرة قوية في ظلّ دوامات الحياة المتتالية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتراكمة، لكنها تحاول أن تبقي ذاكرتها حيّة عبر هذه القصص المصورة.
"أولادي كلموني كتير أروح أعيش معاهم، بس أنا بحب البيت هنا، البيت دور واحد منك للسماء، والساحة قدامه فيها الشمس شتاء وصيف والهواء يرد الروح، أنا راحتي هنا، يا ريت أموت قبل ما يمشونا من هنا"، تتذكر المصورة تلك الكلمات، بينما تشرح لروّاد معرضها، الذي اختتم مؤخراً، تاريخ الطابية المحفور داخل جدران وأرواح سكانها.
موضحة أن هدم "الطابية" واحد من الحلقات البارزة في تدمير تاريخ المدينة المتسارع بوتيرة جنونية في السنوات الماضية. "بعض الأهالي تحدثوا عن وجود مستثمر من الإمارات العربية المتحدة، يسعى إلى بناء مشروع على أرض الطابية لذلك جرى إخلاؤها وهدم بيوتها، بينما أكد آخرون أن الجيش هو من يسعى إلى استثمارها بشكل مباشر" تقول زهير.
تتعدّد الأقاويل حول مستقبل "طابية الأطة" بعد تهجير سكانها وهدم مبانيها، لكن المؤكد أنها تلاشت وصارت منطقة عسكرية، محاطة بأسوار عالية، ولم يتبق منها سوى بعض الصور والقصص والذكريات.
"اتجوزت واحدة من فرنسا وخلفت منها ولد سميته "سعد"، أخدته مني وسافرت، وبعد سنين قررت ترجع، يومها عملت فرح وكتبت اسمه على الحيطان ولونتها، بكرة البيت هيتهد، نفسي أخد الحيطان معايا".
رصيف نمرة خمسة
بعد رحيل الاحتلال الإنكليزي سكنت طابية الأطة - التي كان يطلق عليها "طابية الأضا"- العديد من الأسر المصرية، التي ظلت تتوراثها على مدار عقود وبنيت بجوارها عدة بيوت صغيرة وأبراج للحمام، وكان أكثر ما يميزها الهدوء والإطلالة الجميلة على البحر المتوسط، وخلال فترة الخمسينيات والستينيات جرى تصوير العديد من الأفلام بها، ومن الأعمال التي كانت "الطابية" موقع تصويرها "رصيف نمرة خمسة".