ينظر الجزائريون إلى الطعام نظرة تقديس، ويسمّونه "ملحاً" وينبذون من يخونه. كذلك يسمّونه "زرّيعة الروح"، أي بذرة الروح والبقاء، ويحتقرون من يتهاون في توفيره. فالرجل الذي لا يملك الهمّة لتوفير قوته وقوت أسرته لن يحظى بزوجة ولن يجد له مكاناً في الجماعة أو العشيرة. أمّا المرأة التي لا تحسن الطبخ فيصعب عليها الزواج.
من الممكن أن يغضّ الجزائري النظر عن بساطة البيت احتراماً لصاحبه، فالشعار السائد هو "المهمّ سقف". لكنّه يربط احترامه للبيت ولصاحبه بمدى توفّر المؤونة التي يُستعان بها في مواسم ومناسبات معيّنة، وتسمّى شعبياً "عولة"، المشتقّة من التعويل على الشيء.
وتزخر المدوّنة الشعبية بعشرات الأمثال والحكم والمرويات التي تتناول "العولة" وتشيد بها وتعلي من شأن صاحبها، منها المثل القائل "دار بلا عولة من حظّ الغولة"، أي أنّ البيت الذي لا تتوفّر فيه مؤونة تلتهمه "الغولة"، أي الجوع.
في الشمال الجزائري حيث يعيش أكثر من 80 في المائة من سكان البلاد، يمتدّ فصل الشتاء بأمطاره التي تبلغ في بعض المناطق 1800 مليمتر في حين يتجاوز علوّ ثلوجه المتر الواحد وتنخفض درجة حرارته إلى دون الصفر. وفي هذا الفصل الذي يبدأ في شهر أكتوبر/ تشرين الأول وينتهي في شهر مارس/ آذار، تتوقّف الحركة تقريباً، إذ إنّ كثيرين يميلون إلى المكوث في بيوتهم، بالتالي فإنّ توفير "العولة" أمر ضروري.
تنطلق عملية تهيئة "العولة" في فصل الصيف، فيُصار إلى إعداد التوابل، خصوصاً الحارة منها، وتجفيف الحبوب من قبيل الفول والحمّص، وتقديد اللحم، وطحن القمح، وتنتهي مع أواخر الخريف من خلال توفير الكميات اللازمة من زيت الزيتون. في هذه الفترة، تستعيد الذاكرة حكاية النملة المجتهدة التي تعمل بدأب من أجل التهيؤ لفصل الشتاء القاسي، والصرصور الكسول الذي يتفرّغ للغناء.
وما يميّز المرأة الجزائرية وهي تعدّ "العولة" أنّها تجمع بين نشاط النملة وغناء الصرصور في آن واحد. ويمكننا أن نرصد أغاني وأهازيج عدّة بين الرجال والنساء في أثناء عمليّة جمع المؤونة وتحضيرها، فنستطيع بالتالي أن نطلق عليها اسم "أغاني العولة".
تقليد لا يندثر
يقول الشاعر الجزائري والمهتم بالتراث الشعبي، رشيد بلمومن، لـ"العربي الجديد"، إنّ "عادات وتقاليد شعبية كثيرة اختفت بفعل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية التي مست الحياة الجزائرية، ما عدا ثقافة العولة. فهي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، إذ إنّ الجيل الجديد تبنّاها، خصوصاً الشابات".
يضيف بلمومن أنّ "العادات المتعلّقة بالطعام سلمت بمعظمها من الاندثار، لأنّها ترتبط بوجود الإنسان، ولأنّه لا يمكن التخلّي عنها في ظلّ بقاء دواعيها بحكم طبيعة البيئة".
في جولة قام بها "العربي الجديد" في مدن الوادي جنوباً وبرج بوعريريج شرقاً وحمّام بوحجر غرباً، لاحظنا أنّ الأطعمة التي تدخل في إطار "عولة الشتاء" باتت متوفّرة في المحال التجارية كذلك، بعدما كانت تصنع في البيوت فقط.
ويشير مهدي حاجّي، وهو طالب في الاقتصاد، إلى أنّ "تصنيعها في البيوت سابقاً فرضه انعدامها في الأسواق. وتوفّرها في السوق يأتي نتيجة التحوّلات الاقتصادية التي سُجّلت في السنوات الأخيرة". ويشرح حاجّي فكرته لـ"العربي الجديد"، قائلاً إنّ "ثقافة العولة في المجتمع الجزائريّ استمرّت لأن أسبابها ما زالت قائمة. لكنّ التطبيق اختلف نظراً إلى المستجدات الحاصلة، مثل خروج المرأة إلى العمل".
يقول المثل الشعبي "الثلج بلا عولةٍ أسود"، تشديداً على أهميّة هذا التقليد في فصل البرد. وعلى الرغم من أنّ وجبة فطور الجزائريين مأخوذة من الفرنسيين، وهي كناية عن قهوة بالحليب وكرواسان أو خبز مع الزبدة والمربّى، إلا أنّ كثيرين منهم يغيّرون عاداتهم في خلال فصل الشتاء، فيقبلون على الأطعمة التي هي أشبه بوجبة غداء.
اقــرأ أيضاً
يقول الشاب محمد، من مدينة العلمة، في ولاية سطيف (شمال شرق)، إنّ "الشباب عموماً يصرّون على التمسّك بالفطور على الطريقة الفرنسيّة. بالنسبة إليّ، من المستحيل أن أصحو من النوم صباحاً وأتناول طعاماً دسماً، حتى أنّني أشعر بالغثيان حين أشاهد العرب في المشرق وهم يتناولون ما يشبه الغداء في الصباح. لكن ما أن يحلّ فصل الشتاء حتّى يصير ذلك مقبولاً لديّ، وآكل ما تعدّه أمّي في البيت، أو أقصد مطعماً متخصّصاً في الدوبارة".
التدبير في "الدوبارة"
تأتي "الدوبارة" على رأس قائمة الأطعمة التي يقاوم بها الجزائريون البرد في الصباح. وهي كناية عن طبق حار جداً يتكوّن من فلفل وطماطم وثوم وزيت زيتون وحمّص أو فول أو كليهما. وتُنسَب "الدوبارة"، بحسب أشهر الروايات حولها، إلى رجل يُسمّى أحمد الدبّار من مدينة وادي سوف (شمال شرق)، جاع أولاده، فتدبّر لهم هذه الأكلة ممّا توفّر لديه. بعد ذلك، فتح محلاً لبيعها، وهكذا انتشرت في أرجاء الجزائر حتّى باتت من أشهر الأكلات الشعبية التّي يشرع الجزائريون في تناولها مباشرة بعد صلاة الفجر.
في مدن كثيرة، من قبيل وادي سوف وبسكرة وباتنة والمسيلة والجلفة والأغواط، يصطفّ عشرات الجزائريين أمام محال "الدوبارة". وهؤلاء إمّا يتناولونها في المكان وإمّا يحملونها معهم في أكياس إلى البيوت. يقول عمّي أحمد، من مدينة برج بوعريريج (شرق)، لـ"العربي الجديد": "في حال تخيّلنا البرد في هيئة رجل، فإنّ الدّوبارة أكثر ما يخيفه... فهي تملك القدرة على القضاء عليه". يضيف مازحاً: "إذا كان الروسي يقاوم البرد بالفودكا، فإنّ الجزائريّ يقاومه بالدوبارة".
من الممكن أن يغضّ الجزائري النظر عن بساطة البيت احتراماً لصاحبه، فالشعار السائد هو "المهمّ سقف". لكنّه يربط احترامه للبيت ولصاحبه بمدى توفّر المؤونة التي يُستعان بها في مواسم ومناسبات معيّنة، وتسمّى شعبياً "عولة"، المشتقّة من التعويل على الشيء.
وتزخر المدوّنة الشعبية بعشرات الأمثال والحكم والمرويات التي تتناول "العولة" وتشيد بها وتعلي من شأن صاحبها، منها المثل القائل "دار بلا عولة من حظّ الغولة"، أي أنّ البيت الذي لا تتوفّر فيه مؤونة تلتهمه "الغولة"، أي الجوع.
في الشمال الجزائري حيث يعيش أكثر من 80 في المائة من سكان البلاد، يمتدّ فصل الشتاء بأمطاره التي تبلغ في بعض المناطق 1800 مليمتر في حين يتجاوز علوّ ثلوجه المتر الواحد وتنخفض درجة حرارته إلى دون الصفر. وفي هذا الفصل الذي يبدأ في شهر أكتوبر/ تشرين الأول وينتهي في شهر مارس/ آذار، تتوقّف الحركة تقريباً، إذ إنّ كثيرين يميلون إلى المكوث في بيوتهم، بالتالي فإنّ توفير "العولة" أمر ضروري.
تنطلق عملية تهيئة "العولة" في فصل الصيف، فيُصار إلى إعداد التوابل، خصوصاً الحارة منها، وتجفيف الحبوب من قبيل الفول والحمّص، وتقديد اللحم، وطحن القمح، وتنتهي مع أواخر الخريف من خلال توفير الكميات اللازمة من زيت الزيتون. في هذه الفترة، تستعيد الذاكرة حكاية النملة المجتهدة التي تعمل بدأب من أجل التهيؤ لفصل الشتاء القاسي، والصرصور الكسول الذي يتفرّغ للغناء.
وما يميّز المرأة الجزائرية وهي تعدّ "العولة" أنّها تجمع بين نشاط النملة وغناء الصرصور في آن واحد. ويمكننا أن نرصد أغاني وأهازيج عدّة بين الرجال والنساء في أثناء عمليّة جمع المؤونة وتحضيرها، فنستطيع بالتالي أن نطلق عليها اسم "أغاني العولة".
تقليد لا يندثر
يقول الشاعر الجزائري والمهتم بالتراث الشعبي، رشيد بلمومن، لـ"العربي الجديد"، إنّ "عادات وتقاليد شعبية كثيرة اختفت بفعل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية التي مست الحياة الجزائرية، ما عدا ثقافة العولة. فهي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، إذ إنّ الجيل الجديد تبنّاها، خصوصاً الشابات".
يضيف بلمومن أنّ "العادات المتعلّقة بالطعام سلمت بمعظمها من الاندثار، لأنّها ترتبط بوجود الإنسان، ولأنّه لا يمكن التخلّي عنها في ظلّ بقاء دواعيها بحكم طبيعة البيئة".
في جولة قام بها "العربي الجديد" في مدن الوادي جنوباً وبرج بوعريريج شرقاً وحمّام بوحجر غرباً، لاحظنا أنّ الأطعمة التي تدخل في إطار "عولة الشتاء" باتت متوفّرة في المحال التجارية كذلك، بعدما كانت تصنع في البيوت فقط.
ويشير مهدي حاجّي، وهو طالب في الاقتصاد، إلى أنّ "تصنيعها في البيوت سابقاً فرضه انعدامها في الأسواق. وتوفّرها في السوق يأتي نتيجة التحوّلات الاقتصادية التي سُجّلت في السنوات الأخيرة". ويشرح حاجّي فكرته لـ"العربي الجديد"، قائلاً إنّ "ثقافة العولة في المجتمع الجزائريّ استمرّت لأن أسبابها ما زالت قائمة. لكنّ التطبيق اختلف نظراً إلى المستجدات الحاصلة، مثل خروج المرأة إلى العمل".
يقول المثل الشعبي "الثلج بلا عولةٍ أسود"، تشديداً على أهميّة هذا التقليد في فصل البرد. وعلى الرغم من أنّ وجبة فطور الجزائريين مأخوذة من الفرنسيين، وهي كناية عن قهوة بالحليب وكرواسان أو خبز مع الزبدة والمربّى، إلا أنّ كثيرين منهم يغيّرون عاداتهم في خلال فصل الشتاء، فيقبلون على الأطعمة التي هي أشبه بوجبة غداء.
يقول الشاب محمد، من مدينة العلمة، في ولاية سطيف (شمال شرق)، إنّ "الشباب عموماً يصرّون على التمسّك بالفطور على الطريقة الفرنسيّة. بالنسبة إليّ، من المستحيل أن أصحو من النوم صباحاً وأتناول طعاماً دسماً، حتى أنّني أشعر بالغثيان حين أشاهد العرب في المشرق وهم يتناولون ما يشبه الغداء في الصباح. لكن ما أن يحلّ فصل الشتاء حتّى يصير ذلك مقبولاً لديّ، وآكل ما تعدّه أمّي في البيت، أو أقصد مطعماً متخصّصاً في الدوبارة".
التدبير في "الدوبارة"
تأتي "الدوبارة" على رأس قائمة الأطعمة التي يقاوم بها الجزائريون البرد في الصباح. وهي كناية عن طبق حار جداً يتكوّن من فلفل وطماطم وثوم وزيت زيتون وحمّص أو فول أو كليهما. وتُنسَب "الدوبارة"، بحسب أشهر الروايات حولها، إلى رجل يُسمّى أحمد الدبّار من مدينة وادي سوف (شمال شرق)، جاع أولاده، فتدبّر لهم هذه الأكلة ممّا توفّر لديه. بعد ذلك، فتح محلاً لبيعها، وهكذا انتشرت في أرجاء الجزائر حتّى باتت من أشهر الأكلات الشعبية التّي يشرع الجزائريون في تناولها مباشرة بعد صلاة الفجر.
في مدن كثيرة، من قبيل وادي سوف وبسكرة وباتنة والمسيلة والجلفة والأغواط، يصطفّ عشرات الجزائريين أمام محال "الدوبارة". وهؤلاء إمّا يتناولونها في المكان وإمّا يحملونها معهم في أكياس إلى البيوت. يقول عمّي أحمد، من مدينة برج بوعريريج (شرق)، لـ"العربي الجديد": "في حال تخيّلنا البرد في هيئة رجل، فإنّ الدّوبارة أكثر ما يخيفه... فهي تملك القدرة على القضاء عليه". يضيف مازحاً: "إذا كان الروسي يقاوم البرد بالفودكا، فإنّ الجزائريّ يقاومه بالدوبارة".