حكايات الحرب لا تنتهي، ليس لأنّ سردها ممتع وأشخاصها ملهمون وأمكنتها موحية، بل لأنّ الحرب لم تنته، ذعرها على الأقلّ صامد وراسخ. إحدى حكايات الحرب كانت "بوسطة عين الرمانة".
يا له من اسم! وكأنّ شاعراً صاغه برحيق الوحي. لكنّ تلك العبارة سُطرت في التاريخ اللبناني الأليم بدماء مجزرة ارتكبت بحقّ ركاب "بوسطة"، كانت تشقّ طريقها في شوارع "عين الرمانة" في 13 ابريل/نيسان، اعتبرت الانطلاقة "الرسمية" للحرب في لبنان.
قبل الحرب، وقبل أن تمرّ تلك البوسطة بالمنطقة، كانت هناك عين ماء وكانت شجرة رمان ضخمة تظلّلها، ذلك في ذاكرة بعيدة، لكن في ذاكرتنا نحن لا توحي العبارة الا بالكآبة والجدب والمآسي.
طالت الحرب بعد ذلك المرور الدامي. كانت طريقها طويلة، متعرّجة، بوسطتها لا تكلّ ولا تعطل، تخرج من نفق لتدخل في آخر، تصل قمّة جبل لتنزل إلى قعر وادٍ... يُرصد مرورها كثيراً اليوم في طرابلس وعرسال، رُصدت في الضاحية وصيدا... ورُصدت وسط بيروت في فبراير/شباط 2005... كلّ مرّة كانت تبدّل حديدها وإطاراتها، تُلاحق باللعنات والشتائم. لكنّها كانت دوماً بريئة. لم تحمل الموت بل هو من حملها، لم تنشر الكراهية بل كانت الكراهية وقودها، لم تثر غبار الانتقام لأنّ الأرض لم تكن معبّدة بالتسامح والغفران أصلاً.
قبل 13 ابريل/نيسان بعدة سنوات وحتى اليوم هدرت باصات كثيرة، انفجرت سيارات عدّة، قتلت الكثيرين، ورسّخت المأساة، و"البوسطة" التي كانت رمز رحلات طلاب المدارس و"هيصة" المراهقين، وفرحة المسافرين برّاً، تحوّلت إلى أيقونة حرب أو إحدى مخلّفاتها، وتبرأت من ذاكرتها الجميلة. وكأن الحداد أزليّ وجذري يتوجّب أن نقفل خلاله نوافذ النور القليلة.
لذلك ربما يجب أن نحيي اليوم كلّ الباصات الآمنة التي نقلتنا إلى فسحة جميلة في عمرنا ذات لحظة عابرة. استذكار الحرب لا يعني استذكار أغنيات التفجّع واللطم والنواح، بل أغنيات فيروز وصباح ونصري وجوزف صقر، التي واكبت اللحظات الجميلة القليلة التي ساعدتنا على الصمود. تحية اذاً إلى الباصات الآمنة الوديعة.
الباص الذي كان ينقلني وأخوتي إلى المدرسة كان رمز الاستراحة من هول النظام المدرسي المتزمّت. كان ينقلنا بين أحراج "عين الحور" و"الدبية" و"مرج علي" في الصباحات الباكرة، على أغنيات عديدة كانت بينها فيروز ووردة، وصار بينها راغب علامة ومدحت صالح وهاني شاكر... لأننا كنا نكبر ونفرض على الركاب الأصغر ما نريد.
الباص الذي كان ينقلنا إلى بيروت، والميني باص الذي يأخذنا إلى صيدا لنتسوّق ونتنزّه، اذ نفتح الشباك يصفعنا هواء البحر المتوسط، يسعدنا اننا خرجنا من جوار المنزل، من القرية إلى المدينة وإلى الصخب الذي لم نكن بعد نقرنه بالعنف.
في إحدى هذه الباصات كان يمكن أن نُقتل، ولكننا نجونا، أو بعضنا نجا.
تلك الأغاني الجميلة التي صُنعت لرحلاتنا، ألّفت لنغنّيها ونرقصها في الباصات، كانت تقود معركتها ضدّ الحرب والموت والدموع. "ع هدير البوسطة" إحداها وربما أجملها. يقول زياد الرحباني انه تقاضى 500 ليرة لبنانية ليبيعها لوالده عاصي وأمّه فيروز. مبلغ يُعتبر اليوم زهيداً لأنّ تلك الأغنية صارت أثمن الأغنيات اللبنانية، اذ هي تساوي كلّ أفراح المتألمين، المثابرين على الحياة والمصمّمين على الذهاب في رحلة وسط حواجز الموت الملغومة.
إن انتهت الحرب، وحلّ سلام ووفاق وطني راسخ، لا أظنّ أننا سنشعر بالأمان، نحن الذين ولدنا في الحرب على هدير تلك البوسطة، سنلد أطفالنا في الحرب أيضاً. الخوف من الموت أقسى من الموت نفسه.
"بوسطة" الموت التي هدرت ذات يوم لم يخفت صوتها بعد في أرواحنا وذاكرتنا المتشظّية. لكنّ أغنية زياد الرحباني بصوت جوزف صقر وصوت فيروز لا تزال تصدح، تريد أن تطغى ايقاعاتها المبتهجة على البكاء. الأغنية نفسها مضت معنا في الرحلة، كانت راكباً رائق المزاج، ولم تدفع الأجرة مثل ركاب حملايا وتنورين. حلمت معنا أن تنقذ ركّاب البوسطة من السقوط في الهوّة، فإن فشل الحلم يكفي أنّ للأغنية أجنحة ستنقذها.