يُقدِّم التونسي لطفي عاشور، في أول روائيّ طويل له بعنوان "غدوة حيّ" (2016)، لوحات إنسانية بحتة، تنبثق من ألم الخيبات، ومَوَاجع الانكسارات، ورغبات الانتصار لحقٍّ فرديّ في العيش (على الأقلّ). وهذه متأتية من "انقلاب الأقدار"، إنْ يصحّ وصفٌ كهذا لحدثٍ، يُشكِّل مُفتتح "ثورات" شعبية عفوية وسلمية، في مدنٍ عربية خاضعة للقمع والتعذيب والتغييب، قبل أن تنكسر تلك العفوية وذاك الحسّ السلميّ في حراك الناس، لأن وحوش السلطات تستخدم العنف والقتل والتهجير ضد شعوبها.
يرتكز "غدوة حيّ" على مرحلة لاحقة للتبدّلات الحاصلة بعد "ثورة الياسمين" (17 ديسمبر/كانون الأول 2010 ـ 14 يناير/كانون الثاني 2011) في تونس، لكنه يعود إلى يومها الأخير (تنحّي الرئيس السابق زين العابدين بن علي عن الحكم)، كي يكشف اللحظة الدرامية المؤدّية إلى متاهاتٍ مختلفة، تغرق فيها 3 شخصيات أساسية، تلتقي في اليوم الأخير هذا، وتحاول أن تنجو، لاحقاً، من تداعياته العنيفة، في النفس والروح والذات. وإذْ يصنع النصّ حكايات شخصياته من حالات نابعةٍ من أحوال ما قبل الثورة، وأثناء غليانها، وبعد انتهائها؛ فإن المصائر تؤكّد معاني الخيبة والتمزّق، والعجز عن مُصالحة حقيقية مع الذات إزاء خراب المشهد، في مقابل دعوة مبطّنة إلى أولوية التكاتف في مواجهة الطغيان.
والشخصيات الـ3 تعيش، منذ لحظة لقائها في اليوم الأخير ذاك، حالاتٍ إنسانية ونفسية واجتماعية مختلفة. ففي مقابل علاقة الصداقة الناشئة بين زينب (أنيسة داود، المُشاركة في كتابة الفيلم مع عاشور وناتاشا دو بونتشارّا) وعليسه (درية عاشور)، الفرنسية من جهة والدتها؛ يظهر حسين (أشرف بن يوسف) في المشهد، ليلة "الانتصار المؤقّت" للحراك المدني العفوي، كي تكتمل تلك الثلاثية الشابّة (مع اختلافٍ في الأعمار الشبابية بينهم) في معاينتها تفاصيل جانبية، تُشكِّل مدخلاً إلى عالمٍ يُراد له التغييب المطلق. وفي مقابل تحوّل حسين إلى حالةٍ مفتوحة على عنف السلطة، (الجماعي أو الفردي)، فإن الصديقتين تعانيان أهوال مشاهداتٍ وانفعالاتٍ وعيشٍ، تطغى تأثيراتها عليهما، قبل أن يغتسلا، معاً، في رحلة أخيرة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، لكن الخراب أقوى، والموت أحدّ وأعنف.
حسين، الذي يتعرّض ـ في تلك الليلة الأخيرة، بُعيد لحظات من فرحٍ غير مكتمل بانتصار غير كامل على الطغيان ـ لاعتداء جسدي من ضابط أمن، يعاني ألماً شديداً يدفعه إلى اختفاءٍ وابتعادٍ دائمين عن واجهة المشهد. والصديقتان، زينب (صحافية) وعليسه (مُدرِّسة رسم)، تساعدانه على خلاصٍ مؤقّت من براثن الوحش الأمني، لكنهما تفشلان في إخراجه من تمزّق قاتل، تكشف رحلتهما الأخيرة تأثيرات هذا التمزّق عليه، ونتائجه. أما زينب، فتلتقي ـ بعد 3 أعوام على تلك الليلة الأخيرة ـ حبيباً، تكتشف لاحقاً أن والده هو "الوحش الأمني" نفسه، المُصاب حالياً بعجز جسدي يحول دون قدرته على البطش والعنف والتسلّط. فتكون المواجهة بينهما أقرب إلى تصفية حسابٍ، تصطدم زينب خلاله بصمتٍ مطبق للوحش المكبَّل بعجزه، والمرتاح إلى ابتسامته الملتبسة. في حين أن عليسه ـ التي تتواجه بحدّة مع صديقتها، قبل أن تُعيدان ترميم شيء كبير من خلل الارتباك الحاصل بينهما ـ تقع في مخاطر الانغلاق والقلق، وترى في الهجرة إلى بلد والدتها خلاصاً، لكنها تُكمل عيشاً ترتضيه، بين أولادٍ صمّ وبكم، تُلقّنهم تقنيات الرسم.
تلقين تقنيات الرسم مدخلٌ إلى استعادة تلك الحكايات كلّها، إذْ تكتشف عليسه، صدفةً، أن صبياً يملك رسماً لأفعى، تُعيدها (الأفعى) إلى لحظة اللقاء ذاك، في الليلة الأخيرة. بينما يُفتَتح الفيلم بممارسة زينب السباحة في مسبح مغلق، في ترتيب بصري متماسك في سرده الصامت معاني تلك الرغبة الدفينة في خلاصٍ مطلوبٍ، في أعماق مياهٍ مفتوحة على منافذ معلّقة، وتفلّت مقيَّد.
كما يتّضح من البناء السرديّ للحبكة الدرامية، فإن "غدوة حيّ" ـ افتتح الدورة الأولى (17 ـ 22 يناير/كانون الثاني 2018) لـ "مهرجان جونية السينمائيّ الدوليّ" (لبنان) ـ لن يتناول "ثورة الياسمين التونسية"، بقدر ما ينطلق من لحظتها الأخيرة، التي تمزج فرحاً (يظهر أنه مؤقّت وعابر) بإزالة طغيانٍ متحكّم في البلد وناسه، ببداية قهرٍ لن يختلف كثيراً عن ذاك المُمارَس سابقاً. وهو (الفيلم) يجعل تلك الليلة ولاّدة أوقاتٍ وحالاتٍ وانفعالاتٍ متضاربة ومتصادمة، ويروي ـ تحديداً ـ تأثيرات تلك الثورة (المُعلَّقة أو المغدورة أو التائهة) على شبابٍ ينتمون إلى بيئة شعبية، تختلف مستوياتها وأهوائها وهواجسها، وتلتقي كلّها عند رغبة الانعتاق من موتٍ مستمر. كما أنه اختزالٌ بصريّ لما يصفه البعض بـ "بحث عن الآخر المختفي" (رحلة زينب وعليسه بحثاً عن حسين)، و"سعي إلى اكتشاف الذات"، في آن واحد.
في هذا كلّه، يؤكّد "غدوة حي" ـ ببساطة سردية، وسلاسة متتالياته البصرية ـ ما هو مؤكّد: القسوة فاعلةٌ قبل الثورة وبعدها، والرغبة في تنقية الشوائب تواجه ارتباك الحالة اللاحقة لهذه الثورة.