والآن، بصرف النظر، مؤقتا، عن المآلات التي بلغتها حركة "فتح"، عموما، والمصير الذي يحمل دلالات الانكفاء والتراجع على غير صعيد، تنظيميّا وإداريّا، سياسيّا وعسكريا، فإن كثيرين ما يزالون يراهنون ويعتقدون بإمكانيّة "عودة الروح" إلى هذه الحركة التي "ملأت الدنيا وشغلت الناس"، حسب اعتقادي، طوال ما يزيد على نصف قرن، منذ انظلاقتها الرسمية والتفجيريّة بالطلقة الأولى في مطلع عام 1965، حتى هذه اللحظة التي تبدو فيها على قدر كبير من التشظّي والترهّل البالغين حدود التلاشي والانهيار.
هؤلاء الذين يراهنون على إمكانيّة استعادة "الحركة" مكانتها ودورها في إطار حركة التحرير الفلسطينية، بفصائلها ومكوّناتها، يعتقدون أنه "ما زال ثمة مشروعية فلسطينية لحركة سياسية كالتي مثلتها (فتح)، في بداياتها، بعد الاستفادة من عِبر ودروس التجربة الماضية". وهم مع ذلك يفترضون أن هذه "المشروعية" ينبغي ألّا تُفهم أنها بلا ضابط أو حدود، أي "كارت على بياض"، بل ينبغي أن تكون مشروعيّة "مشروطة باستنهاض هذه الحركة لأوضاعها، وتغليب طابعها كحركة تحرّر وطني على طابعها كسلطة، وتجديد أفكارها السياسية وبناها وعلاقاتها الداخلية وأشكال عملها".
من هذه الخُلاصة، بين خلاصات كتاب "فتح 50 عاماً: قراءة نقدية في مآلات حركة وطنية"، نبدأ قراءة تجربة هذه الحركة، بما لها وما عليها، وعبر تجربة نقديّة يخوضها الباحث المناضل، ماجد كيّالي، على مستويين، وبالاعتماد على مصدرين، الأول هو المتمثل في تجربته الشخصية التي تكاد لا تظهر في مادّة الكتاب، والثاني هو الوثائق التي تُعنى بتوثيق تفاصيل تجربة "الحركة"، من بيانات ووثائق مؤتمرات ودراسات وغير ذلك. وهو في كلا الحالَين توخّى قدرا عاليا من الموضوعية والحذر.
إنجازات وإخفاقات
يأتي هذا الكتاب النقديّ ثمرة تجربة تكاد تكون فريدة، في ظل ما يشبه الغياب والافتقار إلى أي نقد حقيقيّ معمّق لحركة "فتح" خصوصا، ولتجربة الكفاح التي خاضها الشعب الفلسطينيّ عموما، عبر تنظيمات وفصائل وأحزاب ذات اتجاهات متعدّدة، على مدى عقود من الزمن. ويكتسب كتاب كيّالي هذا أهميّته، في هذه المرحلة تحديدا، من إمساكه بالمفاصل الأساسية، زمنيّا ومكانيّا، التي شكّلت الهيكل العام للحركة، فضلا عن التفاصيل التي حكمت هذه التجربة، بإيجابيّاتها وسلبيّاتها. ونحاول هنا تسليط الضوء على ملامح من هذا النقد الذي يعتبر، بحسب علمنا، الأول في شموليّته وموضوعيّته، حيث جرت العادة أن يكون "النقد" إما قدْحا في سلبيّات الحركة، أو مديحا لها وعرضا لمنجزاتها.
ومنذ مقدّمة الكتاب، يظهر الملمح الأول لنقد "فتح" في كونها من جهة "أسّست للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وأطلقت الكفاح المسلح، وقادت مسيرة النضال الفلسطيني، بما لها وما عليها، طوال نصف قرن"، لكنها من جهة مقابلة، وصلت لتعيش "في مواجهة أزمة كبيرة في البنية والسياسة والقيادة"، أي أن أزمتها بنيوية وعضوية ومن داخلها، وليست بسبب عوامل خارجية فقط. وتبرز هذه الأزمة في "إخفاق الخيارات التي تم انتهاجها طوال مسيرتها"، إخفاقات على غير صعيد، أبرزها، بحسب كيّالي دائما، "أفول خيار المقاومة المسلحة، وإخفاق حل الدولتين، وانسداد أفق التسوية والمفاوضة، والتحوّل إلى مجرد سلطة، مع ترهل بناها التنظيمية، وتهميش منظمة التحرير الفلسطينية، وانحسار موقعها في القيادة..".
ولعلّ أبرز ما يأخذه كيّالي على الحركة، والمآخذ كثيرة، هو "استمرارية الطبقة القيادية المسيطرة فيها"، و"محافظتها على إطاراتها، وتقاليد عملها، وشعاراتها العامة، على الرغم من كل المتغيرات التي حصلت على صعيد خياراتها السياسية". أما التحوّلات الأساسية التي أصابتها، وهي كثيرة وعميقة وجذرية أيضا، فمن أبرزها "تحولها من العمل لتحرير فلسطين إلى العمل لإقامة دولة على جزء من تراب فلسطين، وتحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، ومن الكفاح المسلح إلى المفاوضة، ومن حركة تعمل في الخارج إلى حركة بات مركز ثقلها في الداخل، في إطار جزء من شعبها".
من الخلاصات
وفي خلاصات كتابه هذا، يرى كيالي أنه يجدر البدء بالتذكير بما حقّقته "فتح" من إنجازات كبيرة للشعب الفلسطيني، على المستوى الوطني، إذ إنها، وأكثر من غيرها من فصائل العمل الوطني، هي التي استعادت الشعب الفلسطيني من حال الغيبوبة والغياب التي عانى منها على مدى عقدين، ما بين النكبة وانطلاق الثورة، وهي "التي وضعته على خريطة العالم، وعملت على استنهاضه وتوحيده، وصاغت هويته الوطنية، وأسست كيانيته السياسية". أما أهمية نقد "فتح" فتتمثل في كونها هي الحركة التي تحدد الخيارات السياسية للفلسطينيين، منذ نصف قرن، وتهيمن على المؤسسات الكيانية للفلسطينيين (المنظمة والسلطة والاتحادات الشعبية)، ولأنّ سياسات "الحركة" لا تخصّها وحدها، بل تؤثر على مجمل الساحة الفلسطينية و"حياتها" النضاليّة.
بهذا المعنى، وعائدا إلى التجربة من بداياتها، يعتقد كيّالي أن "مسيرة فتح" كانت صعبة ومعقّدة، إذ إنها واجهت تعقيدات ومداخلات وتحديات كبيرة، ووجدت نفسها في احتكاك مع النظام العربي لاستيعابها، أو لتعزيز تماثلها معه، كما واجهت محاولات إضعافها وإنهاء نشاطها بالقوة. ولعل أولى تلك المحاولات تجسّدت في صدامات سبتمبر/أيلول 1970 في الأردن، والتي نجم عنها خروج فصائل المقاومة منه، وحرمانها من العمل في أكبر ساحة جماهيرية لها. كما تمثل ذلك، في ما بعد، في التحول من هدف التحرير (تحرير فلسطين)، إلى هدف الدولة في الضفة والقطاع)، للتماثل مع الشرعيتين العربية والدولية، وللتعويض عن موازين القوى إزاء اسرائيل، بجلب التعاطف الدولي".
ومن بين أمور كثيرة يطلبها كيّالي لمراجعة "مسيرة الحركة"، فهو يطالبها بـ "طرح الأسئلة المناسبة، بخصوص أين كنا وأين أصبحنا؟"، ويتساءل عن سبب عدم نجاح حركة التحرر الفلسطينية في المهام التي أخذتها على عاتقها، طوال نصف قرن، و"لم تستطع حتى الحفاظ على الإنجازات التي حققتها في مرحلة ما، رغم ان الفلسطينيين لم يقصّروا في بذل التضحيات واجتراح البطولات في ظروف صعبة ومعقدة؟"، ويجيب على تساؤله بأن السبب يكمن في كون المراجعة النقدية للمسيرة سوف "تؤدي إلى تحديد المسؤوليات، كما تفترض- بداهةً- حالة سياسية تتأسّس على الديمقراطية والتداول والتمثيل، وهو ما تفتقده الحركات الفلسطينية".
ولما كان محور "مؤتمرات" الحركة من بين الانتقادات الأساسية الموجّهة إلى "فتح"، حيث لم تعقد طوال مسيرتها سوى ستة مؤتمرات، وتستعدّ لعقد السابع، فإن كيّالي، وفي ما يشبه نصيحة يسديها إلى المؤتمر القادم (السابع) للحركة، الذي سيعقد "قريبا"، يتحدث عمّا يعتبره "في الحقيقة الوظيفة الملحّة أو المفترضة" لهذا المؤتمر. ويقصد هنا أنه لا بد من "امتلاك طرح رؤى وطرق عمل جديدة، ومغايرة، عن السابقة، فهذا أقل ما يمكن عمله للخروج من حال التدهور، واستنهاض وضع هذه الحركة".
فتح في الساحة الأردنية
لأسباب تتعلق بطبيعة بحثه في "الحركة ككلّ"، لم يخصص كيّالي ما يكفي من البحث في الشؤون الفتحويّة في "الساحة الأردنية"، لذا أتوقف، أوّلا، مع ما عُرف بـ "التيار الديمقراطي"، اليساري، في داخل فتح التي كانت تضمّ تيّارات من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار بتفرّعاته المختلفة، فـ "بسبب طبيعة حركة (فتح)، كحركة وطنية تعددية، ومرونة بنيتها التنظيمية، فقد كان من الطبيعي أن تنشأ فيها عديد من التيارات، قومية ويسارية وإسلامية". لذا وجدنا الإسلاميّين (بل الإخوان المسلمين داخل الحركة)، كما وجدنا صورا من اليسار الماركسي إلى القومي.
هكذا نشأ "تيار يميل في أفكاره إلى اليسار، وإلى التصورات التي تربط بين الكفاح الوطني والكفاح الطبقي"، وكان هذا "اليسار" يتفرّع في ثلاثة خطوط أطلق عليها المراقبون "الخط السوفييتي" ومن رموزه أبو صالح، والخط الماوي ممثلا في منير شفيق، والخط الفيتنامي وكان يمثله حنا ميخائيل (أبو عمر). وكان التيّار يضمّ رموزا من المثقفين والقادة العسكريين، كان من بينهم الكاتبان ماجد أبو شرار ويحيى يخلف، والمنظّر لهذا التيّار سميح أبو كويك، وسواهم.
وفي ما يخص الساحة الأردنية، يعنيني خصوصا التحرك يوم التاسع من أيار/مايو 1983، ضمن تحرّك "الانتفاضة" الشهيرة ضدّ عرفات في مختلف الساحات، تلك الانتفاضة التي قادها مكتب شؤون الأردن، بالتعاون مع عدد من القيادات العسكرية في "فتح"، واندلعت على أثرها معارك دامية بين قوات "فتح" التابعة لعرفات، وبين "المنتفضين"، أو من جرت تسميتهم بـ "الانشقاقيّين"، بل إنه تم تصنيفهم لاحقا ضمن المتعاونين بل المنضوين ضمن الاستخبارات السورية.
وضمن الظروف التي أصابت بنية "الحركة" كلّها بالتراجع والترهّل، تعرّض التنظيم التابع لفتح في الساحة الأردنية إلى هزّات واختراقات أفضت إلى نهايات كارثيّة. ففي يوم التاسع من أيار/مايو 1983 جرى اعتقال قياداته وكوادره الأساسية خلال ساعات، وحدث انهيار شامل واعترافات خطيرة تدعو إلى التشكيك والاشتباه في حقيقة انتماء عدد من "الرؤوس" فيه، وانفرط عقد التنظيم نهائيّا، إلى أن أعيد في مرحلة لاحقة، منتصف الثمانينيات، تشكيل تنظيم بديل، لم يلبث أن تفكّك، هذا الأخير، وانتهى بلا أيّة فاعلية، وسط بحر من الخلافات بين كوادره، خصوصا منذ عودة ما عرف في الأردن بـ"الحياة الديمقراطية"، من خلال عودة الحياة البرلمانية. وهذه تجربة تحتاج أيضا إلى رصد وتوثيق ونقد، لما تمثّله من مسيرة في نضال "أبناء فتح" على الساحة الأردنية.(كاتب وشاعر من الأردن)