وجاء في نص التقرير: "ضربت عاصفتان كاملتان العالم العربي في العقد الماضي. عام 2011، في ما كان يسمى في بادئ الأمر الربيع العربي.. أدت الانتفاضات الشعبية إلى تمكّن الحكام المستبدين في جميع أنحاء المنطقة.. تراجعت الآمال إلى درجة أن حركات الاحتجاج السلمية هذه، التي انطلقت من أجل عصر جديد من الديمقراطية في الشرق الأوسط - باستثناء تونس - انتهى بها المطاف إما إلى اضطرابات وإما إلى حروب أهلية مميتة.
عام 2014، تعرَّض قادة المنطقة لضربة أخرى عندما هبط سعر النفط، ما هدد الدعامة الأساسية للحكم التي استندت إليها قوتهم. ومنذ ذلك الحين، جعلت أسعار النفط المنخفضة من الصعب على الأنظمة تمويل الميزانيات المتضخمة، وشراء النخب، وإجراء إصلاحات طويلة الأجل.. هذا ليس انحرافاً مؤقتاً، فمن غير المرجح أن يرتفع سعر النفط مرة أخرى إلى مستوياته قبل عام 2014.
على السطح، يبدو أن العديد من الدول العربية قد نجت على الرغم من هزّاتها.. لكن هناك المزيد من الاضطراب في المستقبل.
كانت الصدمات التي وقعت عامي 2011 و2014 مجرد الأعراض الأولى للتحول الأكثر عمقاً في المنطقة: فالصفقة الأساسية التي عززت الاستقرار في دول الشرق الأوسط تتراجع، وما لم يتحرك القادة الإقليميون العرب بسرعة لإبرام عقود جديدة مع مواطنيهم، فالعواصف ستأتي.
منذ أكثر من نصف قرن، استخدمت حكومات الشرق الأوسط الثروة النفطية لتمويل نظام للرعاية الاقتصادية.. تحصل هذه الحكومات على جزء كبير من عائداتها من بيع الموارد الوطنية أو المساومة للحصول على دعم أجنبي. في بعض البلدان، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، جاءت الإيرادات من بيع الموارد النفطية المحلية، وفي بلدان أخرى مثل مصر والأردن، جاءت في شكل تحويلات من رعاة المنطقة أصحاب الثروة النفطية.
في جميع أنحاء الشرق الأوسط، استخدمت الحكومات موارد النفط لتمويل وظائف مستقرة، والتعليم، والرعاية الصحية. وفي المقابل حصل القادة على "الخضوع السياسي". ولكن مع استمرار انخفاض أسعار النفط وتحوُّل التركيبة السكانية للمنطقة، بدأت هذه المقايضة الأساسية تبدو غير مستدامة. وبدون العوائد اللازمة لمواصلة تغذية الأنظمة المتضخمة غير الكفوءة، فإن الحكومات تكافح من أجل وقف نهايتها.. ومصدرها الرئيس للشرعية السياسية يتدحرج بعيداً.
إذا استسلموا لهذه الثروات المتغيرة، وشددوا قبضتهم على السلطة، وفشلوا في تنفيذ إصلاحات ذات مغزى، فإن حكومات الشرق الأوسط تخاطر بإطلاق العنان للاضطرابات الاجتماعية على نطاق أبعد من أي شيء رأوه من قبل. الطريقة الوحيدة للتعامل مع مثل هذا الاضطراب تتطلب إصلاحات اقتصادية وسياسية تخلق عقداً اجتماعياً جديداً في الشرق الأوسط، يتم التفاوض عليه من الأسفل إلى الأعلى. دون أن يتكئ على النموذج الريعي، ويجب على الحكومات بناء اقتصادات منتجة تستند إلى الجدارة لا الولاء، ويهيمن عليها القطاع الخاص بدلاً من الدولة. لن تنجح التعديلات الاقتصادية من دون تغييرات سياسية جدية. إذا تبنّت حكومات الشرق الأوسط الإصلاحات الاقتصادية بالاقتران مع المزيد من المساءلة والمشاركة السياسية، فقد تكون لديها فرصة في الاستقرار على المدى الطويل. إذا لم يفعلوا ذلك، فإن العاصفة الكبرى القادمة ستصل قريباً.
عادة ما يتم فرْض العقود الاجتماعية الملزِمة لحكومات الشرق الأوسط ومواطنيها من الأعلى إلى الأسفل. هذه المساومات الاستبدادية، التي يؤمن بها الحكام الذين يستمدون الشرعية والدعم من خلال الإنفاق العام بدلاً من العمليات السياسية التشاركية، كانت مبنية على نظام ريعي يستخدم الثروة النفطية؛ فكانت الحكومات توفر الرعاية الاقتصادية، والوظائف، والرعاية الصحية الأساسية والتعليم.
استخدمت الدول المنتجة للنفط (الجزائر، البحرين، إيران، العراق، الكويت، ليبيا، عمان، قطر، المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة) إيراداتها من بيع نفطها الخاص. واعتمدت الدول المستوردة للنفط (مصر، الأردن، المغرب، وتونس) على منح كبيرة من جيرانها المنتجين للنفط وتحويلات مواطنيها العاملين بالخارج في صناعة النفط.
دعمت دول الخليج الدول المستوردة للنفط، وخاصة مصر والأردن، لأسباب سياسية (ضمان أن مواقف هذه الدول تتماشى إلى حد كبير مع مواقفها)، واقتصادية (قدمت مصر والأردن عمالة رخيصة ومتعلمة).
بحلول مطلع القرن، مثّلت المنح والتحويلات في المتوسط أكثر من عشرة بالمئة من إجمالي الناتج المحلي لمصر والأردن.
اتخذت عملية الاعتماد على "الريع" أشكالاً مختلفة في دول مختلفة، ولكن بطريقة أو بأخرى، سمحت عائدات النفط منذ فترة طويلة للعديد من دول الشرق الأوسط المستوردة للنفط أن تعيش خارج نطاق إمكاناتها.
وفي مقابل رعايتها، توقّعت هذه الدول أن يترك المواطنون الحكم إلى نخبة صغيرة، التي أصبحت بمرور الوقت أكثر عزلة عن عامّة السكان. في هذه الأثناء، ساعدت عائدات النفط الأنظمة في دعم نفسها بالأوساط السياسية والاقتصادية والبيروقراطية التي تم ضمان ولائها، التي كانت مصالحها مرتبطة بمصالح الأولى.
كلما زادت الوظائف والإعانات التي يمكن أن تقدمها الحكومات، كان ذلك أفضل. ولكن بدلاً من خلق وظائف من خلال أنظمة إنتاجية تستند إلى الجدارة وقادتها القطاع الخاص، وجدوا أن توفير وظائف في القطاع العام، سواء كانت مفيدة أو غير مفيدة، هو أفضل وسيلة لضمان الولاء وتخميد المطالب بالمساءلة. كانت نسبة وظائف القطاع العام إلى وظائف القطاع الخاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأعلى في العالم.
كانت العقود الاجتماعية القائمة على "الريع" فعّالة طوال النصف الثاني من القرن العشرين - أي طوال اعتبار المواطنين أن الخدمات المقدمة في مقابل موافقتهم مرضية على الأقل. لكن في التسعينيات، بدأت الظروف التي تحتاج إليها تلك العقود لمنع نهايتها تختفي.
ومع نموّ الحكومات، احتاجوا إلى بقاء أسعار النفط مرتفعة من أجل تمويل البيروقراطيات المتزايدة وحاجات النخب. امتدت الدول بشكل يفوق إمكاناتها. ففي الأردن، على سبيل المثال، استخدمت الحكومة والجيش نسبة هائلة بلغت 42 في المئة من القوة العاملة في السنوات الأولى من هذا القرن. وبلغت فاتورة دعم الطاقة المقدمة من الحكومة للمواطنين 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، و10 في المئة في المملكة العربية السعودية، و9 في المئة في ليبيا، و8 في المئة ونصف في البحرين والإمارات العربية المتحدة، و8 في المئة في الكويت.
وبمجرد أن بدأ حجم البيروقراطيات في هذه الدول يفوق ارتفاع أسعار النفط في مطلع القرن، كان لا بد من تقديم شيء ما. لم تعد الحكومات قادرة على تحمُّل تكاليف توظيف المزيد من الأشخاص أو دفع إعانات مالية على السلع مثل الخبز والبنزين.
بلغت معدلات البطالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 11 في المئة في المتوسط عام 2000. بين الشباب، كان المتوسط 30 في المئة. وبينما كانت تناضل الحكومات من أجل الحفاظ على الدول المتضخمة، بدأت جودة الخدمات الصحية والتعليمية في الانخفاض. ولكن بدلاً من إتاحة الفرصة لمزيد من التمثيل السياسي للمواطنين للمساعدة في تخفيف الضربة، واصلت الحكومات الإصرار على أن المواطنين يؤيدونها في الصفقة الاستبدادية - بالامتناع عن المطالبة بنفوذ أكبر.
الصدمة
حاولت العديد من حكومات الشرق الأوسط معالجة مشكلة تشوّه العقد الاجتماعي القديم، من خلال إدخال إصلاحات اقتصادية دون مرافقة ذلك بتغييرات سياسية.
وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات كانت تهدف بشكل كبير إلى مساعدة الأنظمة في الحفاظ على قبضتها على السلطة، إلا أن بعضها، إذا تم تنفيذه بشكل جيد، كان يمكن أن يفيد المواطنين أيضاً. ولكن من دون أنظمة الضوابط والتوازنات اللازمة للإشراف على التحولات الاقتصادية. حتى الجهود التي تم تصميمها بشكل جيد - خصخصة الصناعات التي تديرها الدولة، وتحرير أنظمة التجارة، والاندماج في الاقتصاد العالمي - انتهى بها الأمر إلى فائدة النخب بدلاً من القطاع الأوسع من السكان.
من دون هيئات مراقبة مناسبة، ازداد الفساد بشكل كبير. ربطت معظم شعوب الشرق الأوسط، الإصلاحات الاقتصادية في بداية هذا القرن بإثراء النخبة بدلاً من تحسين أوضاعها. تدهور ترتيب العديد من دول الشرق الأوسط في مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية الدولية بشكل كبير. وتراجع الأردن من المرتبة 43 (من 133 دولة) عام 2003 إلى 50 (من أصل 178) عام 2010. وخلال الفترة نفسها، تراجع ترتيب مصر من 70 إلى 98، وتونس من 39 إلى 59.
في بعض الحالات، كان كسر العقد الاجتماعي القديم أكبر مما ينبغي على المجتمعات أن تتحمله. وعلى الرغم من أنه لم يكن بأي حال من الأحوال العامل الوحيد الذي أدى إلى الانتفاضات العربية عام 2011، إلا أنه أسهم في انهيار العديد من الأنظمة، ولا سيما في البلدان التي كانت المؤسسات فيها ضعيفة بالفعل. وكان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، والرئيس المصري حسني مبارك، أول من سقطوا.
في ليبيا وسورية واليمن، حيث لم تكن الأنظمة أبداً مهتمة ببناء مؤسسات راسخة، احتج الشارع على تلك الدول الضعيفة وأدى ذلك إلى انهيار النظام القائم، وفي نهاية المطاف "الحرب الأهلية".
في البحرين، أفسحت التظاهرات المناهضة للحكومة في المجال للتمرد المتدني المستمر، الذي أثار غضب النظام الملكي لكنه لم يهدده بجدية. وواجهت الملكيات في الأردن والمغرب احتجاجات متواصلة، لكنها نجت من الاضطرابات نسبياً وخرجت سالمة.
في دول الخليج، كان لدى الأنظمة حل في متناول اليد، على المدى القصير على الأقل: قُم بـ"رش" الأموال في وجه المشكلة من أجل تهدئة الرأي العام. فوعد العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، بتقديم حزمة مساعدات بقيمة 130 مليار دولار تشمل رواتب أعلى ومزيداً من المنح الإسكانية للمواطنين السعوديين.
وقدمت حكومات أخرى في الخليج عروضاً مماثلة، وكلها أصبحت ممكنة بفضل ارتفاع أسعار النفط. ففي فبراير/ شباط 2011، منحت الحكومة الكويتية لكل مواطن 1000 دينار كويتي (نحو 3560 دولاراً) وأطعمة أساسية مجّانية لأكثر من عام.
في عمان، موّلت الحكومة 30 ألف وظيفة إضافية، و40 بالمئة من المنح الجامعية.
في الأردن، رد الملك عبد الله على الاحتجاجات من خلال إدخال تدابير الإصلاح التي أسهمت بشكل مؤقت في درْء الاستياء. وساعدت حزمة مساعدات بقيمة خمسة مليارات دولار جمعت بين مختلف دول الخليج البلاد على تحمّل الضغط من الشارع. ولكن حتى هذا لم يكف لقمع المعارضة، حتى ضربت العاصفة من جديد عام 2014.
كان ينبغي أن تكون انتفاضات عام 2011 قد علّمت حكومات الشرق الأوسط، أن الاهتمام الجاد بالحوكمة - لا فقط الإصلاحات الاقتصادية - كان قد فات موعده منذ وقت طويل. ولكن بمجرد أن انحسر الضغط الأوّلي، عادت الحكومات الباقية إلى عاداتها القديمة على الفور. لقد عززوا دورهم في العودة إلى الاستبداد، الذي تسبب في العنف والمعاناة الإنسانية الهائلة التي تظهر في ليبيا وسورية واليمن، وتلك التي ظهرت مع صعود الإسلاميين في مصر، الأمر الذي أدى إلى عدم تشجع المواطنين في أماكن أخرى على مواصلة مواجهات أخرى مع الدولة.
ثم جاءت الصدمة التالية. في أغسطس/ آب 2014، انخفض سعر النفط، الذي وصل إلى أكثر من 140 دولاراً للبرميل عام 2008، إلى أقل من 100 دولار للبرميل. ووصل إلى مستوى منخفض بلغ 30 دولاراً للبرميل عام 2016 قبل أن يرتد إلى نحو 70 دولاراً للبرميل، حيث لا يزال إلى اليوم.
بالنسبة للمملكة العربية السعودية، التي تحتاج إلى أن يبقى سعر النفط فوق مستوى 85 - 87 دولاراً للبرميل للحفاظ على ميزانية متوازنة، ولتمويل المساعدات "السخية" لحكومات إقليمية أخرى، فإن هذا الانخفاض يعني أن الحكومة اضطرت إلى تغيير عاداتها في الإنفاق بشكل كبير لتجنب الضياع. كما اضطرت دول أخرى "تقدم المنح"، مثل الكويت والإمارات العربية المتحدة، إلى تقليص مساعداتها الإقليمية. في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لم يعد بوسع منتجي النفط تحمل تكاليف العمل كدول رفاهية، ولم يعد بإمكان الدول المستوردة للنفط الاعتماد على المنح التي تمنحها الدول المنتجة للنفط، أو التحويلات المالية من مواطنيها العاملين في تلك الدول لتمويل أنظمة رعاية.
أدت نهاية عصر ارتفاع أسعار النفط إلى موجة جديدة من الاحتجاجات. عام 2018، تصاعدت مطالب التغيير في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك كبار الدعاة والنساء والنشطاء السياسيون، وشهد الأردن الاحتجاجات في الشوارع لأول مرة منذ الربيع العربي.
يوضح هذان البلدان بشكل خاص تداعيات نهاية أنظمة "الريع" في المنطقة. الأول المملكة العربية السعودية، هو مثال على بلد منتِج للنفط لم يعد بإمكانه أن يعمل كدولة رفاهية. والثاني الأردن، مثال على بلد مستورد للنفط لم يعد يعتمد على أموال النفط من الخارج لتغذية نظام اقتصادي وسياسي غير فعال.
تغيير الدورة
في المملكة العربية السعودية، تزامنت نهاية أسعار النفط المرتفعة مع تمرير السلطة إلى جيل جديد من القادة، أبرزهم ولي العهد محمد بن سلمان، المعروف أيضاً باسم MBS. وكان اقتصاد المملكة جيداً قبل ظهور MBS، الذي هو في أوائل الثلاثينيات من عمره، وبداية من عام 2015، كان العجز الكبير يعني أن المملكة العربية السعودية لم تعد قادرة على تحمل دعمها الداخلي والخارجي السخي.
عام 2017، بلغ عجز الميزانية 61 مليار دولار، أو 9.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتتوقع البلاد أن تعاني عجزاً حتى عام 2023 على الأقل. ونتيجة لذلك، خفضت الحكومة السعودية الدعم وسُمح لأسعار الخدمات بالارتفاع. وقد أدت تدخلات المملكة العربية السعودية الإقليمية في سورية واليمن وغيرهما إلى مزيد من التوتر في اقتصادها المتعثر، إذ يقدر أن الحرب اليمنية وحدها تكلف الحكومة السعودية ما بين 6 و7 مليارات دولار شهرياً.
لقد استجابت الحكومة السعودية لهذا الواقع الجديد بمجموعة ضعيفة من الإصلاحات، التي من غير المرجح أن تعالج التحديات بالكامل. وفي محاولة لتعزيز اقتصاد البلد الراكد، أعلنت الحكومة ميزانية توسعية جذرية لعام 2018، ولكنها لم تقدم أي معنى لكيفية تمويلها. أوقفت الحكومة السعودية مساعدتها التقليدية للأردن لمدة ثلاث سنوات، ولم تعد قادرة على دعم نظام عبد الفتاح السيسي في مصر بمبالغ تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات كل عام، وهو برنامج بدأه السعوديون بعدما أخرج السيسي الإسلاميين من المعادلة في مصر. كما شرعت في تنفيذ برنامج إصلاح اجتماعي مثير للإعجاب، بما في ذلك السماح للنساء بسوق السيارات، وإعادة فتح دور السينما، والحد من سلطات قوة الشرطة الإسلامية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، في ما قد تكون محاولة لاسترضاء الجيل الجديد وتحويل الانتباه عن مطالب الإصلاح السياسي.
أكسبت هذه الإصلاحات الاجتماعية شعبية لـMBS بين الشباب السعودي. إلا أن بطالة الشباب في المملكة لا تزال مذهلة: فقد بلغت 35 في المئة تقريباً عام 2017.
هل سيقبل الجيل الجديد التقشف وفقدان الامتيازات والإعانات دون أن يكون لهم صوت أكثر في إدارة بلدهم في مقابل ذلك؟ إذا كانت ثورات 2011 تقدم أي دليل، فمن المرجح أن تكون الإجابة. ويشير المثال الأردني، على وجه الخصوص، إلى أن استمرار التقشف الاقتصادي، مقترناً بأكثر من 30 بالمئة من بطالة الشباب، من المرجح أن يدفع بالجيل الجديد للمطالبة بصوت أكبر. هذه المطالب قد تشمل حتى الدعوة إلى تشكيل برلمان منتخب، سيكون الأول في تاريخ السعودية.
المملكة العربية السعودية ليست الدولة الخليجية الوحيدة التي تواجه التحدي المتمثل في انخفاض أسعار النفط. واجهت الكويت، التي لديها بالفعل برلمان منتخب، انخفاضاً في عائداتها النفطية بنحو 15 مليار دولار عام 2014 ومرة أخرى عام 2015. وكما هو الحال في الحالة السعودية، اعتمدت الكويت في بادئ الأمر على احتياطاتها المالية الضخمة (التي تقدر بأكثر من 600 مليار دولار). الآن هناك إدخال خفوضات على الدعم وخطة متوسطة الأجل للإصلاحات الاقتصادية التي ستبدأ توجيه الاقتصاد الكويتي بعيداً عن اعتمادها على النفط. وقد تفاعلت عمان بشكل مماثل مع انخفاض أسعار النفط: خفض الدعم، وخفض المنافع لعمال القطاع العام، وفرض ضرائب.
سلام محتمل
في الأردن، أدى تناقص الدعم المالي من البلدان المنتجة للنفط المجاورة، وانخفاض التحويلات المالية، إلى تحدي قدرة الحكومة على مواصلة تمويل نظام للرعاية الاقتصادية. وعلى الرغم من أن الأردن يحكمه نظام ملكي يقبله جزء كبير من المجتمع على أنه "شرعي"، إلا أن موجات الاحتجاج الأخيرة تشير إلى أن النظام أكثر ضعفاً مما يعتقده الكثيرون. وقد استجاب النظام الملكي تقليدياً لمطالب الإصلاح عن طريق تنفيذ تدابير مخصصة لتهدئة الرأي العام، ولكن لم ينتج عنها مشاركة حقيقية للسلطة مع السلطات (التشريعية والقضائية) للحكومة. ومن الأمور الأساسية لمثل هذه التدابير تقديم مساعدات مالية سخية من دول الخليج (والقوى الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة)، الأمر الذي سمح للحكومة الأردنية بالحفاظ على نظام سياسي واقتصادي غير فعال يعتمد على المحسوبية. لقد استخدمت الحكومة المال لمواصلة شراء دعم النخبة وتمويل البيروقراطية المتضخمة في نظام يعطي الأولوية للثقة على الجدارة.
في عامي 2011 و2012، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء الأردن استجابة للمظالم الاقتصادية والسياسية، لكنها تراجعت بعد قيام الملك عبد الله بسلسلة من الإصلاحات السياسية، مع عدم الاستقرار الإقليمي الذي وجه الانتباه إلى أماكن أخرى.
لكن تصرفات الملك عبد الله: إقالة رؤساء الوزراء، وإصلاح الدستور، واستبدال الحكومة ثلاث مرات خلال 18 شهراً؛ كانت إصلاحات سريعة تهدف إلى تهدئة المتظاهرين بدلاً من الإصلاحات الدائمة الجدية. بحلول عام 2016، كانت النخبة السياسية في الأردن واثقة من أنها تجاوزت الانتفاضات العربية دون أن تصاب بأذى، لأنها عدّلت الدستور لإعطاء الملك سلطات إضافية ولزيادة تعزيز قبضة السلطة التنفيذية على السلطة.
لكن الاستقرار الظاهر أخفى مشاكل أعمق. يقبع الأردن في قبضة أزمة اقتصادية تتطور ببطء، مدفوعة بالديون العامة المرتفعة، التي تصل الآن إلى 95 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي؛ نمو منخفض، هو الآن نحو اثنين في المئة، ونسبة بطالة عالية تبلغ الآن 18.5٪ بشكل عام. إن الانخفاض الحاد في الدعم المالي من الدول المنتجة للنفط، يعني أن البلاد لم تعد قادرة على الاعتماد على تلك المساعدات لإبقاء ديونها تحت السيطرة وتمويل العجز العام فيها. وضعت المملكة العربية السعودية، التي ترأس مبادرة خليجية قدمت للأردن ما قيمته 5 مليارات دولار بعد احتجاجات عام 2011، تجميداً لمدة ثلاثة أعوام على الدعم المالي للأخير ابتداءً من عام 2015. (بعد المزيد من الاحتجاجات الأخيرة، أعلنت الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من جديد حزمة مساعدات بقيمة 2.5 مليار دولار للأردن، معظمها على شكل ضمانات لدفع قروض البلاد، لكن بالكاد حلت محل المساعدات المفقودة).
الاستقرار الظاهري أخفى مشاكل أعمق
تعاملت الحكومات الأردنية المتعاقبة مع مثل هذه التحديات باعتبارها مشاكل فنية بحتة. ومع ذلك تصاعدت بين الجمهور، مطالب تتجاوز الحاجة إلى التغييرات الاقتصادية. في مايو/ أيار 2018، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء الأردن، ولا سيما في الأحياء الغنية في غرب عمان، بقيادة الطبقة الوسطى (الإسلاميون، الذين قادوا الاحتجاجات في عامي 2011 و2012، كانوا غائبين بشكل واضح). بالإضافة إلى الدعوة إلى سحب قانون ضريبة الدخل المثير للجدل، طالب المتظاهرون بحل البرلمان وتغيير الحكومة. من الواضح أن إصلاحات الملك عبد الله السريعة في عامي 2011 و 2012 فشلت في معالجة جذور الاضطرابات: فبدون الريع الضروري للحفاظ على تمويل نظام الرعاية، انهار العقد الاجتماعي في الأردن. ستتطلب الحلول الدائمة المتجسدة في مطالب المحتجين عقداً اجتماعياً جديداً، وليس إصلاحاً رمزياً.
لا تزال مصر تعاني الآثار الاقتصادية لثورتها، وانخفاض المساعدة الهائلة التي كانت تحصل عليها من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. عام 2016، بعد عامين من تراجع المساعدات الخليجية، حررت مصر سعر عملتها واضطرت إلى الاعتماد على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لمساعدتها في استعادة الاستقرار الاقتصادي.
الاستثناء الوحيد الملحوظ للحالة الراهنة في الشرق الأوسط هو تونس. بعد ثورتها في عام 2011، ربما لم تحلّ تونس قضاياها السياسية والاقتصادية والأمنية، لكن قادتها فهموا الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد. على مدى ثلاث سنوات صعبة، تفاوضت جمعية تأسيسية منتخبة ووافقت في النهاية على دستور جديد أيّد مبدأ التناوب السلمي للسلطة، وأعطى النساء حقوقهن الكاملة تقريباً، وأكد التزامهن بالحقوق الجماعية والفردية لجميع أجزاء المجتمع التونسي. تونس ليست بأي حال من الأحوال خارج المنطقة، لكنها حققت أرضية صلبة من أجل الاستقرار والازدهار في المستقبل.
عقد اجتماعي جديد
إذاً، ضاعت الرسالة القادمة من الشارع العربي إلى قادة المنطقة عام 2011، ويرجع ذلك جزئياً إلى فشل الاحتجاجات في إثارة جهود جادة لبناء مؤسسات جديدة (باستثناء تونس)، فإن نهاية عصر الاعتماد على "الريع" تعطي حكومات الشرق الأوسط فرصة أخرى. فرصة للاستماع إلى ذلك. يجب أن تكون الإصلاحات الاقتصادية مصحوبة بإصلاحات سياسية تعطي الناس رأياً مفيداً في إدارة بلادهم.
من المؤكد أن الانتقال إلى اقتصادات أكثر كفاءة سيكون بطيئاً وسيواجه كبْحاً كبيراً من القوى التي تستفيد من الوضع الراهن. لقد خلقت أنظمة "الريعية" منذ عقود، مصالح راسخة مع رغبة ضئيلة في الدخول في هياكل تستند إلى الجدارة التي قد تسلبها امتيازاتها.
ستكون هناك حاجة إلى إرادة سياسية في القمة، لوضع عمليات تدريجية وجدية وتشاركية يمكن للجمهور أن يؤمن بها. وسوف تواجه الإصلاحات الضرورية صعوبات مادية. سيقبل المواطنون في الشرق الأوسط تضحيات قصيرة الأجل باسم التغيير الذي طالت الحاجة إليه على المدى الطويل؛ ولكن فقط إذا تم تضمينهم في العملية وتوجيههم من خلال القيادة التي يمكنهم الوثوق بها.
يجب على حكومات الشرق الأوسط أن تبدأ هذه العملية، من خلال بذل المزيد من الجهود لتمكين النساء. ومشاركة المرأة في القوى العاملة في المنطقة هي الأدنى في العالم (32 في المئة، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 58 في المئة، وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي في عام 2009).
يجب على الحكومات أيضاً استغلال التكنولوجيا بشكل أفضل لرفع الإنتاجية وتوجيه جهودها نحو اقتصاد قائم على المعرفة. يجب عليها تنويع مصادرها من النفط بعيداً عن طريق تمكين القطاع الخاص، وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص. ويجب عليها تعزيز حكم القانون وثقافة المساواة بين جميع المواطنين، ما يساعد على تعزيز الابتكار. وهذا يتطلب إنهاء التمييز القانوني ضد النساء ومجموعات الأقليات.
بشكل حاسم، لا يمكن للحكومات أن تظل صاحبة العمل الأساسية في دول الشرق الأوسط. إن تعزيز البيئات القانونية والمالية المناسبة لتعزيز القطاع الخاص، وخاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، سيساعد الشركات على توسيع وظائف القطاع العام واستبدالها. هذا قول أسهل من فعله: الأنظمة التعليمية القديمة والخدمات الصحية غير الكافية تركت أجزاءً كبيرة من السكان في معظم دول الشرق الأوسط غير مجهزين للعمل في القطاع الخاص. ومن أجل تقليل البطالة والمصاعب، يجب أن تشمل التحولات إلى الاقتصادات التي يهيمن عليها القطاع الخاص تغييرات كبيرة في أنظمة التعليم والرعاية الصحية. على وجه الخصوص، تحتاج المدارس والجامعات إلى التحول من تعزيز التعلم بالحفظ وقلب الحقائق المطلقة، نحو تشجيع التفكير الناقد، والابتكار، وقبول وجهات النظر المتنوعة.
وحتى لو بدأت الحكومات الآن، فإن هذه التغييرات سوف تتطلب جيلاً أو اثنين من التنفيذ الكامل. لكن الانتفاضات عام 2011 كان يجب أن تكون قد علّمت قادة الشرق الأوسط بالفعل أن الوقت قصير. ويجب عليهم اتخاذ قرارات اقتصادية مؤلمة الآن لتجنُّب معاناة أسوأ على الطريق. كما أن رضا المحكومين سيكون عاملاً حاسماً في نجاح التحولات من الاقتصادات الريعية إلى الأنظمة الإنتاجية. وسيتعين على المواطنين والقادة الاتفاق على عقد اجتماعي جديد. هذه المرة، بدلاً من فرض الحكومات للعقود من الأعلى إلى الأسفل، يجب السماح للمجتمعات المتنوعة عرقياً وثقافياً ودينياً، التي تشكل دول الشرق الأوسط بالتفاوض عليها من الأسفل إلى الأعلى.
إن صياغة هذا العقد الاجتماعي الجديد يتطلب وجود قادة ذوي رؤية ولديهم الإرادة للوقوف مع نخبة بلدهم، الذين يدركون أن طريقة الاحتفاظ بالسلطة هي المشاركة فيها، ومن يستطيع إقناع الناس بأنهم قادرون على توجيهها إلى مستقبل أفضل. للأسف، لا يوجد الكثير من هؤلاء القادة اليوم. (إنهم نادرون في كل مكان، لا فقط في الشرق الأوسط). لكن ليس لدى حكومات الشرق الأوسط أي خيار. إذا استمروا في تجاهل الحاجة إلى التغيير، فإن الفوضى في المستقبل ستُحدث التغيير من تلقاء نفسها".