"قلم حمرة"... رحلة مع النفس لتتعرف عليها
بالعادة أنا لست من متابعي المسلسلات، قد يكون بسبب الإطالة والمط، حيث يمكن اختزال القصة بساعة ونصف أو على الأكثر بساعتين تكفي لمشاهدة عمل درامي جيد. إلا أن المسلسل السوري "قلم حمرة"، والذي شاهدته بناء على اقتراح من صديقة أثق جداً باقتراحها لمشاهدته، بعدما مرت عليه ثماني سنوات.
ولا بد لي من الاعتراف بأن هذه الدراما الاجتماعية من 30 حلقة لم أستطع إلا أن أنهي مشاهدتها في ثلاثة أيام. فهذه الدراما تجعلك مسكوناً بها ولا تستطيع التخلص منها حتى بعد عدة أسابيع من الانتهاء من المشاهدة، كما حدث لجميع من عرفت أنهم شاهدوا هذا الملحمة الاجتماعية والتي تطرقت للعديد والعديد من القضايا بشكل لافت، ابتداء من الأزمة السورية وانعكاساتها على المواطنين، وحال الطبقة المثقفة والوسطى من ضياع وانهيار، بالإضافة إلى التطرق لمواضيع أخرى بطريقة أبدعت فيها كاتبة السيناريو، يم مشهدي، لم يجرؤ كاتب سيناريو على التطرق إليها بهذه الطريقة الدرامية، كالمثلية الجنسية، العنوسة والفراغ وحالة الإحباط التي تتولد منها، البطالة، سن الأمل وأيضا تبعاتها الهرمونية والنفسية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ملل الزواج، الزواج بين أفراد من دينين مختلفين، وقضية اللجوء، وأخيرا الهوية والمواطنة والتي دخلت فيها الكاتبة بعمق واحتراف.
الأبطال يسألون أسئلة وجودية في قالب بسيط وغير متكلف، وكأنه يغربل المشاهدين الذين يملون بسرعة من التفكير ويدعون فقط ذوي العقول الطامحة للغوص في المزيد من الإجابات للاستمرار في المتابعة
النجمة سلافة معمار أعطتنا درساً في فن التمثيل، فتفوقت فيه على نفسها وأبدعت في شخصيتها ككاتبة سيناريو تبحث عن إجابات لأسئلة يومية تدور في رأسها وينتهي بها المطاف في المعتقل، حيث اعتمدت هناك على موهبتها وأدائها في الزنزانة لتتركنا في بحر من الأسئلة. ولعل جمالية هذا العمل الدرامي أنه يتركك تفكر بعد مشاهدة الحلقات في تلك الأسئلة التي تدور، بل دارت بعضها في أذهاننا وما زلنا نبحث عن إجابات لها، كموضوع الهوية والذات بالتحديد.
سلافة معمار كانت تنقلنا بقدراتها الخارقة كممثلة في التركيز والانتقال إلى آفاق جديدة ورحبة بل أكثر اتساعاً من سجنها، وتجعلك تركز في البعد الاجتماعي والنفسي للشخصية وأن تترك لخيالك العنان في المصير الذي سينتظرها بعد خروجها من المعتقل.
إنه عمل درامي يجعلك تغوص في رحلة مع النفس لتتعرف عليها من جديد، ما هو هدف رحلتنا القصيرة في هذه الحياة؟ فتعطيك سلاف حقائق وإجابات جاهزة أحيانا، ثم تحاول إبعادك لتتدرب على التفكير من جديد بدلا من تلقي الإجابات الجاهزة كما نشأنا وترعرعنا في نظام مجتمعي وتعليمي لا يسمح لك بالكثير من الأسئلة الخارجة عن الصندوق التقليدي، فالأبطال يسألون أسئلة وجودية في قالب بسيط وغير متكلف، وكأنه يغربل المشاهدين الذين يملون بسرعة من التفكير ويدعون فقط ذوي العقول الطامحة للغوص في المزيد من الإجابات للاستمرار في المتابعة. بالرغم من أن السيناريو في منتهى الصراحة إلا أنه أيضا في منتهى الغموض!
بالطبع الموسيقى التصويرية لا يمكن أن تفارق أذنك حتى وإن خلدت للنوم بعد وجبة دسمة من هذا المسلسل، وقد لا أبالغ إن كانت واحدة من أفضل الموسيقى التصويرية منذ سنوات. ولأن مشاهدة الممثلات طبيعيات وبدون مكياج وبشعر منكوش عند استيقاظهن أمر شبه مستحيل في الأعمال الدرامية العربية، فإن هذه الصورة الطبيعية للممثلات جعلت صورهن قريبة جدا من الواقع، فهن لسن متألقات طوال الوقت، سترى واحدة منهن مثل أي امرأة تستيقظ من النوم، بل إن سلاف بدت صفراء وبهالات سوداء لأنها لم تستطع غسل وجهها أو الاستحمام لفترات طويلة وهي بالزنزانة. ولأن البطلة رفضت وضع قلم الحمرة إلا في آخر حلقة.
قررت أن اكتب عن هذا المسلسل ليس للبروباغندا بالطبع، بل لأنه يواجهك بحقائق الحياة وأولها الموت ومن الحلقة الأولى، لتبدأ رحلة من الأفكار والمشاعر قد أتخلص منها بعد كتابة هذا المقال وأطوي صفحة "قلم حمرة" وأحاول نسيان الموسيقى المصاحبة له أيضا.