وفقاً لإحصائيات "هوليوود ريبورتر"، فإن فيلم "ماكبث" للمخرج الأسترالي جوستين كورزيل، هو العمل الثامن والأربعون الذي أخذ المسرحية الشكسبيرية إلى السينما منذ عام 1913. ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاثة أفلام شكّلت علامات فارقة في تاريخ مخرجيها وفي تاريخ اقتباس المسرحية نفسها، وهي "ماكبث" أورسون ويلز عام 1948، والفيلم الياباني "عرش الدماء" من إخراج أكيرا كوروساوا عام 1957، و"ماكبث" رومان بولانسكي عام 1971.
ولكن بعد تعبيرية ويلز وأصالة كوروساوا اليابانية، ونزوع بولانسكى العنيف والساخر، ما الذي يمكن أن يقدّمه كورزيل؟
تدور أحداث "ماكبث" في اسكتلندا، وتحكي حكاية القائد العسكري، أمير قلعة غلامس، ومأساة جشعه ونهمه إلى السلطة والنفوذ.
نرى كيف يتأثر ماكبث بنبوءة الساحرات، ويُقدم على قتل الملك دانكن الطيب، ثم يقتل بانكو صديقه ورفيقه في المعارك، كما يرسل القتلة ليهاجموا قلعة ماكدوف ويذبحوا زوجته وأطفاله بوحشية. ونرى الليدي ماكبث وكيف كانت تصبّ حماستها في أذن زوجها كي لا يتردّد في قتل الملك. وكيف تبدو غابة برنام وهي تتحرك إلى جبل دنسينان، وبينما يستعد ماكبث للمعركة يأتيه خبر موت زوجته. ويلقى مصرعه في النهاية على يدي ماكدوف الذي " لم تلده أمه وإنما انتزع من رحمها قبل أوان الوضع". لتتحق بذلك نبوءة الساحرات المستحيلة.
في فيلم كورزيل، قام الممثل مايكل فاسبندر بدور ماكبث، وجسّدت الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار دور ليدي ماكبث. قام كورزيل بعدة تغييرات درامية مهمة. بدأها بأولى لقطات الفيلم كله: مشهد لجنازة طفل ماكبث وزوجته، والذي يبدأ بلقطة للطفل قبل حرق جثمانه، فالمسرحية لا تشير على أي نحو إلى وجود طفل للزوجين.
وفي الفيلم أيضاً لا يأمر ماكدوف الجيش بأن يقطع كل جندي لنفسه غصناً من الغابة ويحمله أمامه ليخفي عن العدو عدد الجنود وتبدو غابة برنام وكأنها تتحرك، وإنما يحرق ماكدوف الغابة ليصل رمادها إلى ماكبث فوق جبل دنسينان. كما نرى ليدي ماكبث وهي تشاهد في أسى حرق زوجها لزوجة ماكدوف وأطفاله وهم على قيد الحياة، ثم تموت من الحزن والندم والمرض لا منتحرة كما يرد على لسان مالكولم في ختام المسرحية.
نجح كورزيل في تكوين تشكيلي صادق ومحدد للفيلم، وابتكر سينماه الشعرية التي لا تعطّل الاتصال بين الواقعة والمشاهد، ولا تندفع إلى الإفراط في التكلّف والتصنع. عناية فائقة بتفاصيل الكادرات تجعلها نابضة بالحياة والشعر. وكما وصف المعلّم الروسي تاركوفسكي معالجة كوروساوا في "عرش الدماء" لمفهوم المكان ﺑ "التعامل الشعرى الأكثر حذقاً وبراعة"، يمكننا أن نصف صورة كورزيل وتعامله مع الطبيعة بالشعرية.
إذا نظرنا إلى السياق التاريخي/الثقافي الذي كتب فيه شكسبير مسرحياته أو العصر الإليزابيثي (أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر) سنجده عصرا مرتبطا برؤى وتفسيرات ميتافيزيقية، وهو ما يبرر تواتر ظهور الأشباح والساحرات في أعمال شكسبير، لكن ظهورها يختلف من حدث درامي لآخر. فحين يظهر شبح "بانكو" لا يراه إلا ماكبث بينما يرى الاثنان الساحرات في البداية. شبح والد هاملت يظهر مرتين، الأولى يراه فيها هاملت والحراس والثانية لا يراه فيها سوى هاملت. وهو ما يجعلنا نتساءل: هل الأشباح هي مجرد تمثلات للاوعي شخصيات شكسبير؟ هل الساحرات نطقن بما أراد ماكبث سماعه فيصبحن بذلك رمز أناه العليا؟
تكشف دراما شكسبير عن أهمية تلك الأسئلة وعلاقتها بجوهر الفن. فمقدرة شكسبير الفائقة على تحليل النفس الإنسانية، والتي تحدث عنها كثيرون، لا ترتكز على منجزات الطب النفسي غير المتحققة وقتها. التأويل الرمزي للأشباح والساحرات كظلال لللاوعي يبرز قدرة الفن على خلق المعرفة عبر الحدس، وبذلك يسبق الفن العلم (التحليل النفسي) في بعض اكتشافاته.
المسألة ليست محاولة لإخضاع الدراما الشكسبيرية لقراءة "قبل نصية"، تعول على مكتسبات العلوم الإنسانية الحديثة (التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع...) وتتخذ النص المسرحي مجرد دالّ على سلامة منطلقاتها وعلى صحة ما توصلت إليه من نتائج، قدر ما هي محاولة للتأكيد على كون الفن أحد روافد المعرفة حسب التقسيم الكلاسيكي (الفلسفة والفن والعلم والدين)، وهو وسيلة التعبير الأصدق عن الوجود الإنساني. كما تتكشف الفضاءات الرحبة للعمل الكلاسيكي عبر فاعلية القراءة والتأويل وفق معطيات تاريخية مغايرة ومنجزات علمية حديثة، وعبر إعادة الخلق كما فعل كورزيل.
"هذا الطاغية.. حسبناه يوماً صادقاً"، قالتها زوجة ماكدوف قبل أن تُحرق. والسؤال: كيف يتحوّل الإنسان الذي يفيض ﺑ "لبن الشفقة" إلى طاغية؟
يتمثل إنجاز كورزيل في محاولة سبر أغوار هذا التحول من خلال عدة ثيمات: رؤيته الفريدة لليدي ماكبث، فقدان الابن، وهشاشة ماكبث النفسية الناتجة من هول ما خاضه من معارك. تُمثل كلّها عتبات لفهم التحوّلات الإنسانية المأساوية، والكيفية التي يصدّق بها أي طاغية نبوءته الزائفة ويتخيّل الحكم تكليفاً أو منحة إلهية، لا يمكن أن تنتزع منه أو أن يتخلّى عنها.
في نهاية الفيلم، يمنح كورزيل شكلا دائرياً للصراع على السلطة. ينزع فليانس، ابن بانكو، سيف ماكبث المغروز في الأرض ويحمله، كما يخرج مالكولم الملك الجديد، حاملاً سيفه وخارجاً من القصر.
ووسط النيران المشتعلة ورماد العالم يركض فليانس حاملاً السيف حتى يختفي وسط الحمرة الكابية التي صنعتها النيران. وتصبح آخر لقطات الفيلم حمرة كابية كئيبة، تذكرنا في مفارقة رمزية، بالصورة الحمراء التي اتخذها كثيرون كصورة بروفايل بمواقع التواصل الاجتماعي، بعد الاحتراق الدامي للمدينة السورية "حلب".