عندما دعاني الأب إبراهيم فرح إلى أنطاكية، حضرت إلى ذهني فوراً صورة القمر الذي كان يمرّ فوق جبال قريتنا الأرثوذكسية حزور في سورية. كنت أعتقد أنّه يكفي الإنسان أن يصعد إلى قمة الجبل ويمدّ يده كي يلتقطه.
كانت مدينة أنطاكية الملقبة "مدينة الله" مثل قمر قريتي حزور، في حماة السورية، قريبة جداً، بالرغم من أنّها لم تكن مرئية إلّا في كلام الكاهن في قداس الأحد من كلّ أسبوع، عندما كان يتوجه بالدعاء إلى "رئيس كهنتنا" بطريرك أنطاكية وسائر المشرق. كنت أعتقد، وقتها، أنّ البطريرك أهم وأكبر شخصية في "الدنيا" ما دام الكاهن يطلب رضاه عنا بعد رضا الله، في جميع الكنائس الشرقية.
ولتقريب صورة البطريرك من عقلي الطفولي، سألت في أحد الأيام قريبنا الكاهن عندما جاء لزيارتنا: "قديش البطرك كبير، أبونا؟". قال لي: "إنّه يا بني كبير جداً، إنّه أكبر من المطران". خفت، وبقي هذا الخوف في عقلي وفي ذاكرة طفولتي، إلى أن التقيت البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم عام 1981. كنت أعتبر نفسي وقتها خارج الكنيسة، عندما أجريت معه حواراً صحافياً رفقة الصديق الراحل الأديب جميل حتمل. ولأنّ البطريرك هزيم كان في ذلك الوقت صوتاً معارضاً لحافظ الأسد (الرئيس السوري الراحل) فقد سألته، على هامش الحوار، عن رأيه في ما يحدث في المدن السورية من قتل، فقال: "عندما يكون رئيس الدولة مجنوناً، فهل نعتب على مرؤوسيه؟". عرفت بعد اللقاء أنّ بطريرك أنطاكية وسائر المشرق هو إنسان عادي، وأنّ ما يجعله كبيراً، أو صغيراً، في عيون الناس، ليس تاج أنطاكية، أو ثوبه، إنّما "عقله". لمست البطريرك بيدي، فأصبحت مملكته أنطاكية بعيدة، كما ابتعد قمر قريتي حزور.
لم أتخيل من قبل، وها أنا الآن أتدحرج نحو السبعين من عمري، أنّي سأزور أنطاكية، بفضل كاهن سوري فرَّ من "نعيم" الأسد إلى "جحيم" الثورة. في كلّ حال، لم أصل إلى المدينة كـ"حاج" فأنا لا أنتعل صندلاً في قدميّ، ولا أحمل صليبي على كتفي معلقاً فيه كيس زوادتي، وشعري ليس مشعثاً، وثيابي ليست ممزقة، وطعامي ليس مما تأكل الطير. كذلك، لم أصل المدينة عبر الشعاب والمسالك الجبلية التي تفصلها عن سورية، إنّما بطائرة من إسطنبول حطت بهدوء على مدرج صلب في مطارها. فوق كلّ ذلك، كان إيماني "ضعيفاً" وضعف أكثر بعدما لم تصل السماوات السبع طلبات السوريين بالكرامة، على الرغم من أنّهم أقرب إلى السماء من كثير من البشر.
استقبلت أنطاكية سوريين كثيرين، بمن فيهم الخوري إبراهيم فرح، فارين من الموت، من ضمن المعذبين الذين اضطهدهم نظام الأسد، الوريث الشرعي للاستبداد العالمي الإجرامي. كان من المفترض، بحسب الاتفاق الفيسبوكي بيننا، أن يكون الخوري إبراهيم فرح في المطار لاستقبالي. بحثت بعيني عن قلنسوة أرثوذكسية سوداء مما يضعها القسس على رؤوسهم، فلم ألمح ما يشبهها في فضاء المطار، مستعيداً صورة الكاهن الأرثوذكسي التي كنت أعرفها في طفولتي الريفية؛ جبة سوداء مع قلنسوة سوداء تحتها رأس ملتحٍ وشعر طويل مربوط من الخلف. وعندما فشلت في العثور على صورة الرجل التي كونتها في ذهني، استيقظت من أحلام الماضي، وتذكرت أنّي غادرت طفولتي منذ ستين عاماً، ولا بدّ أنّ الكهنة قد تغير زيّهم ومظهرهم مع تغير كلّ شيء خلال هذه السنوات، فحاولت البحث عن رجل مدني الهيئة رأيت سابقاً صورته، لكنّي أيقنت في صالة المطار أنّ الرجل ليس هنا، فانتابني قلق التائه، فهاتفي التركي لا يعمل، ولا أريد أن يستغلني سائق ليرميني أمام فندق لست قادراً على دفع قيمة المنامة فيه، فأنا في الجانب المادي أشبه الحجاج القدماء، أنام وآكل حيث يتاح لي ذلك، لكن بأرخص الأسعار.
كنيسة القديسين بولس وبطرس من الخارج (العربي الجديد) |
تاريخ أنطاكية
تقع مدينة أنطاكية في لواء إسكندرون. يخترقها نهر العاصي من منتصفها قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط على بعد 30 كيلومتراً منها. ترتفع 104 أمتار فوق سطح البحر، وتبعد عن الحدود السورية الشمالية الغربية الحالية نحو 19 كيلومتراً فقط.
تقول روايات تاريخية ومصادر أخرى إنّ أنطاكية إحدى أهم المدن في سورية القديمة، منذ كانت عاصمة الإمبراطورية السلوقية. وفي العصر الروماني، صارت ثالث أكبر مدينة في العالم بعد روما والإسكندرية. كذلك، كانت عاصمة سورية قبل الإسلام، أي قبل نقل العاصمة إلى دمشق نتيجة الغزوات الصليبية والبيزنطية لها.
تأسست المدينة على يد سلوقس الأول نيكاتور عام 310 ق.م وسماها أنطاكية على اسم أبيه أنطيوخوس. ثم حكمها ملك الأرمن تكران بين عامي 83 و64 ق.م عندما أصبحت سورية كلّها تحت حكم روما. احتلها الساسانيون سنة 540 ميلادية، ودخلها العرب عام 637 ميلادية. وسيطر عليها السلاجقة فترة قصيرة قبل أن يدخلها الصليبيون مؤسسين فيها أول إمارة صليبية عاشت بين القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين، إلى أن طردهم منها السلطان المملوكي، الظاهر بيبرس، عام 1268.
عام 1516، دخلها الأتراك العثمانيون، واستمر حكمهم لها حتى الحرب العالمية الأولى. وبعد الحرب العالمية الأولى، كانت ضمن الأراضي السورية، لكن تحت الانتداب الفرنسي ما بين عامي 1920 و1946. وقبل استقلال سورية عن فرنسا، تخلت الأخيرة عن لواء إسكندرون، وضمنه أنطاكية، لمصلحة تركيا عام 1939 نتيجة مصالح دولية، وما زالت المدينة تحت السيادة التركية منذ ذلك الوقت.
سوريو أنطاكية
في أنطاكية، إذا لم تكن تعرف التركية، أو الإنكليزية، لست في حاجة للبحث عن مترجم. يكفي أن تسأل أيّ شخص بالعربية حتى يأتيك الجواب مباشرة، أو بعد قليل، بالعربية المكسرة، أو بالعامية السورية المنتشرة في منطقة الساحل السوري، أو منطقة إدلب. فبعد الحرب على سورية، وتدفق ملايين اللاجئين على تركيا، كان لأنطاكية نصيب كبير منهم. كلّ سيارات الأجرة التي كانت في المطار، يتكلم سائقوها العربية، أو على الأقل يفهمون ما تريده منهم. بالإضافة إلى ذلك، غيّر وجود السوريين في طبيعة المدينة لجهة التركيبة السكانية والعمل والزيجات، فالتركي الذي يتزوج سورية يعتبر نفسه محظوظاً، بحسب تعبير السائق الشاب الذي أقلني من المطار إلى المدينة، فهي "زوجة مطيعة" وغير متطلبة، وتحترم أهل الزوج. وجود السوريين جعل اللغة العربية تستيقظ من نومها الطويل في ذاكرة العرب الذين قرروا البقاء في المدينة بعد ضمها رسمياً إلى الدولة التركية. ومن تكاسل منهم عن تعليم أولاده اللغة العربية على مستوى الكلام اليومي سابقاً، جعله الوجود السوري المتنامي يعود للاهتمام بها.
سألت السائق الشاب عن لغته العربية، وكيف تعلمها، فقال: "والدي تركي، لكنّ أمي سورية، ومنها التقطت بعض الكلمات، لكنّ وجود السوريين الكبير، واحتكاكي اليومي بهم، طوّر لغتي العربية، وهي كما ترى ليست جيدة، لكنّها كافية للتفاهم معهم".
كانت أنطاكية بالنسبة لي هي رؤية السوريين، أو بعضهم، وزيارة بعض الآثار التي في المدينة، وفي مقدمتها مقر البطريركية الأرثوذكسية، أي كنيسة القديسين بطرس وبولس، وكنيسة بولس الأثرية التي تعتبر الكنيسة الأولى في العالم. وبما أنّني لم أكن أعرف من أين سأبدأ، اعتمدت في ذلك كلياً على الخوري السوري إبراهيم فرح، والذي التقيته بمجرد نزولي من التاكسي في المكان الذي اتفقنا عليه في وسط المدينة.
مرض الثورة
الخوري إبراهيم خمسيني وسيم أنيق، بلحية خفيفة مشذبة، وثياب مدنية. قميصه شديد البياض، وبنطاله الأسود مكوي بأناقة، مع محرمة (كلينكس) تحيط رقبته تحت ياقة القميص لامتصاص العرق. التقيته في يوم رمضاني، عندما ضرب المدفع معلناً نهاية يوم طويل من أيام الصوم الصعب، حين كانت المدينة شبه خالية.
مظهر الخوري بعيد جداً عن مظهر عمي إبراهيم، خوري حزور، والذي كان يشبه القديسين في الأيقونات ولوحات القديسين المعلقة على جدار الهيكل في الكنائس الأرثوذكسية، الجدار الفاصل بين الناس وأسرار الكنيسة، مضفياً الغموض على حركات الكاهن أثناء ممارسة طقس قداس الأحد. أما صديقي الخوري إبراهيم فكان أقرب في مظهره إلى رجال السياسة الذين التقيت بعضهم في إسطنبول، في مكاتب المعارضة.
وصلنا معاً إلى بيت الدكتور طلال العبد الله، وهو البيت الذي سيستقبلني طوال خمسة أيام هي فترة وجودي في المدينة. كان الرجل أحد أوائل السوريين الملتحقين بالثورة السورية في تركيا. بعد قليل من وصولي، اكتشفت أن الرجل مصاب بـ"مرض الثورة" وهو المرض الذي يصيب أصحاب الأحلام الكبرى، وأصحاب النفوس الكبيرة التي تؤمن بالوطنية الشاملة الجامعة لكلّ أبناء الوطن. والدكتور طلال خريج المدرسة الحزبية التي يقول مؤسسها أنطون سعادة: "كلّنا مسلمون لربّ العالمين، منّا من أسلم لله بالإنجيل، ومنّا من أسلم لله بالقرآن، ومنّا من أسلم لله بالحكمة، ولا عدوّ لنا يقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقنا إلّا اليهود".
وعندما حاول العبد الله أن يعمل في خدمة السوريين عرقل "الثوار" عمله لأسباب طائفية وحزبية ومصلحية، وأيقن حينها أنه انتقل من "تحت الدلف إلى تحت المزراب"، فقد سبق له الابتعاد عن رفاقه "السوريين القوميين" لأنّهم وضعوا أنفسهم وحزبهم في خدمة آل الأسد بدلاً من خدمة الوطن، ووجد في الثورة الأمل الضائع في الحزب، فلم يتردد بالالتحاق بها، لكنّ الآخرين كانوا يريدون "ثورة" على مقاسهم تحقق مصالحهم الضيقة، ولو كانت على حساب الوطن، فأصابه مرض "الثورة" وهو الانكفاء والعزلة والتشكيك بكلّ شيء، وما ينتج عن ذلك من أمراض عضوية. كانت أنطاكية خياره للاستقرار، فهو لا يستطيع العودة إلى مدينته وعيادته وأملاكه في السقيلبية، ولا يريد اللجوء إلى الغرب.
لم تكن الثورات في أيّ يوم صفحة بيضاء يمكن أن نكتب عليها ما نشاء وكيفما نشاء، هذه ثورتنا التي تشبهنا، حتى لو شكك "النساك" في طهارة بعض عناصرها.
في المساء التالي، عمل الخوري إبراهيم على كسر "حضورنا الأرثوذكسي الثلاثي" فجمع أصدقاء أدالبة في سهرة جميلة، استعادوا فيها ذكريات الحراك الثوري في منطقة كلّ منهم، وكنا فيها أقرب إلى مقولة سعادة: "كلّنا مسلمون لربّ العالمين فمنا من أسلم لله بالإنجيل، ومنّا من أسلم لله بالقرآن، ومنّا من أسلم لله بالحكمة…." وعدونا جميعاً هو نظام الاستبداد الأسدي، وكل استبداد.
أول كنيسة في العالم، المغارة كنيسة بولس (العربي الجديد) |
مدينة الله العظمى
في طريقي صباح يوم الأحد، رفقة الأب إبراهيم، إلى المقر القديم لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في أنطاكية، لحضور القداس، تداعى إلى ذاكرتي ما كنت قد قرأته في طفولتي ومراهقتي عن المسيحية وعن انتشارها، وقصص العذاب التي تعرض لها المسيحيون الأوائل، خصوصاً شاول (بولس) وذهابه إلى دمشق وإيمانه هناك بالمسيحية.
كانت أنطاكية في ذلك الزمن عاصمة سورية الرومانية، وإليها كانت أولى رحلات القديسين بولس (شاول) وبطرس، وفيها تأسست أول كنيسة في عالم، وفيها سمّي أتباع المسيح بالمسيحيين لأول مرة، وفي ذلك الزمن كانت أنطاكية تسمى "مدينة الله العظمى".
كتب المطران جورج خضر، مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس: "لست أخترع مدينة الله العظمى، وهي ليست كبرياء بيزنطية، فالاسم وثني والعهود المسيحية تلقته تلقياً. المسيحيون اتخذوا اسم الله الذي تحمله عبارة مدينة الله اتخاذاً أقرب إلى قلوبنا. في تاريخ الاسم أنّ: التلاميذ دعوا مسيحيين في أنطاكية أولاً (أعمال الرسل 26:119)".
حضرت القسم الأول من القداس، ثم انسحبت خارجاً من الكنيسة. لم أجد فيها ولا في القداس نفسي، ولا ما كان في ذاكرتي عن حوارات بولس وبطرس وخلافهما حول كسب المؤمنين إلى دعوتهم.
لكنّ القداس ذكّرني بالأب اليسوعي باولو، والذي وقف مع السوريين في ثورتهم، وذكّرني بالموقف المخزي لرجال الدين عموماً، والمسيحي خصوصاً، من ثورة الشعب السوري ضد الاستبداد.
تركت كنيسة القديسين بطرس وبولس حديثة البناء، ويممت وجهي باتجاه الجبل، حيث مغارة القديسين بولس وبطرس، والتي كانت مقر أول كنيسة في العالم ضد الاستبداد، ومنها ومن أنطاكية خرجت المسيحية لتنتصر وتنتشر في العالم، بعد تضحيات جسام. هناك - في اعتقادي - يكمن سبب وصفنا أنطاكية بـ"مدينة الله العظمى".
*كاتب سوري