عاشت الموسيقى الأندلسية ثلاث مراحل أساسية؛ الأولى تمثّلت بازدهار الحضارة العربية في الأندلس فانبعثت فنون جديدة في مساحة من الحرية والتجريب، والثانية بتهجير الأندلسيين إلى بلدان المغرب العربي في القرن الثالث عشر وتطوّر موسيقاهم هناك في تفرّعات وأنواع جديدة، والثالثة ضمن محاولات استعادتها وعدم تحوّلها إلى شكل من أشكال الفولكلور.
مسائل عدّة تحظى بنقاش موسّع حولها بين الباحثين في المؤتمرات العديدة التي تشهدها المدن المغاربية، وفي كتاباتهم النظرية أيضاً، تبدأ من توثيق ما يسمّى بـ"طرب الآلة" بمدارسها الأندلسية المختلفة حيث لا تزال العديد من ألحانها تُحفظ شفاهياً، والجدل حول إدخال آلات حديث إلى فرقها الموسيقية حيث يرى البعض أن ما يمّيز نشأة هذا الفن في الأندلس هو تداخل آلات من ثقافات متعدّدة، فيما يرفض آخرون الذهاب نحو التغريب.
لكن على أرض الواقع، دخلت هذه المؤّثرات الغربية في المدارس والمعاهد التي تعلّم الأندلسيات في مدن جزائرية ومغربية، سواء في إدخال الأورغ أو الغيتار، أو ينكفئ أغلب الموسيقيين الجدد عن دراستها وانحسر انتشارها ضمن دوائر محدودة، ما يعيد السؤال حول إمكانية تجديد هذا الفن الكلاسيكي.
ضمن محاولات البحث عن إجابة، يمكن النظر إلى إطلاق العدد الأول من "مقامات الأندلس" مؤخّراً، وهي مجلة نصف سنوية تصدر عن "مؤسسة الشيخ عبد الكريم دالي" في الجزائر، في محاولة من أجل "التوثيق للعديد من الأبعاد التي لم يسلّط عليها الضوء بالشكل الكافي في تاريخ الموسيقى الأندلسية وتقاليدها ومدارسها"، كما يقول المشرف العام على المجلة نجيب كاتب في حديثه لـ"العربي الجديد".
يضيف الباحث والموسيقي: "لن نقف عند حدود ذلك في المغرب العربي، بل سننفتح مستقبلاً على قضايا عديدة تخصّ الموسيقى الكلاسيكية في البلدان العربية، وتقدّم قراءات في تجارب عدد من الملحنين والمطربين العرب الذين أسهموا في تقعيدها والتجريب في منجزات تستحق الالتفات إليها ومراجعتها".
ويشير إلى أن "المجلة ستفتح أبوابها أمام الموسيقيين الجدد وتغطّي أحدث إصداراتهم وكذلك الأمر مع النقّاد والباحثين، كما ستتواصل مع الجمعيات والمدارس التي تعلّم الموسيقى في الجزائر، ونتابع عروضها وأنشطتها، ونؤسس نقاشاً حول المشكلات التي تواجهها، وإمكانية إيجاد مقترحات لحلولها".
استحضر العدد الأول بالشهادات والمقالات مسارات شيوخ الموسيقى الأندلسية الثلاث؛ الغرناطية والصنعة والمالوف، ومنهم محمد بوعلي (1917-1998) الذي يمثّل مدرسة تلمسان، وسيد أحمد سري (1926 – 2015) عن مدرسة الجزائر العاصمة والأخوين محمد وعبد الرزاق فخارجي (1896 – 1956)/ (1911-1984) عن المدرسة ذاتها، وعبد المؤمن بن طوبال (1928 - 2004) من كبار ملحني مدرسة قسنطينة.
كما استذكرت تجربة مطرب الحوزي الشيخ عبد الكريم دالي (1914-1978) والمعلمة يامنة بنت الحاج المهدي (1859-1993) التي استطاعت ان تفرض نفسها كمغنية الأندلسي في عالم موسيقي كان حكراً على الرجال وذلك نهاية القرن التاسع عشر.
ختمت المجلة بتوثيق "نوبة غريب" بكافة تفاصيلها اللحنية والإيقاعية، والتي يقول مفتتحها "كن في عشقه على حذر/ لا تزدني على النظر/ والكحل ينفع للبصر/ إلا أنت يا عيني/ ما تقنعني بنظرة/ كذلك تنشبني/ في كلّ مرة".