22 سبتمبر 2018
"من لم يكتب فيمينه يسرى"
الكتابة عملية تقوم بها اليد بعد إصدار الفكرة من العقل، فالعقل يهيئ الأفكار ويوفر المعرفة ويرسمها، ومن ثم يأتي دور اليد التي تحول كل هذا إلى لغة مقروءة ومفهومة بعد أمر رسمي من العقل، فهو يعتبر محتوى الأفكار وحصيلة المعارف التي تكون في حوزة الإنسان، وتحتاج عملية الكتابة إلى ممارسة وتدريب متواصلين لكي يصل الكاتب إلى مستوى رفيع ومحتوى بديع، ويكون هذا التدريب للعقل بشكل أساسي؛ لأنه هو مصدر الأفكار، فالتدريب والممارسة يسهلان للكاتب الوصول إلى درجة الإبداع والتميز، فتتطور عنده عملية الفهم ورسم الأحداث ومعالجة المعلومات، ويتكون لديه خيال واسع فيستطيع من خلاله الإبحار في فن الكتابة بسهولة كبيرة ومع ضمان الإمتاع لما يكتبه.
تعدُّ الكتابة مِن أشرفِ الصنائعِ وأرفعها، وأربح البضائعِ وأنفعها، وأفضلِ المآثرِ وأعلاها، وإذا ذهبنا وتحدثنا عن الكتابة في الماضي سنجد أنه كانَ يُعظّم أصحابها، ويُقربُ كتّابها، فلقد كان أقرب الناس إلى الولاة هم الكتّاب؛ لأنهم كانوا ألسنتهم التي ينطقون بها، وأيديهم التي يبطشون بها، وعقولهم التي يتفكرون بها، وأعينهم التي يبصرون من خلاها، وإذا كانَ لا بدّ مِن الإنسانِ أن يتقنَ صناعة شيءٍ ما، فإن الكتابة أعظمها وأشرفها؛ وأعظم شاهد على رفعِ مكانتها أن الله سبحانه وتعالى أقسمَ بالقلمِ، والقلم هو أداةُ الكتابة، وينبغي لك أن تعلمَ بأنّ اللهَ لا يُقسم إلا بجميلِ ما أبدع وعظيم ما صنع؛ فالله سبحانه قد أقسمَ بالنجمِ، والقمرِ، والشمسِ.. وأشياء أُخرى لا يتسعُ ذكرها هنا، ولقد كَثُر مدح الكتابة والكتّاب مِن قبل القدماء، فهاهو سعيد بن العاص يقول: "من لم يكتب فيمينه يسرى" ويقول آخر: "إذا لم تكتب اليد فهي رجل" ولقد وصلَ التعظيمُ والتبجيل في الكتابةِ بقولهم: إنها أعظمُ الأمور في الدنيا وأشرفها بعد الخلافة، ومنهم من فضل الكتابة على السيف، فيقول صلاح الدين: "لم أفتح البلاد بالسيوف إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل" فكان القلمُ سببًا في الفتوحات وتمكّن الدولة والسياسة، ومن الصعب علينا أن نحصي فضل الكتابة.
حرب اللفظ والمعنى؛ لقد قامت حرب كبيرة جذورها قديمة بين اللفظ والمعنى، فاختلف القدماء بمن له الأفضلية على الآخر فانقسموا بين متحيز للألفاظ، ومتحيز للمعاني، وآخر لا يفرق بينهما في الفضل، وتعدُّ الألفاظُ المادة الأساسية في الكتابةِ، والمعاني لا تَقلُّ أهمية عن الألفاظِ، ويعد الجاحظ وأبو هلال العسكري وابن سنان من أنصار اللفظ، إذ يقول الجاحظ في سبب تحيّزه للألفاظ "والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي وإنما الشأنُ في إقامة الوزن وتخير اللفظ.." حيث يقول: إن المعاني موجودة في كل مكان ويعرفها الجميع فهي غير محدودة، أما اللفظ فهو محدود وقليل، وهناك من فضلَّ المعاني مثل: ابن قتيبة وغيره .. فإنّ أصحاب هذا المذهب يلتفتون إلى ما في النصِ من معانٍ جميلة ولا يعطون اللفظ أيّ اهتمامٍ، فيعطون المضمون أهمية أكثر من الشكل، وهناك من لم يفصل بينهما ولم يفضل أحدهما على الآخرِ وهو عبد القاهر الجرجاني الذي يقول: يجب أن تضعَ كلامك بالوضعِ الذي يقتضيه علم النحو فتتبع قوانينه وتعرف علومه، ويكمل حديثه بأنّ الكلمة المفردة لا معنى لها، وإنه يصبحُ لها معنًى عندما توضع في عبارة أو جملة، فاللفظ وحده لا يُشكل معنى بليغا، والمعنى وحده لا يُشكل لفظًا بديعا، وبذلك اكتشف نظرية النظم.
إن النفسَ الإنسانيةُ تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، والعين تألفُ الحسن وتقذى بالقبيح، وما نفسُ القارئ إلا كذلك، فالقارئ يبحث عن المعنى واللفظِ الجميل الذي يغني قليله عن كثيره والذي يكون فيه حسن النظم وجودة التأليف ورصانة السبك ووفرة البلاغة، فما يجبُ على الكاتبِ إلا أن ينتقي ويتخيّر عبارته كما يستخرج وينتقي البّحار اللؤلؤَ من المحار، فيجبب أن تكون ألفاظه كثيرة الطلاوة والحلاوة، وكذلك سلسة وسهلة وأن يكون المعنى عذبًا كثير الماء، وبليغًا وشريفًا، وإن اجتمعت هذه الصفات في النّص المكتوب فما ينبغي على القارئ إلا أن يستمتع بهذا النّظم الذي سيؤنسُ القلوبَ ويروي العقولَ، ويقومُ الكاتبُ بتحويلِ الألفاظ والمعاني المجردة والجامدة إلى ما هو حسيٌّ متحرك، فأنت تشعر بأنّك ترى الأحداث وكأنّها تُبث أمامك، وذلك لأن الكاتب يبثُ الروحَ والحركة في عبارته، وكلّ ذلك يعودُ لحسنِ توظيف ألفاظه ومعانيه.
النص العفوي الخاطر أم النص المتكلف أفضل؟ لقد اختلف الناس فيما بينهم؛ فمنهم من استحسنَ النص العفوي؛ وذلك لأنه ينتج من دافع ذاتي للكاتب دون مؤثرات خارجية ويُكتب النصُ من دون إعدادٍ مسبق له، فيكون خاليًا من الغموض وليس من الصعب عليك فهمه، فيأتي بألفاظ سهلة ومعانٍ بسيطة فالكاتب ينقل عبارته للقارئ بعفوية من دون حواجز التصنع، وأما النص المتكلف هو النص المخطط له مسبقًا، فيكتبه الكاتب بدافع ذاتي وتأثير خارجي، ويكون ظاهرًا فيه التصنع والتكلف، فيكثر في هذا النص استخدام السجع والتشبيهات والتورية والمجاز وكل أنواع البديع والمحاسن اللفظية وغيرها، فيكون النص كالثوب المليء بالتطريزات والتي ستزيده جمالًا وحسنًا، وذلك يدل على القدرة الإبداعية للكاتب.
وإن كنتُ سأفاضل بين هذين النصيّن، سأختار دون ترددٍ النص المتكلف؛ لأن الكاتبَ المبدع لا يكتب إلا بعد إعمال الفكر وتخطيط عميق لما سيكتبه، فهو لا يكتب بعفوية، فالنص المتكلف يكون عمره أطول من النص العفوي، فيبقى لزمن طويل وأكثر من النص العفوي، فالأخير لا تستفيدُ منه إلا في الفترة الزمنية والحادثة التي كُتب فيها، وهذا على عكس النص المتكلف، الذي لو رجعت له بعد فترةٍ طويلة تراه ما زال على نفس الجمال والأهمية.
تعدُّ الكتابة مِن أشرفِ الصنائعِ وأرفعها، وأربح البضائعِ وأنفعها، وأفضلِ المآثرِ وأعلاها، وإذا ذهبنا وتحدثنا عن الكتابة في الماضي سنجد أنه كانَ يُعظّم أصحابها، ويُقربُ كتّابها، فلقد كان أقرب الناس إلى الولاة هم الكتّاب؛ لأنهم كانوا ألسنتهم التي ينطقون بها، وأيديهم التي يبطشون بها، وعقولهم التي يتفكرون بها، وأعينهم التي يبصرون من خلاها، وإذا كانَ لا بدّ مِن الإنسانِ أن يتقنَ صناعة شيءٍ ما، فإن الكتابة أعظمها وأشرفها؛ وأعظم شاهد على رفعِ مكانتها أن الله سبحانه وتعالى أقسمَ بالقلمِ، والقلم هو أداةُ الكتابة، وينبغي لك أن تعلمَ بأنّ اللهَ لا يُقسم إلا بجميلِ ما أبدع وعظيم ما صنع؛ فالله سبحانه قد أقسمَ بالنجمِ، والقمرِ، والشمسِ.. وأشياء أُخرى لا يتسعُ ذكرها هنا، ولقد كَثُر مدح الكتابة والكتّاب مِن قبل القدماء، فهاهو سعيد بن العاص يقول: "من لم يكتب فيمينه يسرى" ويقول آخر: "إذا لم تكتب اليد فهي رجل" ولقد وصلَ التعظيمُ والتبجيل في الكتابةِ بقولهم: إنها أعظمُ الأمور في الدنيا وأشرفها بعد الخلافة، ومنهم من فضل الكتابة على السيف، فيقول صلاح الدين: "لم أفتح البلاد بالسيوف إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل" فكان القلمُ سببًا في الفتوحات وتمكّن الدولة والسياسة، ومن الصعب علينا أن نحصي فضل الكتابة.
حرب اللفظ والمعنى؛ لقد قامت حرب كبيرة جذورها قديمة بين اللفظ والمعنى، فاختلف القدماء بمن له الأفضلية على الآخر فانقسموا بين متحيز للألفاظ، ومتحيز للمعاني، وآخر لا يفرق بينهما في الفضل، وتعدُّ الألفاظُ المادة الأساسية في الكتابةِ، والمعاني لا تَقلُّ أهمية عن الألفاظِ، ويعد الجاحظ وأبو هلال العسكري وابن سنان من أنصار اللفظ، إذ يقول الجاحظ في سبب تحيّزه للألفاظ "والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي وإنما الشأنُ في إقامة الوزن وتخير اللفظ.." حيث يقول: إن المعاني موجودة في كل مكان ويعرفها الجميع فهي غير محدودة، أما اللفظ فهو محدود وقليل، وهناك من فضلَّ المعاني مثل: ابن قتيبة وغيره .. فإنّ أصحاب هذا المذهب يلتفتون إلى ما في النصِ من معانٍ جميلة ولا يعطون اللفظ أيّ اهتمامٍ، فيعطون المضمون أهمية أكثر من الشكل، وهناك من لم يفصل بينهما ولم يفضل أحدهما على الآخرِ وهو عبد القاهر الجرجاني الذي يقول: يجب أن تضعَ كلامك بالوضعِ الذي يقتضيه علم النحو فتتبع قوانينه وتعرف علومه، ويكمل حديثه بأنّ الكلمة المفردة لا معنى لها، وإنه يصبحُ لها معنًى عندما توضع في عبارة أو جملة، فاللفظ وحده لا يُشكل معنى بليغا، والمعنى وحده لا يُشكل لفظًا بديعا، وبذلك اكتشف نظرية النظم.
إن النفسَ الإنسانيةُ تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، والعين تألفُ الحسن وتقذى بالقبيح، وما نفسُ القارئ إلا كذلك، فالقارئ يبحث عن المعنى واللفظِ الجميل الذي يغني قليله عن كثيره والذي يكون فيه حسن النظم وجودة التأليف ورصانة السبك ووفرة البلاغة، فما يجبُ على الكاتبِ إلا أن ينتقي ويتخيّر عبارته كما يستخرج وينتقي البّحار اللؤلؤَ من المحار، فيجبب أن تكون ألفاظه كثيرة الطلاوة والحلاوة، وكذلك سلسة وسهلة وأن يكون المعنى عذبًا كثير الماء، وبليغًا وشريفًا، وإن اجتمعت هذه الصفات في النّص المكتوب فما ينبغي على القارئ إلا أن يستمتع بهذا النّظم الذي سيؤنسُ القلوبَ ويروي العقولَ، ويقومُ الكاتبُ بتحويلِ الألفاظ والمعاني المجردة والجامدة إلى ما هو حسيٌّ متحرك، فأنت تشعر بأنّك ترى الأحداث وكأنّها تُبث أمامك، وذلك لأن الكاتب يبثُ الروحَ والحركة في عبارته، وكلّ ذلك يعودُ لحسنِ توظيف ألفاظه ومعانيه.
النص العفوي الخاطر أم النص المتكلف أفضل؟ لقد اختلف الناس فيما بينهم؛ فمنهم من استحسنَ النص العفوي؛ وذلك لأنه ينتج من دافع ذاتي للكاتب دون مؤثرات خارجية ويُكتب النصُ من دون إعدادٍ مسبق له، فيكون خاليًا من الغموض وليس من الصعب عليك فهمه، فيأتي بألفاظ سهلة ومعانٍ بسيطة فالكاتب ينقل عبارته للقارئ بعفوية من دون حواجز التصنع، وأما النص المتكلف هو النص المخطط له مسبقًا، فيكتبه الكاتب بدافع ذاتي وتأثير خارجي، ويكون ظاهرًا فيه التصنع والتكلف، فيكثر في هذا النص استخدام السجع والتشبيهات والتورية والمجاز وكل أنواع البديع والمحاسن اللفظية وغيرها، فيكون النص كالثوب المليء بالتطريزات والتي ستزيده جمالًا وحسنًا، وذلك يدل على القدرة الإبداعية للكاتب.
وإن كنتُ سأفاضل بين هذين النصيّن، سأختار دون ترددٍ النص المتكلف؛ لأن الكاتبَ المبدع لا يكتب إلا بعد إعمال الفكر وتخطيط عميق لما سيكتبه، فهو لا يكتب بعفوية، فالنص المتكلف يكون عمره أطول من النص العفوي، فيبقى لزمن طويل وأكثر من النص العفوي، فالأخير لا تستفيدُ منه إلا في الفترة الزمنية والحادثة التي كُتب فيها، وهذا على عكس النص المتكلف، الذي لو رجعت له بعد فترةٍ طويلة تراه ما زال على نفس الجمال والأهمية.