"موسم الشيطان" للاف دياز: متعة المُشاهدة

18 يوليو 2018
المخرج الفيليبيني لاف دياز (فايسبوك)
+ الخط -
كالغالبية الساحقة من أفلامه، لن يكون "موسم الشيطان" (2018، Season Of Devil) للفيليبيني لاف دياز (1958) عاديًا أو سهل المُشاهدة. أسباب ذلك عدة، أولها المدة الطويلة لأفلامه، إذْ يمتد أقصرها على 4 ساعات؛ ثم توغّلها في جذور الفيليبين، التاريخية والاجتماعية والسياسية والميثولوجية والفولكلورية والدينية. لا يبذل دياز جهدًا كبيرًا في توضيح الخلفيات السياسية والاجتماعية والتاريخية، فهو يُصرّ على مسرحة أفلامه. لكن الأداء التغريبي يحول، بشكل متعمَّد، دون انغماس المُشاهِد في الفيلم، وهذا لا يُحبّذه كثيرون.

أفلامه كلّها بالأبيض والأسود، كانعكاسٍ لخياراته الفنية الثابتة التي يصعب أن يحيد عنها. يَتَعمَّد توظيف نوعية معيّنة من الإضاءة في تصوير المشاهد، فهو يميل إلى الضوء الطبيعي في التصوير الخارجي، ويركن تصويره الداخلي إلى مصدر وحيد للإضاءة وإنْ أدّى هذا إلى عدم وضوح الكادر السينمائي، أو إلى الغرق في الظلام. أمر يتطلب مزيدًا من التركيز، لا سيما مع الانتقال من مشهد خارجي إلى آخر داخلي.

إلى ذلك، فإنّ كاميرا لاف دياز غير مُرهِقة للمُشاهِد بتاتًا. هي أكثر الكاميرات سكونًا في السينما المُعاصرة. يُثبِّتها في زاوية وارتفاع محدّدين، تاركًا للمُمثلين حُرية التحرك أمامها. لذا، نادرًا ما تظهر لقطات مُصاحبة أو متتبِّعة أو عُلويِّة، ما يخدم مَسرَحَته الأحداث والشخصيات. ثم إنّ سينماه متقشّفة بامتياز، فهي بعيدة كلّيًا من أي نوع من البهرجة أو الإسراف أو المُبالغة، باستثناء الإطالة الزمنية.

جديده "موسم الشيطان" شارك في برنامج "آفاق" في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". الحديث عن طوله (234 دقيقة) كثيرٌ. لكن هذا خيار فني كخياراته المذكورة أعلاه، لا تُمكن مُحاسبته عليه. الأهم كامنٌ في تناول مدى نجاح هذا الخيار أو فشله من فيلم إلى آخر، أو تقديم نقدٍ لأعماله. الثابت أن لهذا الخيار عواقب تبرز بين حين وآخر، تتمثّل في اختلال التوازن الإيقاعي، وسيادة الملل في فترات عدة، وفقدان التركيز.

مع كل جديد لدياز، هناك يقين أن المختلف حاضرٌ رغم القواسم المُشتركة كلّها بين أفلامه. مثلاً، هناك الأمثولة الشعبية كما في "عمّا قبل" (2014)، والفانتازيا التاريخية شبه المُمَسرحة في "تهويدة للّغز الحزين" (2016)، ودراما الانتقام وخلط الخاص الذاتي بالعام السياسي في "المرأة التي غادرت" (2016). في "موسم الشيطان"، هناك توليفة مُدهشة بين السياسة والعنف، مُخرِجًا إياها بطريقة غنائية مسجوعة.

يصعب وصف الأسلوب الإخراجي الذي يعتمده لاف دياز في كتابة "موسم الشيطان" وبنائه وتنفيذه. يستحيل نعت الفيلم بالأوبرالي أو المُوسيقي الغنائي. ليس الحوار شعرًا مُغنّى. ما من آلة مُوسيقية واحدة فلا وجود للموسيقى نهائيًا، مع أنه كلّه مغنّى مُنذ الكلمة الأولى إلى آخر مُفردة. الغناء فيه مائل إلى التراتيل المسجوعة. الفكرة مُتميّزة بالابتكار والجدّية. القدرة التأليفية (السيناريو) لدياز مُدهشة. لكن أحد عيوب الفكرة المُبتكرة كامن في أن الشخصيات كلّها تتكلّم بالإيقاع والنغمة نفسيهما. ولولا الأداء التمثيلي الذي يُفرِّق بين الشخصيات لأخفقت التجربة.
من دون الخوض في تعقيدات كثيرة ذات خلفيات سياسية واجتماعية وفلكلورية للفيليبين، يتناول لاف دياز في "موسم الشيطان" قصّة مُعاصرة، بسيطة وعميقة، تستعيد إحدى الفترات الوحشية التي عرفها البلد المحكوم حينها بالديكتاتور ماركوس، وتحديدًا فترة تطبيق الأحكام العُرفية في سبعينيات القرن الماضي. هذا حاصلٌ عبر رصده أحوال قرية "جينتو" الصغيرة النائية في الريف، والأفعال الدموية القذرة لمليشيات ماركوس (نرسيسو في الفيلم)، المُنفَّذة في القرية نفسها.



بطل الفيلم هوغو (بيولو باسكوالا) كاتب وشاعر ليبرالي مُتمرّد ومعروف. يذهب إلى القرية بحثًا عن زوجته الطبيبة لورينا (شَيْنا ماغْداياأو)، صاحبة عيادة خيرية فيها. يغتصبها أتباع ماركوس ويقتلونها، هم الذين يسيطرون على كلّ شيء في القرية، ويبثّون الرعب والبغضاء والضغائن بين الأهالي الفقراء الضعفاء. هؤلاء أنفسهم يُشيعون أن شرًا وشياطين تحوم في كلّ مكان في المجتمع، مستدعية الأرواح الخبيثة والنفوس الشريرة للفتك بالناس.

هذا كلّه مُرتبط بالقوى اليسارية التي لا يتوّرع أفرادها عن سفك الدماء. هؤلاء يظهرون في مرّات عدة وهم يُعذِّبون ويغتصبون، قبل تعليقهم لافتات على رقاب القتلى كُتب عليها: "أنا مُتمرّد، لا تُقلِّدوني".

"موسم الشيطان" قاتمٌ فعليًا، ولا يخلو من الكآبة. ينضح بالعنف المبطّن والسوداوية والرعب وسفك الدماء التي غرقت الفيليبين فيها طويلاً. غالبية العاملين فيه غير ناجية من تنكيل أو اغتصاب أو قتل، بصرف النظر عن الموقع والعمر والمُهادنة أو التمرّد. هذا لا يعني أن الفيلم غير مُمتع أو مُشوِّق، بل فيه مشاهد كثيرة تبلغ مرتبة الكمال البصري كعادة لاف دياز في اشتغالاته. وكالعادة أيضًا، أبطال كثيرون يمتلكون قدرًا كبيرًا من التمكن الأدائي والحضور اللافت للانتباه على الشاشة الكبيرة.

صحيح أن تجربة مُشَاهَدة أفلام لاف دياز ليست سهلة، لكنها ممتعة، لأنه فنان حقيقي وليس مُدّعيًا أو مُفتَعِلاً. متعة وإثارة تستحقان فعليًا عناء المُشاهَدة.
دلالات
المساهمون