18 أكتوبر 2024
"مَصْرَنَةُ" الحراك الشعبي الجزائري
استقالة الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، بعد أسابيع من الاحتجاجات الشعبية، مرحَّب بها، وإن كنا نعلم يقينا أنها إقالة لا استقالة، وذلك بعد أن تخلى عنه رفقاء الأمس، أو أعضاء "العصابة التي استولت بغير وجه حق على مقدرات الشعب الجزائري"، حسب تعبير نائب وزير الدفاع، رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح. وجه القلق أن ما يجري في الجزائر، إلى الآن، يبدو أقرب إلى ما حدث في مصر في فبراير/ شباط 2011، عندما قدم الرئيس المخلوع، حسني مبارك، استقالته، على أساس أنها استجابة للاحتجاجات الشعبية حينها، لنكتشف، فيما بعد، أن ما جرى كان انقلابا أبيض نفذته جهات من داخل "عصابة" الحكم ذاتها، هي المؤسسة العسكرية التي وظفت الاحتجاجات الشعبية لخدمة مصالحها والحفاظ عليها. لقد تمت التضحية، حينئذ، بمبارك وحاشيته الأقرب (واجهة النظام)، من أجل الحفاظ على بنية النظام الفاسد نفسه.
جاءت استقالة بوتفليقة القسرية، يوم الثلاثاء الماضي، ساعات بعد بيان أصدرته وزارة الدفاع الوطني على لسان الفريق صالح، أعلن فيها "دعمه المسيرات السلمية" للشعب الجزائري، وأكد "على ضرورة تفعيل المواد 7 و8 و102 من الدستور، وأنه لا يمكن تصور أي حل آخر خارج نطاق الدستور". وزعم البيان أن الجيش انحاز منذ اليوم الأول إلى المطالب الشعبية في مواجهة "العصابة (التي تمكّنت) من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير". كما اعتبر بيان وزارة الدفاع أن البيان الذي صدر "منسوبا" لرئيس الجمهورية، يوم الاثنين الماضي، ويتحدّث عن اتخاذ قراراتٍ مهمة تخص المرحلة الانتقالية، "صدر عن جهاتٍ غير دستورية وغير مخولة". المفارقة هنا أن صالح نفسه، وبصفته رئيسا للأركان، هو من كان هدّد، في الخامس من شهر مارس/ آذار الماضي، ما يصفها الآن "المسيرات السلمية"، بالعودة إلى "سنوات الألم والجمر" التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ونتج منها مقتل أكثر من مائتي ألف شخص، بالإضافة إلى خسائر أخرى لا تُعد ولا تُحصى.
الحقيقة أن الجزائريين لن ينسوا أن "سنوات الألم والجمر" و"حقبة سفك الدماء" التي توعد
صالح "الاحتجاجات السلمية" بها، قبل أن يحاول ركوب موجتها الآن، ترتّبت على إلغاء الجيش للانتخابات التشريعية، أواخر عام 1991، وفازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، لتبدأ "العشرية السوداء"، والتي تورّط فيها الجيش في مذابح وانتهاكات مروّعة، تماماً كما تورّطت فيها تنظيماتٌ متطرّفة. وكان صالح نفسه أحد رموز تلك الفترة الحالكة في تاريخ الجزائر. قد يحاول الفاعلون تزوير التاريخ، لكن الحقائق لا تزوّر، اللهم إلا إذا أمكن طمسها.
في الحالة الجزائرية، الحقائق حاضرة لم تطمس، وإن كان هناك من يحاول القفز عنها. صالح هذا هو صنيعة بوتفليقة. هو من جاء به، عام 2013، رئيسا لأركان الجيش مكان الجنرال القوي، حينئذ، محمد العماري، الذي قاد الانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد مطلع عام 1992. ومعاً، بالإضافة إلى شقيق بوتفليقة، سعيد، الذي أصبح الرئيس الفعلي خلال سنوات مرض الرئيس، عمل الثلاثة، منذ 2013، مع حلفائهم على تفكيك وتصفية نفوذ الجنرال القوي، رئيس إمبراطورية الاستخبارات الجزائرية، الجنرال محمد مدين، المعروف بـ"الجنرال توفيق"، والذي كان فتح ملفات فساد مرتبطة بهم في سياق معركة على النفوذ. وفعلا، تمكن تحالف بوتفليقة - صالح من التخلص نهائيا من الجنرال توفيق عام 2015، واستمرت معركة التصفيات في المؤسسات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية حتى أشهر قليلة مضت.
ما يؤكد أن القيادة العسكرية الجزائرية العليا لم تتماه مع المطالب الشعبية كما تزعم، أنها، أولا، لم تتنح هي نفسها، على الرغم من أن هذا أحد مطالب الحراك الشعبي الجزائري الذي يطالب باستقالة صالح تماما، كما طالب باستقالة بوتفليقة. تمارس القيادة العسكرية العليا في الجزائر السياسة، ولا تمثل هيئة محترفة، وهذا هو منبع مطالبتها بالاستقالة. ثانيا، أن بيان صالح نفسه يؤكد، ضمنيا، أن قرار التخلي عن الرئيس العاجز، عمليا، منذ سنوات، جاء ضمن صراع القوى داخل محور بوتفليقة - صالح، حيث يشير البيان "إلى الاجتماعات المشبوهة التي تعقد في الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب، وتبني حلولاً مزعومة خارج نطاق الدستور، من أجل عرقلة مساعي الجيش الوطني الشعبي ومقترحاته لحل الأزمة. وبالتالي تأزيم الوضع أكثر فأكثر". وفي اليوم نفسه، خرج الرئيس الجزائري السابق، ليامين زروال، ليعترف بأنه التقى، في الثلاثين من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، الجنرال توفيق الذي حمل له عرضا من سعيد بوتفليقة، يقترح عليه رئاسة هيئة تسيير المرحلة الانتقالية في الجزائر بعد رحيل الرئيس، غير أنه رفض الاقتراح، كما قال. هنا أسقط في يد بوتفليقة ومعسكره، واضطر الرئيس إلى تقديم استقالته، بعد أن تخلت عنه المؤسسة العسكرية، وعجز عن إيقاع شرخٍ بين رموزها. بمعنى آخر، القيادة العسكرية لم تقفز من مركب حاشية الرئيس العاجز إلا بعد أن شارف على الغرق.
إذاً، التوجس من مزاعم المؤسسة العسكرية باحترام إرادة الشعب حقيقي ومشروع، ذلك أن هذه المزاعم قد تكون محاولة للالتفاف عليها، وربما مقدمة لانقلاب عسكري في بلدٍ يحكمه العسكر أصلا، منذ عقود طويلة. سقطت الديكورات الآن، ويبدو أن صراع القوى الداخلي قد وصل إلى مداه، والأطراف المتصارعة لا تفكر في احترام إرادة الشعب، وإنما في كيفية تطويعها
لصالحها. ولكن يبقى أملنا في الجزائر كبيرا ببعث ربيع عربي، يتلافى أخطاء ما ظنناه ربيعا أواخر عام 2010. ما يصر عليه الشعب هو الصحيح، ونبضه سليم، ويبدو أنه واعٍ لمحاولات مؤسسة العسكر "مَصْرَنَةِ" الاحتجاجات الشعبية. إن أراد الشعب الجزائري أن يملك مصيره وَيُنْجِحَ حراكه، فلا بد لمنظومة الفساد أن تمضي كلها، وليس فقط محيط بوتفليقة، وهي تبدأ بالفريق صالح، ذلك أنه هو وحاشيته آخر من يُستأمنون على إرادة الشعب الجزائري.
يبقى الآن أن ترتقي المعارضة الجزائرية إلى مستوى التحدّي، وألا تهيئ ظروفا لانقلاب عسكري أبيض أو أحمر على إرادة الشعب، بذريعة الخضوع لها. أيضا، من الضروري ألا يسمحوا بتدخل عربي، خصوصا من محور الثورات المضادة، السعودي- الإماراتي- المصري، ولا من المستعمر الفرنسي اللئيم. تجد هذه الأطراف نفسها تلقائيا في معسكر "العصابة" في الجزائر، ذلك أنها لا تريد أن تخسر امتيازاتها في البلد، كما في حالة فرنسا، في حين لا يريد معسكر الثورات المضادة العربي لأي ربيع عربي أن يزهر، ذلك أنه يهدد استقرار أنظمتهم القاحلة. وصدق الشعب الجزائري: "حبيتوا ولا كرهتو تتنحاو قاع". نعم، الجزائر ليست في حاجة إلى مجلس عسكري يأتي عبر انقلاب أبيض، كما جرى في إطاحة مبارك، ولا هي تريد انقلابا دمويا، باسم الشعب، كما فعل عبد الفتاح السيسي. أما تلك الأصوات المعارضة التي تشيد، من الآن، بموقف المؤسسة العسكرية الجزائرية، وتصدح حناجرهم: "الجيش الشعب خاوة خاوة"، فالأولى لهم أن يعتبروا من زملاء سبقوهم بالسذاجة في مصر، ممن هتفوا "الجيش والشعب إيد وحدة".
الجزائر بحاجة إلى أن يعود قرارها إلى الشعب "مصدر كل سلطة"، كما تنص المادتان السابعة والثامنة في الدستور الجزائري، والقيادة العسكرية لا تمثل تلك السلطة، ولا ينبغي لها. الجيش يقوم بمسؤولياته الوطنية، عندما يكون في ثكناته، ومرابطا على الثغور، يحمي البلاد من الأعداء الخارجيين، ويصون الشرعية الشعبية من المتربّصين بها.
جاءت استقالة بوتفليقة القسرية، يوم الثلاثاء الماضي، ساعات بعد بيان أصدرته وزارة الدفاع الوطني على لسان الفريق صالح، أعلن فيها "دعمه المسيرات السلمية" للشعب الجزائري، وأكد "على ضرورة تفعيل المواد 7 و8 و102 من الدستور، وأنه لا يمكن تصور أي حل آخر خارج نطاق الدستور". وزعم البيان أن الجيش انحاز منذ اليوم الأول إلى المطالب الشعبية في مواجهة "العصابة (التي تمكّنت) من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير". كما اعتبر بيان وزارة الدفاع أن البيان الذي صدر "منسوبا" لرئيس الجمهورية، يوم الاثنين الماضي، ويتحدّث عن اتخاذ قراراتٍ مهمة تخص المرحلة الانتقالية، "صدر عن جهاتٍ غير دستورية وغير مخولة". المفارقة هنا أن صالح نفسه، وبصفته رئيسا للأركان، هو من كان هدّد، في الخامس من شهر مارس/ آذار الماضي، ما يصفها الآن "المسيرات السلمية"، بالعودة إلى "سنوات الألم والجمر" التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ونتج منها مقتل أكثر من مائتي ألف شخص، بالإضافة إلى خسائر أخرى لا تُعد ولا تُحصى.
الحقيقة أن الجزائريين لن ينسوا أن "سنوات الألم والجمر" و"حقبة سفك الدماء" التي توعد
في الحالة الجزائرية، الحقائق حاضرة لم تطمس، وإن كان هناك من يحاول القفز عنها. صالح هذا هو صنيعة بوتفليقة. هو من جاء به، عام 2013، رئيسا لأركان الجيش مكان الجنرال القوي، حينئذ، محمد العماري، الذي قاد الانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد مطلع عام 1992. ومعاً، بالإضافة إلى شقيق بوتفليقة، سعيد، الذي أصبح الرئيس الفعلي خلال سنوات مرض الرئيس، عمل الثلاثة، منذ 2013، مع حلفائهم على تفكيك وتصفية نفوذ الجنرال القوي، رئيس إمبراطورية الاستخبارات الجزائرية، الجنرال محمد مدين، المعروف بـ"الجنرال توفيق"، والذي كان فتح ملفات فساد مرتبطة بهم في سياق معركة على النفوذ. وفعلا، تمكن تحالف بوتفليقة - صالح من التخلص نهائيا من الجنرال توفيق عام 2015، واستمرت معركة التصفيات في المؤسسات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية حتى أشهر قليلة مضت.
ما يؤكد أن القيادة العسكرية الجزائرية العليا لم تتماه مع المطالب الشعبية كما تزعم، أنها، أولا، لم تتنح هي نفسها، على الرغم من أن هذا أحد مطالب الحراك الشعبي الجزائري الذي يطالب باستقالة صالح تماما، كما طالب باستقالة بوتفليقة. تمارس القيادة العسكرية العليا في الجزائر السياسة، ولا تمثل هيئة محترفة، وهذا هو منبع مطالبتها بالاستقالة. ثانيا، أن بيان صالح نفسه يؤكد، ضمنيا، أن قرار التخلي عن الرئيس العاجز، عمليا، منذ سنوات، جاء ضمن صراع القوى داخل محور بوتفليقة - صالح، حيث يشير البيان "إلى الاجتماعات المشبوهة التي تعقد في الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب، وتبني حلولاً مزعومة خارج نطاق الدستور، من أجل عرقلة مساعي الجيش الوطني الشعبي ومقترحاته لحل الأزمة. وبالتالي تأزيم الوضع أكثر فأكثر". وفي اليوم نفسه، خرج الرئيس الجزائري السابق، ليامين زروال، ليعترف بأنه التقى، في الثلاثين من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، الجنرال توفيق الذي حمل له عرضا من سعيد بوتفليقة، يقترح عليه رئاسة هيئة تسيير المرحلة الانتقالية في الجزائر بعد رحيل الرئيس، غير أنه رفض الاقتراح، كما قال. هنا أسقط في يد بوتفليقة ومعسكره، واضطر الرئيس إلى تقديم استقالته، بعد أن تخلت عنه المؤسسة العسكرية، وعجز عن إيقاع شرخٍ بين رموزها. بمعنى آخر، القيادة العسكرية لم تقفز من مركب حاشية الرئيس العاجز إلا بعد أن شارف على الغرق.
إذاً، التوجس من مزاعم المؤسسة العسكرية باحترام إرادة الشعب حقيقي ومشروع، ذلك أن هذه المزاعم قد تكون محاولة للالتفاف عليها، وربما مقدمة لانقلاب عسكري في بلدٍ يحكمه العسكر أصلا، منذ عقود طويلة. سقطت الديكورات الآن، ويبدو أن صراع القوى الداخلي قد وصل إلى مداه، والأطراف المتصارعة لا تفكر في احترام إرادة الشعب، وإنما في كيفية تطويعها
يبقى الآن أن ترتقي المعارضة الجزائرية إلى مستوى التحدّي، وألا تهيئ ظروفا لانقلاب عسكري أبيض أو أحمر على إرادة الشعب، بذريعة الخضوع لها. أيضا، من الضروري ألا يسمحوا بتدخل عربي، خصوصا من محور الثورات المضادة، السعودي- الإماراتي- المصري، ولا من المستعمر الفرنسي اللئيم. تجد هذه الأطراف نفسها تلقائيا في معسكر "العصابة" في الجزائر، ذلك أنها لا تريد أن تخسر امتيازاتها في البلد، كما في حالة فرنسا، في حين لا يريد معسكر الثورات المضادة العربي لأي ربيع عربي أن يزهر، ذلك أنه يهدد استقرار أنظمتهم القاحلة. وصدق الشعب الجزائري: "حبيتوا ولا كرهتو تتنحاو قاع". نعم، الجزائر ليست في حاجة إلى مجلس عسكري يأتي عبر انقلاب أبيض، كما جرى في إطاحة مبارك، ولا هي تريد انقلابا دمويا، باسم الشعب، كما فعل عبد الفتاح السيسي. أما تلك الأصوات المعارضة التي تشيد، من الآن، بموقف المؤسسة العسكرية الجزائرية، وتصدح حناجرهم: "الجيش الشعب خاوة خاوة"، فالأولى لهم أن يعتبروا من زملاء سبقوهم بالسذاجة في مصر، ممن هتفوا "الجيش والشعب إيد وحدة".
الجزائر بحاجة إلى أن يعود قرارها إلى الشعب "مصدر كل سلطة"، كما تنص المادتان السابعة والثامنة في الدستور الجزائري، والقيادة العسكرية لا تمثل تلك السلطة، ولا ينبغي لها. الجيش يقوم بمسؤولياته الوطنية، عندما يكون في ثكناته، ومرابطا على الثغور، يحمي البلاد من الأعداء الخارجيين، ويصون الشرعية الشعبية من المتربّصين بها.