في زمن ماضٍ، تُعتبر "نوادي السينما" في العالم أحد أفضل الأمكنة القادرة على منح عشّاق الفنّ السابع متعة المُشاهدة السينمائية، المرفقة بتثقيف فكري وجمالي وفني وتقني متكامل. هذا حيّز يبدأ حضوره في صالة سينمائية تهتمّ بعرض الأفلام بالطريقة السينمائية التقليدية، أي ضمن شروط العرض وطقوس المُشاهدة، ويمتدّ على مسائل أخرى أساسية: مناقشة الفيلم المعروض، تبادل المعلومات والتحاليل النقدية، تواصل أكبر بين المُشاهدين الـ "سينيفيليين" أنفسهم، وبينهم وبين صنّاع الفيلم، إذ إن هناك إمكانية كبيرة لطرح أسئلة على السينمائيّ نفسه، أو قول رأي أمامه للنقاش، في حال حضوره العرض.
زمنٌ جميلٌ
الزمن ذاك جميلٌ. "نوادي السينما" تُرافق الحراك الحيوي للإنتاجات السينمائية بشكل مباشر وحثيث. إنها المدخل إلى مزيد من المعرفة والاطّلاع، وإلى متابعة دائمة لمعنى المُشاهدة ومتعتها. لم تبخل النوادي على عشّاق الفن السابع بأي شيء: تمنحهم فرصة مُشاهدة صنيع سينمائي بفضل عرض سينمائي، وتضعهم في مواجهة مباشرة مع الفن بعيداً عن التجاريّ ـ الاستهلاكي البحت. مُشاهدة مصحوبة بنقاش يؤسّس لوعي يؤدّي بالبعض إلى اختبار صناعة الفيلم بحدّ ذاتها. سينمائيون غربيون كثيرون يُراكمون وعيهم المعرفيّ للسينما عبر نواديها، فإذا بهذه الأخيرة تُشكّل لهم بطاقة دخول إلى الإخراج الإبداعي المتمركز، لغاية اليوم، في قلب الذاكرة السينمائية الدولية. يحدث هذا مع من يُصبح سينمائياً عربياً له، في الذاكرة والراهن معاً، أفلام حاضرة في الوعيين الفردي والجماعي، ومؤثّرة فعلياً وإيجابياً في الحراك الإنتاجي السينمائي العربي.
تعود ولادة "نادي السينما" إلى عام 1907، أي إلى البدايات التأسيسية الأولى للفن السابع. ففي أبريل/ نيسان 1907، يفتتح المحامي والكاتب الفرنسي إدمون بونوا ـ ليفي (1858ـ 1927) ما بات يُعرف بأول "نادٍ للسينما" (5، بولفار مونمارتر)، بهدف "حفظ المستندات والإنتاجات السينمائية كلّها"، الموجودة لغاية ذلك التاريخ، ووضعها في متناول أعضاء النادي جميعهم. يؤسّس أيضاً صالة للعرض السينمائي. عندها، تبرز المفردة "نادي السينما" للمرّة الأولى. لكن، كان على الجميع الانتظار حتى عشرينيات القرن الـ 20، كي تتوضّح صورة هذا النوع من النوادي، الذي يؤكّد حضوره الفعلي في المشهد الثقافي العام للفن السابع بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) مباشرةً.
لم يبقَ العالم العربي غريباً عن هذه الظاهرة الثقافية السينمائية الجديدة، تماماً كما لم يكن غريباً عن ولادة الفن السابع، الذي يعرف ولاداته العربية في أعوام قليلة لاحقة. لكن، إذ يولد الفن السابع العربي سريعاً، تحتاج "نوادي السينما" إلى وقت أطول كي تعثر لنفسها على حيّز جغرافي ـ ثقافي يتيح لها استكمال المشروع الإبداعي للسينما، صناعة واشتغالات وتفاصيل، علماً أن المرحلة التاريخية لولادة النوادي هذه، أو بالأحرى لحيويتها الثقافية العميقة، متمثّلة بفترتي الخمسينيات والستينيات المنصرمتين، اللتين تشهدان حراكاً ثقافياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً، يتحوّل سريعاً إلى "بيئة حاضنة" لنوادٍ سينمائية تُشارك في النقاش السينمائي أولاً، وفي النقاش الثقافي العربي العام ثانياً.
اقرأ أيضاً: عربٌ يمثّلون في أفلام غربية
بدايات عربية
مع هذا، لن يكون التأريخ الفعلي لتأسيس النوادي السينمائية العربية هذه مهمّاً هنا، لأن النقاش مُطالَبٌ بمحاولة الإضاءة على أسباب الغياب التام للنوادي حالياً في مدن عربية ذات شهرة كبيرة بها؛ بيروت مثلاً، أو غيابها شبه التام، بمعنى تراجع قدرتها على التأثير الإيجابي في التثقيف والوعي المعرفي والجمالي للسينما في دول عربية أخرى ؛ تونس والمغرب تحديداً. أما الاستعادة المختصرة لتاريخ النوادي العربية، فمعنيّة بتوضيح موقعها الثقافي، لأنها تلعب دوراً أساسياً في تفعيل العلاقة المعرفية بين السينما والمهتمّ بها، بمستويات جمّة: المُشاهدة والاطّلاع والمعرفة. النقاش والتواصل والانفتاح على القراءة أيضاً. فهم آليات الاشتغال الإخراجي والتصويري، بالإضافة إلى فهم كيفية تحقيق الأعمال الفنية والتقنية المتنوّعة لإنجاز فيلم سينمائيّ. الاستعادة مدعوة إلى اختزال واقعِ حاضرٍ في تاريخ السينما في البلاد العربية، قبل قراءة الارتباك الآنيّ الحاصل على مستوى عمل النوادي، وإن تكن تونس مثلاً مستمرّة في إيجاد موقع ما للنوادي هذه، عبر "الجامعة التونسية لنوادي السينما"، المؤسَّسة في عام 1949، والحاصلة على "تأشيرة قانونية" في فبراير/ شباط 1965.
الحراك الثقافي ـ الاجتماعي الحاصل في بيروت الستينيات تحديداً، حتى عام 1975، الذي تندلع الحرب الأهلية اللبنانية فيه، يتيح لسينمائيين لبنانيين، مخرجين ونقّاداً ومعنيين بالهمّ السينمائي، فرصة تفعيل حضور نوادٍ للسينما فيها. الحصول على أشرطة سينمائية للأفلام أساسيّ، والعرض في صالة سينمائية أساسيّ أيضاً. "نادي بيروت" يتّخذ من صالة "سينما كليمنصو" مقرّاً لعرض أفلام مُنتجة "حديثاً"، ما يعني قدرة المسؤولين عنه على مواكبة أحدث الإنتاجات السينمائية الغربية. بعض متابعيه يروون أن سينمائيين كباراً يزورون بيروت وناديها السينمائي، ويلتقون مشاهدين ومختصّين ومهتمّين وطلاباً يدرسون اختصاصات مختلفة، ويناقشون الجميع بعد عرض أفلام لهم، أمثال الفرنسي فرنسوا تروفو (1932 ـ 1984) والإيطالي بيار ـ باولو بازوليني (1922 ـ 1975) وغيرهما. معاصرو "نوادي السينما" في القاهرة وتونس العاصمة ومدن مغربية متفرّقة يتذكّرون أياماً مجيدة تصنعها النوادي تلك في أزمنة ماضية، ويؤكّدون أنها لم تكتفِ يوماً بالعرض نفسه، لأنها تتجاوزه دائماً إلى نقاش وسجال وتحليل ومواكبة، ولأنها تُساهم فعلياً في تحريض البعض على التوجّه نحو تحقيق الأفلام، بفضل المثابرة الدائمة على المُشاهدة والاطّلاع والنقاش. يقول هؤلاء إن المرحلة تلك لا تُنسى، لأنها جزءٌ من تاريخ وذاكرة: "نوادي السينما" إطار عمليّ لثقافة جدّية تتّخذ من المُشاهدة وسيطاً للفهم والتمعّن والتنقيب في المستويين الأساسيين لصناعة الفيلم: الشكل والمضمون، وإن يتغلّب المضمون على الشكل أحياناً كثيرة، جرّاء انغماس الغالبية الساحقة من المهتمّين بالفن السابع حينها بقضايا ثقافية واجتماعية وفكرية وإيديولوجية يعيشها العالم العربي في زمن الانقلابات الحاصلة فيه، وفي العالم.
تراجع وغياب
يؤدّي هذا إلى فهم أحد أبرز أسباب تراجع التأثير الثقافي الإيجابي والعميق والمهمّ لـ "نوادي السينما"، أو غيابها كلّياً. في لبنان، يُحاول كثيرون من العاملين في أندية وجمعيات ثقافية واجتماعية مختلفة، في تسعينيات القرن الـ 20 تحديداً، إحياء "نوادي السينما" في مقرّاتها، مستفيدة من تقنيات الـ "فيديو"، أجهزةً وأشرطةً. بعضها يكتفي بعرض أفلام مختلفة (سينما المؤلّف، أفلام كلاسيكية أو تجريبية، صناعة بصرية مقبلة من دول العالم الثالث وأوروبا، أعمال إيديولوجية تتناول مسائل تهتم بها الأندية والجمعيات الثقافية ـ الاجتماعية تلك... إلخ)، وبعضها الآخر يحاول استكمال المُشاهدة بالمناقشة. مأزقها كامنٌ في استعانتها بالـ "فيديو"، على نقيض تجربة وحيدة يقوم بها إدي أسطا الصحافي والإعلامي المهتمّ بالسينما، باستئجاره صالة عرض سينمائي، مُحوّلاً إياها إلى نادٍ سينمائي يعرض أفلاماً سينمائية، رغبة منه في استعادة المعنى الثقافي ـ الجمالي للنادي السينمائي. لم تنجح التجربة في تحقيق المرجوّ منها، إذ لم يكن هناك مهتمّون بهذا النوع من المُشاهدة في زمن الخروج من حرب أهلية، وبدء فترة سلم أهلي هشّ ومنقوص، وتوافر أشرطة الـ "فيديو" بكثرة.
القرصنة المفتوحة على الأفلام والأنواع السينمائية كلّها تُشكّل سبباً آخر يؤدّي إلى تراجع أهمية "نوادي السينما" ودورها في المغرب. يُضاف إليه وجود نحو 50 مهرجان متنوّع الاهتمامات، يعرض أفلاماً سينمائية في صالات سينمائية، مع أن هذه الأخيرة مُحتاجة جداً إلى تأهيل جذري كامل. "الجامعة التونسية لنوادي السينما" تحاول إيجاد مسوّغات واقعية كي تستمرّ في عملها، وسط تنامي ظاهرة التقنيات الحديثة، القادرة على منح المهتمّين جميعهم ما يصبون إليه من أفلام متنوّعة. الصالات غير التجارية، المنضوية في إطار "صالة فن وتجربة" (على غرار ما هو موجودٌ في الغرب الأوروبي تحديداً)، تكاد تكون بديلاً من "نوادي السينما"، إذ إنها تُحافظ على طقوس المُشاهدة، وتعرض أفلاماً حديثة الإنتاج، تختلف كلّياً عن التجاريّ ـ الاستهلاكي، أو تستعيد أفلاماً منتمية إلى "كلاسيكيات" السينما، عربياً ودولياً. يحدث هذا في القاهرة؛ صالة سينما "زاوية" مثلاً، وبيروت ؛"جمعية متروبوليس" المشرفة على صالة سينمائية تحمل الاسم نفسه.
هل يعني هذا أن معنى "نادي السينما" منتهٍ في زمن التكنولوجيا المتطوّرة، والانفتاح المطلق على أحداث العالم كلّه عبر وسائل تواصل جديدة ومختلفة عن السابق؟ يميل نقّادٌ ومهتمّون بالسينما في العالم العربي إلى الإقرار بأن هذه النوادي لم تعد حاجة ثقافية، ولم تعد قادرة على استكمال دورها الثقافي ـ الجماليّ، ولم تعد مطلوبة. يقول هؤلاء إن الأسباب القليلة الواردة أعلاه جزءٌ أساسيّ من الغياب شبه المطلق للنوادي السينمائية في العالم العربي، وبعضهم يؤكّد أن دور مثيلاتها في الغرب يتراجع، في مقابل "صالات فن وتجربة" مثلاً.
(كاتب لبناني)
زمنٌ جميلٌ
الزمن ذاك جميلٌ. "نوادي السينما" تُرافق الحراك الحيوي للإنتاجات السينمائية بشكل مباشر وحثيث. إنها المدخل إلى مزيد من المعرفة والاطّلاع، وإلى متابعة دائمة لمعنى المُشاهدة ومتعتها. لم تبخل النوادي على عشّاق الفن السابع بأي شيء: تمنحهم فرصة مُشاهدة صنيع سينمائي بفضل عرض سينمائي، وتضعهم في مواجهة مباشرة مع الفن بعيداً عن التجاريّ ـ الاستهلاكي البحت. مُشاهدة مصحوبة بنقاش يؤسّس لوعي يؤدّي بالبعض إلى اختبار صناعة الفيلم بحدّ ذاتها. سينمائيون غربيون كثيرون يُراكمون وعيهم المعرفيّ للسينما عبر نواديها، فإذا بهذه الأخيرة تُشكّل لهم بطاقة دخول إلى الإخراج الإبداعي المتمركز، لغاية اليوم، في قلب الذاكرة السينمائية الدولية. يحدث هذا مع من يُصبح سينمائياً عربياً له، في الذاكرة والراهن معاً، أفلام حاضرة في الوعيين الفردي والجماعي، ومؤثّرة فعلياً وإيجابياً في الحراك الإنتاجي السينمائي العربي.
تعود ولادة "نادي السينما" إلى عام 1907، أي إلى البدايات التأسيسية الأولى للفن السابع. ففي أبريل/ نيسان 1907، يفتتح المحامي والكاتب الفرنسي إدمون بونوا ـ ليفي (1858ـ 1927) ما بات يُعرف بأول "نادٍ للسينما" (5، بولفار مونمارتر)، بهدف "حفظ المستندات والإنتاجات السينمائية كلّها"، الموجودة لغاية ذلك التاريخ، ووضعها في متناول أعضاء النادي جميعهم. يؤسّس أيضاً صالة للعرض السينمائي. عندها، تبرز المفردة "نادي السينما" للمرّة الأولى. لكن، كان على الجميع الانتظار حتى عشرينيات القرن الـ 20، كي تتوضّح صورة هذا النوع من النوادي، الذي يؤكّد حضوره الفعلي في المشهد الثقافي العام للفن السابع بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) مباشرةً.
لم يبقَ العالم العربي غريباً عن هذه الظاهرة الثقافية السينمائية الجديدة، تماماً كما لم يكن غريباً عن ولادة الفن السابع، الذي يعرف ولاداته العربية في أعوام قليلة لاحقة. لكن، إذ يولد الفن السابع العربي سريعاً، تحتاج "نوادي السينما" إلى وقت أطول كي تعثر لنفسها على حيّز جغرافي ـ ثقافي يتيح لها استكمال المشروع الإبداعي للسينما، صناعة واشتغالات وتفاصيل، علماً أن المرحلة التاريخية لولادة النوادي هذه، أو بالأحرى لحيويتها الثقافية العميقة، متمثّلة بفترتي الخمسينيات والستينيات المنصرمتين، اللتين تشهدان حراكاً ثقافياً وفكرياً وسياسياً واجتماعياً، يتحوّل سريعاً إلى "بيئة حاضنة" لنوادٍ سينمائية تُشارك في النقاش السينمائي أولاً، وفي النقاش الثقافي العربي العام ثانياً.
اقرأ أيضاً: عربٌ يمثّلون في أفلام غربية
بدايات عربية
مع هذا، لن يكون التأريخ الفعلي لتأسيس النوادي السينمائية العربية هذه مهمّاً هنا، لأن النقاش مُطالَبٌ بمحاولة الإضاءة على أسباب الغياب التام للنوادي حالياً في مدن عربية ذات شهرة كبيرة بها؛ بيروت مثلاً، أو غيابها شبه التام، بمعنى تراجع قدرتها على التأثير الإيجابي في التثقيف والوعي المعرفي والجمالي للسينما في دول عربية أخرى ؛ تونس والمغرب تحديداً. أما الاستعادة المختصرة لتاريخ النوادي العربية، فمعنيّة بتوضيح موقعها الثقافي، لأنها تلعب دوراً أساسياً في تفعيل العلاقة المعرفية بين السينما والمهتمّ بها، بمستويات جمّة: المُشاهدة والاطّلاع والمعرفة. النقاش والتواصل والانفتاح على القراءة أيضاً. فهم آليات الاشتغال الإخراجي والتصويري، بالإضافة إلى فهم كيفية تحقيق الأعمال الفنية والتقنية المتنوّعة لإنجاز فيلم سينمائيّ. الاستعادة مدعوة إلى اختزال واقعِ حاضرٍ في تاريخ السينما في البلاد العربية، قبل قراءة الارتباك الآنيّ الحاصل على مستوى عمل النوادي، وإن تكن تونس مثلاً مستمرّة في إيجاد موقع ما للنوادي هذه، عبر "الجامعة التونسية لنوادي السينما"، المؤسَّسة في عام 1949، والحاصلة على "تأشيرة قانونية" في فبراير/ شباط 1965.
الحراك الثقافي ـ الاجتماعي الحاصل في بيروت الستينيات تحديداً، حتى عام 1975، الذي تندلع الحرب الأهلية اللبنانية فيه، يتيح لسينمائيين لبنانيين، مخرجين ونقّاداً ومعنيين بالهمّ السينمائي، فرصة تفعيل حضور نوادٍ للسينما فيها. الحصول على أشرطة سينمائية للأفلام أساسيّ، والعرض في صالة سينمائية أساسيّ أيضاً. "نادي بيروت" يتّخذ من صالة "سينما كليمنصو" مقرّاً لعرض أفلام مُنتجة "حديثاً"، ما يعني قدرة المسؤولين عنه على مواكبة أحدث الإنتاجات السينمائية الغربية. بعض متابعيه يروون أن سينمائيين كباراً يزورون بيروت وناديها السينمائي، ويلتقون مشاهدين ومختصّين ومهتمّين وطلاباً يدرسون اختصاصات مختلفة، ويناقشون الجميع بعد عرض أفلام لهم، أمثال الفرنسي فرنسوا تروفو (1932 ـ 1984) والإيطالي بيار ـ باولو بازوليني (1922 ـ 1975) وغيرهما. معاصرو "نوادي السينما" في القاهرة وتونس العاصمة ومدن مغربية متفرّقة يتذكّرون أياماً مجيدة تصنعها النوادي تلك في أزمنة ماضية، ويؤكّدون أنها لم تكتفِ يوماً بالعرض نفسه، لأنها تتجاوزه دائماً إلى نقاش وسجال وتحليل ومواكبة، ولأنها تُساهم فعلياً في تحريض البعض على التوجّه نحو تحقيق الأفلام، بفضل المثابرة الدائمة على المُشاهدة والاطّلاع والنقاش. يقول هؤلاء إن المرحلة تلك لا تُنسى، لأنها جزءٌ من تاريخ وذاكرة: "نوادي السينما" إطار عمليّ لثقافة جدّية تتّخذ من المُشاهدة وسيطاً للفهم والتمعّن والتنقيب في المستويين الأساسيين لصناعة الفيلم: الشكل والمضمون، وإن يتغلّب المضمون على الشكل أحياناً كثيرة، جرّاء انغماس الغالبية الساحقة من المهتمّين بالفن السابع حينها بقضايا ثقافية واجتماعية وفكرية وإيديولوجية يعيشها العالم العربي في زمن الانقلابات الحاصلة فيه، وفي العالم.
تراجع وغياب
يؤدّي هذا إلى فهم أحد أبرز أسباب تراجع التأثير الثقافي الإيجابي والعميق والمهمّ لـ "نوادي السينما"، أو غيابها كلّياً. في لبنان، يُحاول كثيرون من العاملين في أندية وجمعيات ثقافية واجتماعية مختلفة، في تسعينيات القرن الـ 20 تحديداً، إحياء "نوادي السينما" في مقرّاتها، مستفيدة من تقنيات الـ "فيديو"، أجهزةً وأشرطةً. بعضها يكتفي بعرض أفلام مختلفة (سينما المؤلّف، أفلام كلاسيكية أو تجريبية، صناعة بصرية مقبلة من دول العالم الثالث وأوروبا، أعمال إيديولوجية تتناول مسائل تهتم بها الأندية والجمعيات الثقافية ـ الاجتماعية تلك... إلخ)، وبعضها الآخر يحاول استكمال المُشاهدة بالمناقشة. مأزقها كامنٌ في استعانتها بالـ "فيديو"، على نقيض تجربة وحيدة يقوم بها إدي أسطا الصحافي والإعلامي المهتمّ بالسينما، باستئجاره صالة عرض سينمائي، مُحوّلاً إياها إلى نادٍ سينمائي يعرض أفلاماً سينمائية، رغبة منه في استعادة المعنى الثقافي ـ الجمالي للنادي السينمائي. لم تنجح التجربة في تحقيق المرجوّ منها، إذ لم يكن هناك مهتمّون بهذا النوع من المُشاهدة في زمن الخروج من حرب أهلية، وبدء فترة سلم أهلي هشّ ومنقوص، وتوافر أشرطة الـ "فيديو" بكثرة.
القرصنة المفتوحة على الأفلام والأنواع السينمائية كلّها تُشكّل سبباً آخر يؤدّي إلى تراجع أهمية "نوادي السينما" ودورها في المغرب. يُضاف إليه وجود نحو 50 مهرجان متنوّع الاهتمامات، يعرض أفلاماً سينمائية في صالات سينمائية، مع أن هذه الأخيرة مُحتاجة جداً إلى تأهيل جذري كامل. "الجامعة التونسية لنوادي السينما" تحاول إيجاد مسوّغات واقعية كي تستمرّ في عملها، وسط تنامي ظاهرة التقنيات الحديثة، القادرة على منح المهتمّين جميعهم ما يصبون إليه من أفلام متنوّعة. الصالات غير التجارية، المنضوية في إطار "صالة فن وتجربة" (على غرار ما هو موجودٌ في الغرب الأوروبي تحديداً)، تكاد تكون بديلاً من "نوادي السينما"، إذ إنها تُحافظ على طقوس المُشاهدة، وتعرض أفلاماً حديثة الإنتاج، تختلف كلّياً عن التجاريّ ـ الاستهلاكي، أو تستعيد أفلاماً منتمية إلى "كلاسيكيات" السينما، عربياً ودولياً. يحدث هذا في القاهرة؛ صالة سينما "زاوية" مثلاً، وبيروت ؛"جمعية متروبوليس" المشرفة على صالة سينمائية تحمل الاسم نفسه.
هل يعني هذا أن معنى "نادي السينما" منتهٍ في زمن التكنولوجيا المتطوّرة، والانفتاح المطلق على أحداث العالم كلّه عبر وسائل تواصل جديدة ومختلفة عن السابق؟ يميل نقّادٌ ومهتمّون بالسينما في العالم العربي إلى الإقرار بأن هذه النوادي لم تعد حاجة ثقافية، ولم تعد قادرة على استكمال دورها الثقافي ـ الجماليّ، ولم تعد مطلوبة. يقول هؤلاء إن الأسباب القليلة الواردة أعلاه جزءٌ أساسيّ من الغياب شبه المطلق للنوادي السينمائية في العالم العربي، وبعضهم يؤكّد أن دور مثيلاتها في الغرب يتراجع، في مقابل "صالات فن وتجربة" مثلاً.
(كاتب لبناني)